الكونت دي مونت كريستو: أوديسا العصر الحديث
خلَّد ألكسندر دوماس (1802/ 1870)، الكاتب الفرنسي الشهير، اسمه برائعته «الكونت دي مونت كريستو». فهي درة تاج أعماله، وأكثرها ترجمةً إلى اللغات الحية، وليس غريبًا أن ولع الناس بهذه القصة منذ صدورها للمرة الأولى عام 1844 ما يزال يلقي بأصدائه إلى يومنا هذا، إذ ليس من قبيل المصادفة إجماع النقاد على اختيار فيلم «الخلاص من شاوشانك» (The Shawshank Redemption) المأخوذ عن قصة «ريتا هيوراث والخلاص من شاوشانك» (Rita Hayworth and Shawshank Redemption) للروائي الأمريكي استيفن كينج (Stephen King)، المأخوذة بدورها عن رواية «الكونت دي مونت كريستو» لدوماس، كأعظم الأفلام في تاريخ السينما، وهو أمر يصدقه حجم المبيعات الخرافية التي حققتها أسطوانات ذلك الفيلم. كما أنه الفيلم صاحب التقييم الأعلى في موقع (IMDB). إن من يتشاركون الشغف بتلك الأسطورة الرائعة كُثر، بل في الواقع هم أكثر مما كنت أتوقع!.
«الكونت دي مونت كريستو» وأصولها العربية!
حاولت كثيرًا تلمس أصول رواية «الكونت دي مونت كريستو» التي تدور أحداثها في مرسيليا إبان الصراع بين نابليون بونابرت ولويس الثامن عشر على الحكم. بادئ ذي بدء يغص التاريخ بعشرات الملاحم والأساطير والروايات الحقيقية عن حكام ومسؤولين خُلعوا ونُكِّل بهم ثم عادوا إلى مناصبهم وانتقموا من ظالميهم، وقصص الصراع بين الخير والشر لا تنتهي، فثم مئات القصص هنا وهناك في هذا الصدد في كل ثقافة كما في كل عصر. وفي كل مرة كنت أبحث فيها عن أصول لرائعة دوماس كانت السيرة الهلالية هي أول ما يتبادر إلى ذهني، والطريف أن أوجه الشبه بين السيرة الهلالية وبين أمير الانتقام «الكونت دي مونت كريستو» قد جالت أيضًا في خيال مُعربًا القصة [يوسف جوهر ويوسف عيسى] عندما أطلقا على بطلهما اسم حسن الهلالي.
وقد تمثل سيرة ريتشارد قلب الأسد -الذي حاول استعادة عرشه من أخيه جون المغتصب عقب عودته من الأراضي المقدسة، لكنه لم يوفق ومات غريبًا مظلومًا أقرب إلى ميتة الشهداء في المتخيل الأوروبي أصلاً مفترضًا للرواية. وقد تكون تلك الزيارة التي قام بها منسي موسى -سلطان مالي- إلى القاهرة في عصر سلاطين المماليك، وبذخه وإنفاقه الأسطوري للمال الذي قارب حد السفه، فتتسبب في انهيار سعر صرف الذهب في أسواق الصرف بالقاهرة إلى حد وصول الدينار الذهبي إلى 6 دراهم من الفضة وفقًا للمقريزي. أقول قد تكون هذه الزيارة -التي وصلت أخبارها إلى أوروبا ترفل في ثياب شبه أسطورية عن طريق القناصل الأوروبيين في القاهرة والإسكندرية- تحمل أوجه شبه بثراء وبذخ «الكونت دي مونت كريستو» الزائر النبيل الغامض الذي لا يقيم للمال وزنًا، والقادم من مكان ناءٍ بعيد، يعرف الجميع ولا يعرف أحدٌ أنه السجين الفار «إدمون دانتيس» الذي عاد لينتقم من خصومه، ويذيقهم من الكأس نفسها الذي تجرع مرارتها على أيديهم.
وقد تكون رائعة ألكسندر دوماس مبنية على أُسس حقيقية بعض الشيء، إذ يقال إن والد الكسندر دوماس – وكان يدعى ألكسندر دوماس أيضًا – كان ضابطًا مغوارًا مشهودًا له بالشجاعة والإقدام في الجيش الفرنسي في عصر نابليون بونابرت (لاحظ أن دوماس الابن قد اختار عصر نابليون بالذات زمنًا لها)، سافر دوماس الأب مع نابليون في حملته الشهيرة على مصر، وإبان العودة جنحت به السفينة التي كانت تقله ووقع في أسر الإيطاليين هو وعالم جيولوجي يدعى ديودات دي دولوميو (Déodat de Dolomieu)، دي دولوميو كان جيولوجيًا بارزًا ضمن فريق العلماء الذين رافقوا بونابرت في حملته على مصر.
