التصدي لتركيا: تأشيرة بشار الأسد للعودة إلى الحضن العربي
بهذه الكلمات أعلنت وزارة الخارجية الإماراتية إعادة علاقاتها رسميًّا مع سوريا، أمس الخميس 27 ديسمبر /كانون الأول 2018، مقدمةً هدية لبشار الأسد في إعلانٍ نهائيٍ لموت الثورة التي خلفت منذ بدايتها في مارس/ آذار 2011 وحتى الشهر ذاته من عام 2018، حوالي 353 ألف قتيل، وثلاثة ملايين مصاب، و6.6 مليون نازح ومشرد، بخلاف الفارين خارج البلاد والمقدر عددهم بحوالي 5.4 مليون فرد.
الدول العربية وآليات العودة
أخذت الثورة السورية مسارًا مختلفًا عن باقي شقيقاتها من ثورات الربيع العربي؛ تمت عسكرتها سريعًا. وتدخل كثيرون، ليس لدعم السوريين وإنما لأغراضٍ خاصة، غير آبهين لمصير 23 مليون سوري.
لم يكتفِ هؤلاء بالإدانات أو العقوبات غير الفعالة على النظام، إذ لا بد من الإطاحة به على طريقته، بإطلاق آلة الموت. بدأ الدعم العسكري والسياسي للوكلاء، فالسعودية ومعها بعض الدول الخليجية في البداية دعمت العناصر السلفية في محاولة لإسقاط النظام وتنصيب وكيلها، أو على الأقل يكون لها دور في تشكيل النظام الجديد. لم يفلح دعمها لـ «جيش الإسلام» الذي كان يعتبر أكبر قوة عسكرية على الأرض بعد الجيش النظامي، فسرعان ما وأدت روسيا هذا التشكيل بعد دخولها عسكريًّا على خط القتال في سبتمبر/ أيلول 2015.
من جانبهما كانت قطر وتركيا متوحدتين في الهدف بدعم فصائل مسلحة معتدلة، إلا أن انقلاب 2016 على الرئيس رجب طيب أردوغان جعله يعيد حساباته في دعم المعارضة، ليبدأ رحلة التخلي التدريجي عنها مقابل إرضاء روسيا ودعمها له، أصبح لا يريد سوى منع إقامة دولة كردية على حدوده، الأمر الذي ساعده فيه فلاديمير بوتين بالسماح له بشن عملية درع الفرات في أغسطس/ آب 2016، ولاحقًا عملية غصن الزيتون في يناير/ كانون الثاني 2018.
استطاع أردوغان بضوء روسي السيطرة على منطقة تمتد من جرابلس في أقصى ريف حلب الشمالي الشرقي مرورًا بمدينة أعزاز شمالي حلب، وصولاً إلى منطقة عفرين. ولم تكتفِ أنقرة بالسيطرة، بل اتبعت سياسة التتريك، وتوطين الموالين لها، ليكونوا مستقبلًا شوكة لها في سوريا، ما يمنع إلى الأبد أي تهديد كردي.
خريطة توزيع النفوذ في الشمال السوري
أدركت الدول العربية أن نظام الأسد لن يسقط وإن رحل الأسد مستقبلًا، وبالتالي من الأفضل العودة إلى سياسات ما قبل 2011، وهي الاحتواء وإدماجه اقتصاديًّا في المنطقة قدر الإمكان، بدلًا من تكرار خطأ العراق، وذلك بتركه ساحة خالصة لإيران، ومن ناحية الشمال تتحكم تركيا في سوريا عبر قواتها والموالين لها، فالأنظمة العربية لا غضاضة لديها في التعامل مجددًا مع الأسد رغم القتلى والجرحى الذين تاجروا بدمائهم لزمن.
إلى جانب ذلك تريد الأنظمة العربية وأد مفهوم الثورات والانتفاضات في المنطقة، فقد أثبت الربيع العربي أن دول المنطقة تتأثر ببعضها البعض، بغض النظر عن النتائج التي حققتها كل ثورة، إلا أن هذه النتائج هددت الأنظمة القائمة والداعمين لها وكلفتهم الكثير.
في اليوم الذي أعادت فيه الإمارات فتح سفاراتها بدمشق، تلتها مملكة البحرين، وسبق ذلك بأيام أول زيارة لرئيس عربي لسوريا منذ 2011، وهو الرئيس السوداني عمر البشير، الذي هبط في دمشق على متن طائرة روسية، ليتبادل الابتسامات وعبارات الدعم والتأييد للأسد، متجاهلًا الحديث عن مصالحة سياسية بين النظام وما تبقى من المعارضة، فقد أتى بحثًا عن أي دعم روسي في مواجهة واشنطن، بجانب كونه مبعوثًا لدول الخليج التي تريد تطبيع العلاقات مجددًا مع الأسد.
