«الكورونا» في زمن الرأسمالية
يُحكَى أنه في عام 1942 ضربت مصر معركتان الأولى كانت في «العلمين» بين الألمان والإنجليز، والثانية كانت في صعيد مصر بسبب الملاريا. لا تستغربوا من وصف الثانية بالمعركة فضحاياها تخطت الأولى، كان يموت في بعض القرى يومياً حوالي 90 شخصاً.
قصة أخرى كانت تحدث بالتوازي في مصر أيضاً في الصعيد، حيث كانت ثروة رجل الأعمال «أحمد عبود» تتضاعف ليس من نتيجة اجتهاده فقط، بل نتيجة علاقة بين السلطة والقانون ورأس المال، كانت ثروته تأتي من العديد من المجالات التي كان يعمل بها، وكان من أبرزها صناعة السكر، وكانت تتركز زراعة قصب السكر في الصعيد.
كانت الصحة العامة للعاملين في مزارع القصب متدنية، مما جعل أجسامهم ضعيفة أمام الملاريا التي كانت آخذة في الانتشار وحصد الأرواح، وذلك في الوقت التي كانت تتزايد فيه ثروة أحمد عبود.
وكان من الملاحظ أن الوافدين من القاهرة لمساعدة أهل الصعيد، من الموظفين الحكوميين أو العاملين في الصحة أو المجال الخيري، كانوا لا يموتون من المرض، بالطبع لمناعتهم من المرض، ولكن حسن التغذية وصحتهم العامة الناتجين عن أوضاعهم الاقتصادية جعل أجسامهم أقوى أمام المرض.
ذكر هذه القصص «تيموثي ميتشيل» في الفصل الأول من كتابه «حكم الخبراء».
يذكرني هذا بكثير من الأغنياء الذين أصيبوا بفيروس كورونا وشُفوا، كالأمير «تشارلز» وليّ عهد إنجلترا، و«بوريس جونسون» رئيس الوزراء وغيرهما، يذكرني هذا بأعمار المستبدين الطويلة، بالطبع ليس الاستبداد مُطيلاً للعمر، ولكن ما يتصاحب معه من ثروة تُوفِّر تغذية ومتابعة صحية جيدة.
يعيش الفنّانون ورجال الأعمال بين الجيم وتناول الطعام الأورجانيك، ويعيش الفقراء في المصانع والمزارع، فلا يمتلكون رفاهية العمل المنزلي ولا الإجازات في فترة كورونا، دورة من الإنتاج يجب أن تتحرك وهم تروس ماكينتها ويجب أن يعملوا.
منذ بداية أزمة كورونا زاد الطلب على السيارات المستعملة مما رفع أسعارها، فهي أكثر أماناً للحركة من حيث الوقاية، ولكن من يملك رفاهية الشراء؟ بالطبع أبناء الطبقة الوسطى، فالأغنياء يمتلكون بالفعل، والفقراء يتكدسون في المواصلات العامة قليلة التعقيم.
يقول «أولريش بيك» في كتابه «مجتمع المخاطر العالمي: بحثًا عن الأمان المفقود»: «الثروات تتراكم من الأعلى، أما المخاطر فتتراكم من أسفل». ثم يستشهد بمثال السكن الرخيص بجوار المصانع، وهي الأكثر عرضة للتلوث وبالتالي خطر المرض، ويستخلص أن:
يجب أن يتحرك الاقتصاد ويجب أن تقل أعداد الإصابة، الأولوية للخيار الأول فالذي سيدفع ثمنه العمال، بينما الثاني الأغنياء، لكن للإنصاف الديمقراطية وبعض حقوق العمال المكتسبة عبر العقود قلّلت من حدة الاختيار بينهما.
لكن الفجوة قائمة ولا يمكن تجاهلها، فعلى سبيل المثال تبعاً لمكتب الإحصاءات الوطنية في المملكة المتحدة، فإن معدلات الوفاة جرّاء كورونا في المناطق الأكثر فقراً وحرماناً تتجاوز ضعف المعدلات في المناطق الأغنى والأقل حرماناً.
ستعلن الحكومات العالمية تباعاً عن إجراءات احترازية يجب الأخذ بها للوقاية من الفيروس، ستتعارض مع سد الحاجات والبحث عن المعاش وإن قدمت بعض الدعم، يقول «بيك»:
وهذا بالضبط ما توقعته دراسة لـ Imperial College، وهو أن الدول الأفقر أكثر عرضة للمرض لضعف أنظمتها الصحية والاضطرار للعمل وضعف الاقتصاد. والأمر كذلك داخل كل مجتمع، فالمخاطر تُوزَّع على الأفراد تبعاً لثروتهم. ربما هذا لم يتحقق، ونرجو ألّا يتحقق، فالبلدان الأغنى هي الأكثر إصابة حتى الآن لانفتاحها وللنظام الصحي الذي يكشف عدد الإصابات بقدر كبير، وهو أيضاً شبيه بما قاله «بيك» حول عولمة المخاطر، حيث تزول الحواجز وتنتشر المخاطر عالمياً.
إن أغلب الصراعات تستهدف الثروة وإن تغطت بالدين والسياسة والأمن، فالثروة وثيقة العلاقة بالمخاطر، والفقير مقارنةً بالغني أكثر عُرضة للإصابة بالمرض في سبيل طلب معاشه، حيث إن قلة التعليم ومحدودية الثقافة تُقللان فرصة أخذه بالحيطة، وسوء التغذية يضعف صحته العامة جاعلة جسمه أوهى أمام المرض.