على أية حال فقد سجن الضابط والعالم معًا لمدة ناهزت ثمانية عشر شهرًا. هذا القسم الواقعي قد يكون أساس القسم الأول من القصة، السجين المظلوم والحكيم المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة. ولكن ماذا عن القسم الثاني؟، ماذا عن أمير الانتقام؟، لقد كان دوماس الأب في مصر، وبالتأكيد سمع السيرة الهلالية من فم أحد عازفي الربابة، أو على الأقل سمع عنها، وقد يكون قد حدَّث ألكسندر دوماس الابن عنها. إذا افترضنا أن هذا قد حدث فربما نكون قد أجبنا عن السؤال المتعلق بأصل الرواية، بل ربما نكون قد عللنا أيضًا سر تسمية دوماس للسفينة التي كان دانتيس ربانًا لها باسم «فرعون»، واسم خادم دانتيس (النوبي) علي، وسر إشادة ألكسندر دوماس في ثنايا الرواية بالمصريين مرارًا، بل وربما عللنا أيضًا سر تفوق التعريب (في أمير الانتقام) في كثير من النواحي عن القصة الأصلية، إذ ربما كانت بضاعتنا ورُدَّت إلينا دون أن ندري.
أمير الانتقام
سيكون من قبيل السخافة هنا أن ألخص قصةً قرأها وعرف أدق تفاصيلها ما يزيد عن ثلاثة أرباع سكان الكوكب، في حين يبدو عنوانها مألوفًا جدا للربع المتبقي. بدلًا من ذلك سأسرد بعض ملاحظاتي على بعض المعالجات السينمائية للرواية، وهي ملاحظات مشاهد، لا ترقى -أزعم- إلى حد النقد بالمعنى الذي يحمله ذلك الاصطلاح. ولا يمكنني أن أتعرض لهذه الأعمال جميعًا على كثرتها، ومن ثم فقد اقتصرت معالجتي على نموذجين فحسب، أولهما محلي والآخر عالمي، أحدهما اقتبس على نحو مباشر، والآخر مع التحوير.
«أمير الانتقام» هو فيلم قام بتجسيده الممثل المبدع أنور وجدي، وقام بكتابة السيناريو والحوار له كل من يوسف جوهر ويوسف عيسى بمشاركة من مخرج العمل هنري بركات، وقد عرض للمرة الأولى بدور العرض بالقاهرة عام 1951.
الفيلم لا شك ساحر يأخذ بلب مُشاهده، يبدأ تتر الفيلم بعبارة أن قصص الظلم تتشابه على مر العصور، ويبرر أصحابها سبب اختيارهم لعصر المماليك دون غيره زمانًا مناسبًا لقصتهم، لكنك لا تلبث أن تكتشف أن العصر العثماني هو زمن القصة الفعلي عندما تستغرق في أحداث الفيلم، إذ تصطدم بشخصية الوالي (وليس السلطان؟!)، كما تسمع عبارة «الباب العالي» على لسان الهلالي في مناظرته مع شاهين بك. ولكن لا بأس، لا ينطوي ذلك على خطأ جسيم، فقد استمر المماليك في حكم مصر في ظل بني عثمان، والعبارات التي بدأ بها تتر الفيلم تشير ولا شك إلى سعي صناع الفيلم لتجنب مصير فيلم «لاشين» الذي حُظر عرضه عام 1938، وهو فيلم دارت أحداثه أيضًا في عصر المماليك، وحمل مضامين لم ترُق للسلطة آنذاك.
يمثل أمير الانتقام تمصيرًا بارعًا للقصة الأصيلة، ومزجًا بديعًا للتراث الشرقي والغربي معًا في خليط مذهل، فنرى البطل قد حمل اسم حسن الهلالي (نرى في الفيلم أثر ملحمة أبي زيد الهلالي ونضاله ضد أعدائه، وقد استحضرها المعربان سواء في اسم البطل أو عندما لخصا أحداث الرواية في الأنشودة القصيرة على أوتار الربابة والتي عرضها لضيوفه ثم سأل كل واحد منهم عما كان ليفعله لو كان في مكان أبي زيد الهلالي). كما استعار الفيلم أيضًا عناصر من قصة روميو وجولييت (مشهد تسلق الهلالي الشجرة إلى نافذة الحبيبة وقذفه بالخنجر الذي أصاب النافذة على يد غريمه). وهناك مشهد آخر مستوحى من مسرحية فاوست المشهورة لجوته، وهو مشهد دخول بدران صاحب الشرطة الزنزانة على أخيه عبد الجليل وبيده شعلة بينما عبد الجليل مستلقٍ على فراشه.