اقرأ أيضًا: ماذا أراد الرئيس السوداني من زيارته لسوريا الأسد؟
لم يأت التغير الإماراتي فجأة، فأبو ظبي أصبح موقفها منذ سنوات متفاهمًا مع مصر التي تمسكت بالحل السلمي للأزمة ووحدة الأراضي السورية، لهذا تخلت عن دعم المعارضة سياسيًّا وعسكريًّا، وابتعدت عن الرؤية السعودية المتمسكة بمبدأ «رحيل الأسد سلميًّا أو عسكريًّا».
ومع تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد في يونيو/ حزيران 2017 تغير موقف المملكة كثيرًا تجاه سوريا، وبدأت الرياض تتخلى عن خطاب القوة. بعد ولاية محمد بن سلمان العهد بأيام أعلن جيش الإسلام حل نفسه تحت مزاعم الاندماج في جيش وطني موحد، وهذا لم يحدث.
وبالتالي مثَّل حل جيش الإسلام تخلي السعودية عمليًّا عن المعارضة، فقد كان ذراعها العسكرية هناك، ومثل هذه الصراعات لا يحمسها سوى الرصاص ورائحة الموتى. كانت دول الخليج سيما السعودية وقطر لاعبًا أساسيًّا في تسليح المعارضة وخلق كيانات عسكرية قوية، وهم من حركوا قرار تجميد عضوية سوريا بالجامعة العربية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، كانت حينها مصر منكفئة ذاتيًّا على شأنها الداخلي في حقبة المجلس العسكري.
الآن بدأت الدول الخليجية تعيد علاقتها بسوريا، بما يعني عمليًّا انتهاء المقاطعة العربية لسوريا، فمعظم من أقدم على المقاطعة فعل ذلك طمعًا في إرضاء الخليج والحصول على الثمن، والباقي لا حول له ولا قوة.
تركيا وإيران: عدو دائم وشريك مخالف
أضحت تركيا وإيران من أكثر الدول كراهية من قبل الأنظمة العربية بعد عام 2011، قبل ذلك كانت هناك خلافات يتم إدارتها براجماتيًّا لتحقيق مصالح اقتصادية، وصولًا لتفاهمات سياسية في بعض القضايا، إلا أنه بعد 2011 أضحى الخلاف يهدد الأنظمة السياسية ذاتها، مع استغلال أنقرة وطهران لثورات الربيع لاستهداف هذه الأنظمة والحكومات الموالية لها وتهديدها بشكل مباشر أو عبر حروب الوكالة.
بالنسبة لإيران ترجع بدايات العداوة معها إلى الثورة الإسلامية عام 1979، ظلت حدة العداء تخفت حينًا وتزداد حينًا، سيما مع دول الخليج العربي، ثم تصاعدت حدة الخلافات مع شروع إيران في برنامجها النووي لامتلاك منظومة سلاح نووي، حاول المال الخليجي محاصرة طهران بالتعاون سياسيًّا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للحيلولة دون إتمام الأمر.
خيب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما آمال حلفائه، ومنح طهران اتفاقًا عام 2015، لم تكن تحلم به، بل اتهم بعض دول الخليج بنشر التطرف، الأمر الذي اعتبره الخليج طعنة في الظهر. كافأهم القدر بترامب، الذي أتى ونسف الاتفاق، بحجة حماية مصالح الحلفاء والولايات المتحدة، وأعاد عجلة العقوبات على طهران، وفي هذا نجاح مؤقت لدول الخليج.
حاصرت إيران الخليج في عقر داره ونفوذه بدايةً من عام 2011، دعمت الاضطرابات في البحرين، وتوغلت في العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، زاد نفوذها بعد 2011 باستغلال ظهور تنظيم داعش عام 2014، والتواجد عسكريًّا هناك، خلافًا لهيمنتها على القرار اللبناني عن طريق حزب الله، ثم اليمن الذي شكل مقبرة لدول الخليج والسعودية بشكل أخص، وذلك بدعم انقلاب جماعة الحوثي والرئيس السابق علي عبد الله صالح عام 2014، على الرئيس منصور هادي، لتدخل بعدها السعودية في حرب مفتوحة في اليمن بداية من مارس/ آذار 2015، لم تنتهِ بعد، أو تحقق إنجازًا قويًا على الأرض.
بالنسبة لتركيا، فتدخلت في المنطقة العربية إبان الربيع العربي لدعم بعض الحلفاء في سوريا وليبيا ومصر، وقفت إلى جانب قطر، ودعما معًا الإسلام السياسي، وصل الأمر إلى إقامة قاعدة عسكرية هناك رغم الرفض الخليجي، الأمر الذي يمثل تهديدًا مباشرًا له.
حاولت بعض دول الخليج وخاصة الإمارات استغلال انقلاب 2016 على أردوغان إلا أنه فشل، الأمر الذي زاده عداءً ضدها، وتحول الخلاف إلى قضية وجودية أي القضاء على النظام السياسي بالكامل وليس فقط المناكفة، لتدخل تركيا أردوغان في صراع مع الإمارات والسعودية (محمد بن سلمان)، واستغلالها مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة بإسطنبول أكتوبر/ تشرين أول 2018، وتشويه سمعة ولي العهد وتوظيفها من أجل الإطاحة به خير دليل، فكان من الممكن معالجة الأزمة مع الرياض، ولولا ضغط ترامب لصالح محمد بن سلمان لتضرر كثيرًا.
