كورونا والاقتصاد العالمي: نحن «نعاين الأضرار» بالفعل
مثّل تفشي فيروس كورونا صدمة للاقتصاد العالمي، في ظل الآثار الاقتصادية السلبية التي نتجت عن ظهوره. فمعه، فقد المستثمرون الثقة في الأسواق المالية، وعمد الكثيرون منهم إلى إيقاف أنشطتهم الاقتصادية خوفًا من استمرار الأوضاع سوءًا.
حالة الذعر تلك لم تقتصر على المستثمرين بل طالت المواطنين العاديين، فاتجه الكثيرون لسحب مدخراتهم من البنوك خشية أن يخسروا ما جنوه في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة. هذا علاوة على رود الفعل السلوكية التي نتج عنها انخفاض الطلب الاستهلاكي وتأثر قطاعات اقتصادية هامة على مستوى العالم.
ومن المتوقع أن يستمر ذلك الوضع لحين التوصل إلى لقاح فعال وإتاحته لجميع سكان العالم، أو حدوث انخفاض مفاجئ في عدد الإصابات بما يؤدي إلى انتعاش قوي للاقتصاد العالمي من جديد، خاصة وأن تباطؤ النمو الحالي مدفوع بشكل رئيسي بانخفاض الطلب.
انخفاض في التوقعات الاقتصادية
دفع تفشي فيروس كورونا حول العالم، المؤسسات والبنوك الرئيسية إلى خفض توقعاتها للاقتصاد العالمي، ومن بينها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقريرها الصادر في مارس/آذار الماضي، والذي أعلنت فيه عن خفض توقعاتها للنمو لعام 2020 لجميع الاقتصادات تقريبًا.
وبحسب التقرير، فإن الناتج المحلي الإجمالي للصين سيشهد انخفاضًا في مستوى النمو المتوقع من 5.7% إلى 4.9% لذلك العام. كما من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.4% في العام الجاري بعد توقعات سابقة بنمو يصل لـ2.9%.
ومن الوارد أن ينخفض النمو إلى 1.5%، إذ استمرت المصانع في تعليق نشاطها وبقاء العمال في منازلهم لفترة أطول من المتوقع، بغية احتواء الفيروس ومحاصرته.
ووفقًا لذلك السيناريو، فإن الناتج المحلي الإجمالي قد ينكمش بنسبة 0.4% في الربع الأول من عام 2020، وبنسبة 1% في الربع الثاني، بينما من المتوقع اعتبارًا من الربع الثالث فصاعدًا أن يشهد الاقتصاد العالمي انتعاشًا قويًا في الاقتصاد العالمي.
ومن وجهة نظر ستيفان كوثس رئيس مركز التنبؤات، فإنه بمزيد من العمل الدؤوب في الربع الأخير من عام 2020، سيكون من السهل اللحاق بالركب المفقود، كما من المرجح أن ينمو الاقتصاد بنسبة 2.3% في العام المقبل.
تباطؤ في نشاطات اقتصادية هامة
تأثرت عدة قطاعات ونشاطات اقتصادية حول العالم بتفشي فيروس كورونا، يأتي على رأسها:
1. تباطؤ قطاع التصنيع
تضرر قطاع التصنيع في الصين بشدة في فبراير/شباط نتيجة لتقلص نشاط المصانع نظرًا لانتشار فيروس كورونا. ذلك التباطؤ في التصنيع الصيني لم يضر الصين وحدها، بل أضر كذلك بالدول ذات الروابط الاقتصادية الوثيقة مع الصين، والتي يتمثل معظمها في اقتصادات آسيا والمحيط الهادي مثل فيتنام وسنغافورة وكوريا الجنوبية.
ووفقًا للعديد من المحللين، فإن المصانع في الصين ستستغرق وقتًا أطول من المتوقع لاستئناف العمل بكامل طاقتها كما كان قبل انتشار الفيروس. فضلاً عن ذلك، فإن تفشي الفيروس عالميًا يهدد بدوره التصنيع العالمي ويجعله ضعيفًا ومتباطئًا لفترة أطول.
تكمن خطورة تباطؤ التصنيع في الصين كونها تمثل ثلث التصنيع على مستوى العالم، كما أنها أكبر مُصدر للسلع في العالم، ومن ثم فإن القيود التي فُرضت على عمل المصانع أثرت على سلاسل التوريد للشركات الكبرى كالشركة المصنعة للمعدات الصناعية «جي سي بي» وشركة «نيسان» لصناعة السيارات.