تفوّق «بركات» على نفسه في أمير الانتقام، فترى المتآمرين بليل يتقابلون في الحانة، وبعد تبادل التحيات لا تعبأ بهم الكاميرا التي تنتقل إلى عازف الربابة وهو ينشد على أنغامها «ليه منكونش إخوة يا ابن الكرام»، ثم تعود الكاميرا إلى المتآمرين ويعلو صوتهم وهم يناقشون تفاصيل مؤامرتهم، بينما يخفت صوت عازف الربابة في الخلفية على نحو متزايد وبالكاد تتبين أنه لا يزال يشدو لكنك لا تميز أبدًا ماذا يقول، وهكذا تصلك رسالة مبطنة أن نصيحة ذلك العازف قد ذهبت أدراج الرياح أمام إصرار هؤلاء الأنذال على التآمر على الفتى الطيب.
بركات مخرج يهتم بأدق التفاصيل، وهو مثال رائع في إدارة المجاميع وحركة الكاميرا. في مشهد حفل الزفاف على سبيل المثال تُلقي ياسمينة (مرسيدس في الرواية الأصلية) بالورود على زوجها الجالس بجوار الشيخ أبي النجا (والدها)، فيبادلها حسن التحية ويرد عليها بنظرة محملة بالأشواق. هنا يلاحظ الشيخ والد العروس هذه التصرفات، لكنك تلحظ بوضوح تحرجه أن يرفع عينه باتجاه شرفة الحريم لينهر ابنته ولو بنظرة عين، فلا تدري إن كان رفع العين إلى منظرة الحريم عملاً لا يليق بشيخ في مقامه، أو أنه بات يسلّم الآن أنه لا ولاية له على ابنته التي باتت الآن في عصمة رجل جالس بجواره.
بدلاً من ذلك يقوم بلكز حسن بكوعه ولسان حاله (يكفي، هذا لا يليق في حضور الناس) فيشيح حسن بيده بما معناه (ماذا أفعل هي التي تلقي بالورد)، مثل هذا الإبداع في رصد الكاميرا تفاصيل دقيقة في حفل صاخب لتصل الرسالة واضحة للمشاهد لا يمكن أن يخرج بهذا الإتقان إلا من مخرج بحجم بركات. بل على الرغم من أن المخرج يوقن أن التفاصيل الصغيرة تضيع مع كاميرات الأبيض والأسود، فلم يهمل صبغ يد أنور وجدي لتبدو قذرة متناسبة مع أجواء السجن في أكثر من مشهد أبرزها وهو يشرب الماء بنهم ثم يبحث عن الطعام ليستعيد قوته ليتسنى له مساعدة ذلك السجين الآخر الذي ينقب سور السجن ناشدًا الحرية.
كما وظفت الموسيقى التصويرية توظيفًا ممتازًا في أكثر من موقف أبرزها ذلك الإيقاع المميز في لحظة العثور على الكنز والتي تنبئ بوضوح عن تغير جذري في مسار الحوادث بدءًا من تلك اللحظة، كما تصاعدت عند مصرع بدران، لا لأنه مثل لحظة حل العقدة وانتهاء المأساة فحسب، ولكن لأنها كانت تودع المشاهد أيضًا، فبعد تلك اللحظة لن يسمعها المشاهد مجددًا حتى تظهر كلمة النهاية.
أما الحوار في الفيلم فقد جاء متميزًا وبحجم كاتبيه، نواحي التميز في الحوار رائعة، خذ مثلاً الشيخ فاضل (عبد العزيز أحمد، وموريل في الرواية الأصلية) وهو يناشد صاحب الشرطة بدران (سراج منير وفيلفور في الرواية الأصلية) ويقول له: «حسن ده وليِّد طيب» استخدام كلمة وليِّد تصغير «ولد” أضفت تأثيرًا إضافيًا من التعاطف والاستجداء. وتلك الجملة المؤثرة «إحساني زي معروفك يا شيخ فاضل هيفضل في الخفاء» والحديث يطول في تميز الحوار في هذا العمل الرائع.