ستكون روسيا بوابة عودة الدول العربية إلى سوريا، فهي صاحبة الكلمة الأولى وأصبحت الحكم بعد أن كانت الخصم، ومن مصلحة موسكو حاليًا إعادة دمج سوريا بالمنطقة، بخلاف استغلال أموال الخليج في عمليات إعادة الإعمار، لكن ذلك لن يكون على حساب حليفتها الأولى طهران، ثم شريكتها المتأرجحة تركيا، فدول الخليج تدور في الفلك الأمريكي أيًا كان موقفها، بالتالي ستتعاون روسيا بحذر مع الدول العربية في سوريا، وقد يمتد ذلك لتحجيم النفوذ الإيراني، فهي لا تريد أن ترتكب خطأ واشنطن في العراق، وتترك دمشق لطهران.
أما النظام السوري فليس من مصلحته استمرار حالة العداء والعزلة من قبل الأنظمة العربية، فوقوف الدول العربية سيما الخليجية ضده منذ البداية كلفه كثيرًا، من الأفضل على الأقل كسر عدائها، لأنه من الصعب إقامة شراكة معهم في ظل حلفه الاستراتيجي مع طهران، كما يمنحه هذا الأمر قوة أيضًا في مواجهة تركيا التي ما زالت تهدده من الشمال، فمن قبل كانت حليفًا مع بعض دول الخليج ضده.
الدول العربية تعيد تجديد دماء الأسد
طالب البرلمان العربي في ديسمبر/ كانون الأول الحالي بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، الأمر الذي يمثل إقرارًا بشرعية نظام الأسد والاعتراف به مجددًا، وفي المقابل إصدار شهادة وفاة الثورة السورية.
لهذا جاءت زيارة علي المملوك رئيس مكتب الأمن الوطني السوري إلى القاهرة عقب زيارة البشير لدمشق مباشرةً، ولقاؤه برئيس المخابرات المصري مدير مكتب الرئيس، اللواء عباس كامل، لوضع اللمسات النهائية لإنهاء عزلة سوريا، والتفاهم مع الرياض وأبو ظبي، فمصر منذ البداية كان لديها تنسيق مع سوريا خاصة فيما يتعلق بالجماعات المسلحة وانتقال العناصر الإرهابية بين البلدين، خاصة في سيناء.
وفي قرارها بتجميد عضوية سوريا عام 2011 اشترطت الجامعة العربية على نظام الأسد تنفيذ ما عرف وقتها ببنود المبادرة العربية لتفعيل عضويته، من بينها وقف أعمال العنف، وضمان حرية التظاهر، ودعوة المعارضة للحوار، إلا أن الحج العربي لدمشق الآن لن يعبأ بهذه الشروط، فالتظاهر ليس مسموحًا به في المنطقة برمتها.
وقريبًا يتوج هذا الحج بعودة الأسد خلال شهور للجامعة العربية، ليجلس على كرسيه منتشيًا بالنصر ليس فقط في الداخل وإنما على من عزلوه ونبذوه، ورغم رمزية الجامعة العربية، وعدم فعاليتها في الكثير من الأزمات، إلا أن عودة الأسد إليها ستمثل انتصارًا سياسيًّا ومعنويًّا، فهو لم يمنحهم أي شيء طلبوه حتى الآن.
وسريعًا ما يجني الأسد ثمار التقدم، فاليوم 28 ديسمبر/ كانون الأول 2018، طالبت الجماعات الكردية في منبج النظام السوري بحمايتهم من تركيا التي حشدت قواتها لدخولها، ودخلها الأسد دون عناء يذكر، وهذا ما ترجوه الدول العربية المعادية لتركيا، أما أنقرة فكانت لا تريد في البداية إلا منع قيام دولة كردية على حدودها، ومع اضطراب الأوضاع طمعت فيما هو أكثر، بضم أجزاء من سوريا أو على الأقل التواجد فيها فعليًّا عبر وكلائها، بالتالي هي تفضل سيطرة الأسد على المناطق الكردية، فسبق أن تعاونت معه عبر روسيا وإيران وسلمته قلب المعارضة وهي محافظة حلب، ثم أوقفت إمدادات السلاح عنهم مما سرع مهمته في استعادة ما ضاع منه.
بالتالي تتجه الأوضاع في سوريا إلى نمط ما قبل 2011، الدول العربية خاصة الخليجية ستتعامل بنمط الاحتواء والعلاقات الاقتصادية، أما تحالف نظام الأسد مع طهران فلن ينفك لصالح العرب، وإن حاول الموازنة بينهما كما كان في السابق، بالنسبة لتركيا فستتكفل روسيا بأمرها، وستزيل مخاوفها من الدولة الكردية التي تلاشت بعد تخلي الجميع عنها، وستضمن مصالحها.