كما انخفض الطلب على شراء السيارات، وفق ما أفادت به متاجر وشركات بيع السيارات. فعلى سبيل المثال، انخفضت مبيعات السيارات الصنية بنسبة 86% في شهر فبراير/شباط الماضي، حتى أن العديد من شركات صناعة السيارات كــ تسلا وجيلي، سعت لبيع سياراتها عبر الإنترنت نظرًا لصعوبة تواجد المشترين في معارض تلك الشركات.
2. تضرر قطاع السياحة
تعرضت صناعة السفر لأضرار بالغة نتيجة لقطع شركات الطيران للرحلات الجوية، وذلك استجابة للقيود التي فرضتها الحكومات حول العالم على السفر لمحاولة احتواء الفيروس.
فقد حظر الاتحاد الأوروبي على المسافرين من خارجه، السفر إليه لمدة 30 يومًا في خطوة غير مسبوقة لإغلاق حدوه، كما منعت إدارة ترامب المسافرين من المطارات الأوروبية من دخول الولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك، اتجهت أغلب دول العالم لتعليق الرحلات الجوية لحين تحسن الأوضاع.
ووفقًا لتقديرات الاتحاد الدولي للنقل الجوي، فإن عائدات النقل الجوي العالمية ستنخفض بنسبة 5٪ خلال هذا العام، بما يعني خسارة نحو 29.3 مليار دولار.
بيد أن صناعة السياحة في الصين ستكون الأكثر تضررًا، إذ يمثل قطاع السياحة نحو 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي الصيني في السنوات الأخيرة، وبمعدل نمو ثابت قدره 7٪.
انخفاض أسعار النفط
أدى انخفاض النشاط الاقتصادي العالمي إلى خفض الطلب على النفط، وهبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياته منذ عدة سنوات. ووفقًا لمحللين من البنك السنغافوري «دي بي سي»، فإن انخفاض الطلب على النفط نتيجة لتفشي فيروس كورونا والزيادة المتوقعة في العرض هو بمثابة ضربة مزدوجة لأسواق النفط.
كما يرى أولئك المحللون أن انتشار الفيروس في إيطاليا وأجزاء أخرى من أوروبا بات مقلقًا بشكل كبير، ومن المرجح أن ينخفض الطلب في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
فيما يخشى المستثمرون من أن يتسبب الانتشار العالمي للفيروس في ضرب الاقتصاد العالمي والطلب على النفط، خاصة مع تأثر سعر النفط بالفعل نتيجة الخلاف بين أوبك «مجموعة منتجي النفط» وروسيا والذي نتج عنه تـخفيض الأوبك للطلب العالمي على النفط إلى 19% بنحو 100.73 برميل يوميًا. ومن المتوقع، مع انتشار الفيروس أن يتجه أسعار النفط نحو المزيد من الانخفاض.
انهيار أسعار الأسهم
من وجهة نظر سيدريك شهاب، رئيس المخاطر القطرية والإستراتيجية العالمية لشركة «فيتش سوليوشنز»، فإن هناك ثلاث قنوات تؤثر بدورها على الأسواق المالية وهي: التباطؤ الاقتصادي في الصين، والتباطؤ الاقتصادي العالمي خشية تفشي فيروس كورونا، أما الثالثة فهي الضغوط على الأسواق المالية.
فـمنذ الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي، شهدت أسعار الأسهم انخفاضًا كبيرًا تسبب في فقدان الثقة في أسواق الأسهم حول العالم وزيادة المخاوف من مخاطر الضغوط المالية وإفلاس الشركات. الأمر الذي تسبب في تراجع ثقة المستهلكين من مدى جدوى الاستثمار في البورصة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى «حلقة تغذية مرتدة سلبية» للاقتصاد العالمي.
كما دفعت المخاوف من الانتشار العالمي للفيروس التاجي الجديد المستثمرين إلى رفع أسعار السندات، مما تسبب في انخفاض عائدات السندات في الاقتصادات الكبرى. فبينما تعد سندات الخزانة الأمريكية التي تدعمها الإدارة الأمريكية، ملاذًا آمنًا يميل المستثمرون للفرار إليه في أوقات تقلبات السوق وعدم اليقين.
فإنه جرّاء الأزمة، انخفضت العائدات على جميع عقود الخزانة الأمريكية إلى أقل من 1% في 10مارس/آذار الماضي، وهو تطور لم يسبق له مثيل، وذلك عقب الانخفاض الطارئ الذي طبقه بنك الاحتياطي الفيدرالي على معدل الفائدة بواقع 50 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة المستهدف من 1:1.25%.