لكن الفيلم لا يخلو من سقطات أيضًا، فأكثر ما كنت آخذه على المخرج إصراره أن يمثل أنور وجدي مشهدًا محوريًا، مشهد زيارة الأمير عز الدين لأعدائه للمرة الأولى في منزل شاهين، وهو مصاب بالبرد أو مبحوح الصوت. لقد بدت لي طبقة صوت أنور وجدي غير مناسبة تمامًا لطبيعة المشهد، وكثيرًا ما كنت أتساءل ألم يكن بالإمكان إعادة تسجيل الصوت لهذا المشهد؟!. ثغرة أخرى تتمثل في دوري خادم حسن الهلالي المطيع وغراب شيخ المنسر اللذين يبدوان وكأنما هبطا من السماء، ويحار المشاهد في تحديد طبيعة علاقتهما بالهلالي، هذه العلاقة مفصلة في الرواية الأصلية، ولكن هاتين الشخصيتين مسطحتان تمامًا في الفيلم.
ولعل المعربان قد خطر ببالهما سؤال المشاهد: لمَ يثق الهلالي هذه الثقة بلص قاطع طريق؟، ومن ثم وضعا على لسان اللص عبارة فحواها أنه يخدمه برقبته فهو لا ينسى أنه أنقذ رقبته من حبل المشنقة!، ثم ثغرة أخرى في قصة اكتشاف الهلالي لأعدائه الذين زجوا به في السجن. فالشيخ جلال (الراهب فاريا في الرواية الأصلية) كشف للهلالي عن الثلاثة الذين زجوا به في السجن (جعفر وشاهين وبدران) لكنه أغفل الإشارة إلى متولي المرابي (كادروس الخياط في الرواية الأصلية) الذي لم يكن يعرف حدود دوره في المؤامرة عليه، ومن ثم فقد زاره الهلالي في بيته وقدم له جوهرة على سبيل المكافأة. ثم عيّنه -فيما بدا وكأنا مكافأة إضافية له- وكيلاً لأعماله التجارية في القاهرة. لم يكن متولي مستهدفًا من قبل الهلالي من البداية، فلم يكن ضيفًا على حفله التي دعا إليها أعداءه الثلاثة ليختار أيهم يبدأ به انتقامه، ثم تتطور الحوادث إلى أن يطعنه جعفر. وعلى الرغم من ذلك فإنك تفاجأ بالهلالي وهو يمسك بتلابيبه ليذكره بكل خياناته ويصيح بأسلوبه المسرحي المشهور «الأول»!. متى وكيف اكتشف الهلالي ضلوع متولي المرابي في المؤامرة ضده؟!، هذه النقطة مشوشة تمامًا في الفيلم.
أمير الدهاء
لم يرق «أمير الدهاء» لي أبدًا، على الرغم من أنني لا أنفر من مشاهدته، ربما احترامًا للقصة الأصلية، لكني لا أقارنه بأمير الانتقام، على الرغم من أن بركات مجددًا أخرج العمل بنفسه، لكن آثار التقدم في السن واضحة تمامًا على بركات في هذا العمل. لم تتعدّ التغيرات دخول يوسف عيسى وبركات في السيناريو، في حين انفرد يوسف عيسى بالحوار، في حين غاب يوسف جوهر لأسباب لم أقف عليها. تدخل يوسف عيسى في الحوار الذي شارك في صياغته سابقًا، فجاء دون مستوى أمير الانتقام، كما أن الأخطاء الساذجة التي وقع فيها بركات تأتيك تباعًا من بداية العمل إلى نهايته، وتندهش أن يقع بعضها من مخرج بحجم بركات. على سبيل المثال، تصوير مشهد هجوع القافلة نهارًا دون استخدام مرشحات ضوء قوية لتوحي لك بأجواء الليل أو قرب بزوغ الفجر، وهو ما جعل استخدام الشعلة من جانب جعفر ليشير لقطّاع الطريق إشارة الهجوم أمرًا مثيرًا للدهشة في مثل هذه الإضاءة النهارية القوية.
