متحور «أوميكرون»: بين التحور العلمي والتحوير السياسي
لا صخبَ يعلو هذه الأيام فوق ضوضاء أخبار متحور كورونا الجديد، الذي اصطُلح على تسميته «أوميكرون» Omicron، والذي تشير الدلائل المتاحة إلى ظهوره منذ أيامٍ قليلة في جنوب القارة الأفريقية، في دولتيْ جنوب أفريقيا وبتسوانا القريبة منها، ثم انتقل عبر بضع حالاتٍ إلى القارة الأوروبية في بلجيكا والبرتغال وهولندا وغيرها، وأحدثت أخباره هزَّة عالمية تشبه ما شهدناه مع بداية الوباء.
ومن أجل الحد من انتشار الإصابة بهذا المتحور الجديد، بادرت العديد من دول العالم بمنع السفر من وإلى جنوب إفريقيا، بل بلغت حالة الهلع العالمية ببعض الدول كاليابان والمغرب إلى حد إغلاق حدودها أمام وصول حركة الطيران والمسافرين إليها، وبدأت مرحلة حبس الأنفاس في مناطق عديدة حول العالم تحسُّبًا لعودة إجراءات الإغلاق الصارمة، التي قاسيْناها طويلاً خلال العاميْن الماضييْن منذ اندلاع جائحة كوفيد-19.
عبر أسئلة وأجوبة سريعة سنعرف أهم ما يخصُّ هذا المتحور الجديد لفيروس كورونا وفق الأدلة والقرائن المتاحة لحظة كتابة هذه الكلمات.
أين حدثَ هذا التحور؟
يعتقد ميشيل هيد، الباحث في شئون الصحة العالمية في جامعة ساوثهامبتون الإنجليزية، أن هذا التحور لم يحدث في دولة جنوب إفريقيا نفسها، إنَّما اكتُشِف هنالك لجودة جهود المؤسسات الصحية والوبائية في تلك الدولة في تتبع حالات كوفيد-19 ومراقبة مادة الفيروس الوراثية، وبالتالي اكتشاف المتحورات الجديدة.
ويُرجّح الباحث أن هذا التحور قد يكون حدث في إحدى البلاد الإفريقية الأخرى التي لا تتمتع بمثل هذه الإمكانات. وقد امتدحَ الرئيس الأمريكي جو بايدن المؤسسات الصحية في جنوب إفريقيا لكفاءتها ولسرعة إبلاغها العالم بظهور هذا التحور الجديد.
لماذا حدث هذا التحور؟
التحور الجيني شائع للغاية في الفيروسات، لا سيَّما الفيروسات التنفسية واسعة الانتشار، ومنها على سبيل المثال الإنفلونزا، والذي نحتاج إلى تغيير المصل المضاد له كل عام لإضافة التحورات الجديدة.
ومن المعلوم في علم الوبائيات بالضرورة أن فرصة حدوث التحورات، لا سيَّما الجذرية، تتضاعف مع انتشار الإصابة على نطاقٍ واسع، حيث يحدث في الجسم الواحد الملايين من عمليات تكاثر الفيروس، وكلما تكاثر الفيروس أكثر، بإعادة إنتاج نسخٍ متطابقة من نفس مادته الوراثية DNA أو RNA، تبدأ أخطاء دقيقة للغاية في الظهور في النسخ الجديدة، ثم تتراكم وتتراكب، حتى تنتج تحورات وسلالات أكثر اختلافًا من نفس الفيروس، تختلف في قدرتها على الانتشار والعدوى وإحداث المرض.
اقرأ:10 نصائح تقلل إصابتك بالإنفلوانزا والعدوى الصدرية.
يكاد يُجمع الباحثون والعلماء على إلقاء اللوم في حدوث هذا المتحور أوميكرون، وأية تحورات لاحقة، إلى التباطؤ العالمي في توزيع اللقاحات على أوسع نطاقٍ ممكن، لا سيَّما في البلدان النامية والفقيرة، والتي تشهد تمدد الإصابة بكوفيد-19 بين أعدادٍ كبيرة من مواطنيها، مع انخفاضٍ كارثي في معدلات التلقيح، فيجد الفيروس مرتعًا خصبًا للانتشار والتمدد في خلايا أجسام الكثيرين، والتي تصبح ساحةً للتحورات الجينية في بنية الفيروس.
وقد شهدنا في شهر ديسمبر/كانون الأول 2020 ظهور السلالة المتحورة ألفا في إنجلترا عندما كان انتشار كوفيد-19 هناك في ذروته قبل التوسع في إعطاء اللقاحات، ثم تبعتها السلالة دلتا في الهند التي تشهد ثاني أكبر انتشار للفيروس في العالم، وذلك في شهر فبراير/شباط 2021.
والبلدان الإفريقية الثمانية في جنوب القارة، والتي ظهرت فيها تلك السلالة المتحورة الجديدة، يُعاني أكثرها من معدلات تلقيح منخفضة، تصل إلى أقل من 6% من السكان في مالاوي، لجرعة لقاح واحدة فحسب. ومتوسط نسبة التلقيح في البلدان النامية ككل حوالي 7.5% فحسب، بينما المتوسط في البلدان المتقدمة والغنية قد تجاوز 62%.