وعليه، يتوقع عدد من المحللين أن يتجه مجلس الاحتياطي الاتحادي إلى خفض أسعار الفائدة مرة أخرى، إذا ما اتجهت الأوضاع نحو مزيد من التأزم.
ركود وكساد كبير
نتج عن جهود التباعد الاجتماعي لاحتواء الفيروس، ضغوط مفاجئة ووجودية على الشركات. فكما تسببت في اضطراب تاريخي في أسواق رأس المال العالمية، فإن هناك مخاوف واسعة النطاق أن يتحول الوضع الاقتصادي العالمي إلى ركود مساوٍ أو أسوأ لما شهده العالم جرّاء الأزمة المالية العالمية لعامي2008-2009، وربما يقترب من مستويات الكساد الكبير الذي استمر من عام 1929 إلى عام 1933.
ولعل احتمالية وقوع ركود عالمي، يتضح من خلال مؤشرين رئيسين:
1. انخفاض الطلب الاستهلاكي
أثر تفشي فيروس كورونا في الصين على صناعة الخدمات في البلاد ، إذ أضر انخفاض إنفاق المستهلكين إلى الإضرار بمتاجر البيع بالتجزئة والمطاعم والطيران وغيرها. بيد أن الصين لم تكن وحدها من عانى من ضعف قطاع الخدمات، فقد تقلص قطاع الخدمات كذلك في الولايات المتحدة التي تعد أكبر سوق استهلاكية في العالم، في شهر فبراير/شباط الماضي.
ووفقًا لمزود المعلومات العالمي «آي إتش إس ماركيت»، فإن أحد الأسباب وراء تقلص الخدمات الأمريكية هو انخفاض نسبة السلع المستوردة من الخارج، وعليه امتنع العملاء عن الطلب وسط حالة من عدم اليقين الاقتصادي والمخاوف المتزايدة من تفشي ذلك الفيروس.
2. تقلص استثمارات رأس المال
من المتوقع نتيجة لانخفاض الطلب الاستهلاكي أن تتجه الشركات العالمية لقطع استثمارات رأس المال، وهو ما سيترتب عليه تسريح قدر كبير من العمالة، مما يضاعف من أثر الصدمة ويتسبب في المزيد من تقلص الطلب.
فحتى فبراير/شباط الماضي، كانت الخدمات الغذائية وأماكن الإقامة توظف ما يقرب من 14.4مليون عامل بما يمثل 11.1% من إجمالي مرتبات الوظائف في الولايات المتحدة. كما كان يعمل بالنقل الجوي أكثر من نصف مليون شخص، ونحو 2.5 مليون عامل في قطاع الفنون والترفيه.
ومع زيادة المخاوف من تفشي الفيروس، لجأت بعض الشركات إلى منح عمالها أجازات مدفوعة الأجر، وأخرى لجأت لتسريح عمالها. فبينما بلغت نسبة البطالة خلال الأزمة المالية العالمية2008-2009 نحو 10%، فإنه من المتوقع أن ترتفع نسب البطالة عن ذلك المعدل إذا لم تنجح الدول في احتواء ذلك الفيروس بما يعني المزيد من الضغوط على سوق العمل وخسارة كل من العمال والشركات.
فعلى سبيل المثال، تسبب انتشار الفيروس في نقص كبير في أعداد الموظفين والإمدادات في صناعة النفط والغاز، ومن المتوقع أن ينخفض الاستثمار في ذلك القطاع بنحو 30 مليار دولار في عام 2020.
ذلك الانهيار في الطلب الكلي، وما ينتج عنه من حالات تسريح من العمل، يمكن أن يؤدي بدوره إلى أزمة مالية أخرى تكافح الشركات والعمال فيها للوفاء بالتزامات ديونهم.
إجمالاً، تعد أكثر الاقتصادات تضررًا من تفشي فيروس كورونا هي: (إيطاليا وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة)، ويمثلون سويًا نحو 8٪ من الاقتصاد العالمي.
وبالتالي فإن تضرر تلك الاقتصادات يعني تضرر الاقتصاد العالمي بأكمله، ومع استمرار الإجراءات الحكومية حول العالم لمنع المزيد من العدوى وإلغاء السفر، فإن ذلك يشكل عبئًا أقوى وأطول أمدًا على النمو الاقتصادي العالمي ما لم يتم التوصل لحل في أسرع وقت ممكن.