هذا فضلاً عن مجانبة التوفيق ليوسف عيسى في تدخلاته في الحوار. لقد أفقد البطل حسن الهلالي مظهر الضحية الذي يحمل رسالة لا يعرف فحواها إلى شبه شريك مع «الوطنيين» عندما رفض بإلحاح تحت التعذيب البوح باسم المرسل إليه، كما استبدل مشهد لقاء العاشقين في سكة مهجورة بالمشهد «الشكسبيري» في أمير الانتقام، وهو الأمر الذي يبدو غير مناسب لروح العصر. كما حُذف مشهد محوري هو شهامة الهلالي عندما تطوع للجلد بدلاً من الشيخ جلال الذي ضحى بنفسه في المقابل كي لا يكشف السجان غياب حسن عن زنزانته، وهو ما ساهم في إضعاف الرابطة بينهما من علاقة أب بابنه (كما في أمير الانتقام) إلى علاقة أستاذ بتلميذه في أمير الدهاء، فضلاً عن أن مشهد الفرار من السجن كان أكثر حبكة وحرفية في أمير الانتقام منه في أمير الدهاء.
ويبدو واضحًا لك أن فريد شوقي أراد أن يضفي بصمته الخاصة على دوره، وهذا حق له ولا شك، لكنه -على الأرجح- كان يعتقد أن أنور وجدي بالغ في الأداء المسرحي، فحرص على إيقاع هادئ ونبرة صوت متوسطة مع انفعالات معتدلة. ولكن لأن أنور وجدي لم يكن مبالغًا في أدائه، وأداؤه لم يكن مسرحيًا إلا مواضع معدودة من العمل، فإن أداء فريد شوقي جاء باردًا عند المقارنة، وانتقلت تلك البرودة إلى أداء شويكار الذي لا يقارن بحرارة أداء مديحة يسري، كل أبطال العمل -على الرغم من وجود عدد الممثلين الكبار بينهم مثل حسن البارودي على سبيل المثال، فإن أحدًا منهم لم ينافس الممثلين في أمير الانتقام باستثناء محمود مرسي الذي نافس بحضوره الطاغي (والمعتاد!) سراج منير (بدران في أمير الانتقام). نتائج مثل هذه المقارنات تتبدى لك عند المقارنة بين من قام بدور الشيخ فاضل أو والد حسن الهلالي أو الشيخ جلال في كلا العملين. ومن المفارقة أن هذا ينطبق أيضًا على توفيق الدقن الذي لم يستطع محاكاة فريد شوقي (جعفر في أمير الانتقام) في دور الوغد النذل، لكنني كثيرًا ما أتساءل إن كانت هذه المقارنات التي انتصر بها دائمًا للعمل الأصلي موضوعية أم أنها نتاج طبيعي للمقارنة بين الأصلي والمقلد، والتي تضع المقلد دائمًا في موقع المتلقي الطبيعي للنقد!.
الخلاص من شاوشانك
آخر تجلٍّ فني مُعتبر في رأيي لرواية الكونت دي مونت كريستو كان العمل الرائع (The Shawshank Redemption)، الخلاص من شاوشانك، وهو فيلم مأخوذ مباشرة عن رواية الأديب الأمريكي ذائع الصيت ستيفن كينج (Stephen King) «ريتا هيوراث والخلاص من شاوشانك»، وبالطبع فإن أصول القصة عند صاحبنا دوماس. في شاوشانك تلاعب كينج بالقصة الأصلية، لكنه حافظ إلى حد ما على خطوطها الرئيسية، الوهج التاريخي في العمل الأصلي جعل كينج يختار نهاية الأربعينيات زمنًا للقصة، لكنك ترى أن الامتداد الزمني في القصة مرن إلى حد العودة إلى أوائل القرن العشرين متمثلاً في شخصية السجين بروكس المسجون منذ عام 1902.
في معالجة ستيفن كينج لا يُلقي مجموعة من الأوغاد الأنذال بسجين بريء مظلوم في السجن، بل إن قدره التعس هو من يزج به فيه عندما اتهم بقتل زوجته وعشيقها وتضافرت كل الأدلة ضده ليحكم عليه بالسجن مدى الحياة. ومن ثم استغنى صناع الفيلم تقريبًا عن شخصية مرسيدس التي تحولت إلى زوجة آندي دفرين الخائنة التي اتهم زوجها بقتلها ظلمًا. وشاوشانك هو أحد الأفلام الأمريكية النادرة التي لا تشاهد فيها وجه امرأة تقريبًا طوال أحداث الفيلم إلا في مشهدين لم يستغرقا على الشاشة ثوانٍ معدودة، وقد لا يلحظ المشاهد العادي هذا الغياب النسائي أصلاً، وربما كان ذلك لكي يضفي مزيدًا من الأهمية على صورة ريتا هيوارث التي يمكن القول إنها مثلت البطولة النسائية في الفيلم.
وعلى عكس الرواية الأصلية فإن الحكيم في السجن «أليس بويد ريد» – الذي أدى دوره الممثل الرائع مورجان فريمان – تحول إلى رجل عادي يائس، في حين حمل آندي دفرين مزيجًا من الود والحكمة والأمل بالنسبة له. أما دور الغريم في عشق خطيبة المظلوم في الرواية الأصلية فقد تحول إلى النقيب هادلي -لعب دوره كلانسي براون- وهو ضابط صارم قاسٍ سادي بطبيعته، ومن ثم لم يحتج كينج إلى إذكاء صراع جانبي بينه وبين دفرين السجين المظلوم، لكنه لم ينسَ أن يصل بك إلى مرحلة الكراهية ليبرر انتقام آندي منه عندما تورط هادلي في قتل اللص «تومي» دليل البراءة الوحيد الذي كان يمكن أن يخرج آندي دفرين من سجنه. أما ثلة الأوغاد الأنذال فقد تحولوا إلى “عصابة الأخوات”، الذين انتهكوا إنسانية السجين المظلوم أكثر من مرة وحولوا حياته في السجن ولا سيما في أعوامه الأولى إلى جحيم.
لا يخفي السجين ريد (الراهب الحكيم فاريا في الرواية الأصلية) إعجابه بآندي عندما اكتشف أنه ليس إنسانًا متكبرًا كما كان يعتقد نزلاء السجن، وإنما شخصية هادئة وقورة تتحرك بتؤدة ووقار كأنه يعيش في متنزه. هذا الوصف انسجم تمامًا مع سعي آندي دفرين طوال الوقت ليشعر أنه إنسان عادي حر، وليس سجينًا يقضي عقوبة السجن مدى الحياة في أسوأ سجون الولايات المتحدة.
تلك العبارة التي نطق بها دفرين لزميله ريد هي محور العمل، وهي الرسالة التي تصلك واضحة من خلال أحداثه. فقد جعل السجين المظلوم من سجنه جنته الخاصة، فأنشأ مكتبة ضخمة، وعاون بعض المساجين على استكمال تعليمهم.
وتحول الكنز في العمل الأصلي إلى ثروة مدير السجن نورتن التي جمعها باختلاساته واستغلاله لنفوذه، والتي أدارها له آندي دفرين السجين بكفاءة بعيدًا عن أعين الأجهزة الرقابية كونه مصرفيًا ناجحًا قبل أن يدخل السجن. لكنه لم يكن الكنز الوحيد في الفيلم. لم يستغن كينج بالكلية عن الصندوق المدفون في مكان سري، فذاك وجه آسر من أوجه القصة الأصلية، بدلاً من ذلك استخدمه كينج وسيلة للخلاص من عقدته «سجن الروح». قضى ريد في سجنه أربعين عامًا، فاعتاد عليه وأصبح رجلاً ذا شأن فيه، ومن المؤسسين على حد تعبيره. أما خارجه فهو لا شيء تقريبا، عبّر ريد عن هذا بقوله «السجن مكان غريب؛ في البداية تكرهه ثم لا تلبث أن تعتاد عليه!»، وما لم يقله ريد لكنه يصلك بوضوح من خلال قصة سجين مؤسس آخر -هو بروكس- أنك قد ترفض الخروج منه في مرحلة ما بعد الاعتياد.
نحن هنا بإزاء سجن الروح وليس سجن البدن فحسب. ومن ثم فإن كنزه تمثل في تلك الحكمة التي استمدها من آندي: «انشغل بالحياة أو انشغل بالموت». أما كنز آندي فلم يكن مال المدير كما يبدو من ظاهر الأحداث، لقد تمثل كنزه في الخلاص من سجن البدن بعد أن كافح طويلاً للحفاظ على حرية روحه. ومن ثم عدل كينج عن مشهد قذف السجين المظلوم للنقود الذهبية عاليًا عقب عثوره على الكنز ثم سقوطها فوق رأسه كزخات المطر في الرواية الأصلية إلى تساقط المطر الحقيقي، وجعل عملية خروجه من السجن أشبه بعملية ميلاد طفل. لقد وقف دفرين تحت المطر كإنسان ولد لتوه، وكان بحاجة ماسة إلى مكان بلا ذاكرة على حد تعبيره. لم ينس صناع فيلم شاوشانك أن يوجهوا التحية إلى ألكسندر دوماس صاحب «أوديسا العصر الحديث» عندما جعلوا أحد السجناء ينطق اسمه بطريقة خاطئة غيرت المعنى إلى كلمة سوقية.