لماذا أثار أوميكرون قلقَ الجميع؟
في رد الفعل القلِق تجاه هذا المتحوّر الجديد، كلٌّ يغني على ليلاهُ ومصالحه وحساباته، فنظرة السياسيين غير الاقتصاديين غير علماء الطب والصحة العامة، غير عموم المواطنين الذين ينهش كوفيد-19 أرواحَهم وأمانهم النفسي، كما تنسفُ مدَّخراتِهم الإجراءاتُ الصارمة المتوقعة كالإغلاق وما ينجم عنه من شلل اقتصادي. ويحتاج كل هذا إلى مساحاتٍ خاصة للحديث عنه وتحليله، لكنني سأركز هنا على وجهة النظر العلمية البحتة.
ذكرت منظمة الصحة العالمية في تصريح لها الإثنين 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أن التحور الجديد يحمل خطورة عالمية كبيرة، حيث أظهرت سلالة أوميكرون كمًا كبيرًا من التحورات الجينية في مادتها الوراثية مقارنةً بالسلالات الأخرى من كوفيد-19، تُقدَّر بحوالي 30 تحورًا، ويتركز معظم تلك التحورات في بروتين الشوكة Spike protein، والذي يساعد الفيروس على اختراق خلايا الجسم، والتخفي من خلايا المناعة، وبالتالي يتوقع خبراء المنظمة أن قدرة تلك السلالة الجديدة على الانتشار ستكون الأكبر، وهذا ما ستثبته أو تنفيه الأبحاث المركَّزة حولَ العالم في الفترة القصيرة القادمة.
من المعلوم أنه مع تراكم التحورات وظهور السلالات، فإن السلالة ذات القدرة الأكبر على الانتشار تسود، وتحُدّ من نشاط غيرها من السلالات الأقل في تلك القدرة الانتشارية حتى لو كانت سطوة الإصابة بها أشد، كما شهدنا هذا العام 2021 من هيمنة السلالة دلتا واسعة الانتشار، والتي كانت لحسن حظنا أقل في خطورتها المرضية نسبيًا مقارنة بسلالاتٍ أخرى مثل السلالة بيتا الشرسة والتي تتخطى بكفاءة أجهزة مناعتنا، ولا تُجدي معظم اللقاحات المتاحة حاليًا نفعًا معها.
هل يستحق الأمر كل هذا الذعر؟!
بالرغم مما سبق ذكره، فحتى الآن لا يوجد ما يستدعي كل تلك الحالة من الذعر التي اجتاحت العالم، والتي لعلّ وراءها حسابات سياسية خارج السياق العلمي، تتعلق بأسعار البترول العالمية على سبيل المثال والتي بدأت تهوي باطّراد بعد أن سبَّب ارتفاعها في الأسابيع الماضية نزاعاتٍ بين المنتجين والمستوردين، أو أن هناك قضايا وحسابات دولية أخرى قد نعرفها أو لا نعرفها.
وينقل الموقع الرسمي للأمم المتحدة عن المجموعة الاستشارية الفنية لمتابعة التحور الفيروسي، والتابعة لمنظمة الصحة العالمية، تأكيدها على أنه حتى اللحظة لا دليل على أن الإصابة بالمتحور الجديد أشد خطرًا وأعلى في معدلات الوفاة بالمقارنة بباقي السلالات المتحورة، لا سيَّما سلالة دلتا السائدة عالميًا حاليًا.
وفي لقاء تلفزيوني لها مع قناة الجزيرة الإخبارية الإنجليزية، انتقدت الطبيبة الجنوب إفريقية «أنجليك كوتزي»، والتي أسهمت في اكتشاف هذا المتحور الجديد، طريقة التعامل العالمية مع الأمر، ووصفته بغير الناضج تمامًا، واستدلّت كوتزي على هذا بأنه حتى الآن تقتصر الغالبية العظمى من إصابات المتحور الجديد على أعراضٍ طفيفة لا تمس الحياة، مثل الصداع والإرهاق الشديد وتكسير الجسم.
ويُضاف إلى ما سبق، أنه لا أدلة قطعية حاسمة على أن اللقاحات الحالية عاجزة أمام تلك السلالة المتحورة الجديدة، ولا أنها تسبب أعراضًا مختلفة عن تلك السائدة حول العالم مع السلالات الأخرى لا سيَّما دلتا.
وأكدت شركة بيونتيك، شريكة فايزر الأمريكية لإنتاج أقوى لقاح ضد كوفيد-19 حتى الآن، أنها تحتاج إلى أسبوعيْن على الأقل من تراكم نتائج الاختبارات والأبحاث الأولية على السلالة الجديدة حتى تستطيع حسم ملف مدى فاعلية لقاح فايزر ضد السلالة الجديدة. ولحسن الحظ أيضًا، فإن اختبار PCR التشخيصي لتلك السلالة موجود، وينتظر تعميمه حول العالم.
ومن الإيجابيات أيضًا أنَّ الجهود البحثية والمعملية فيما يتعلق بكوفيد-19 قد أصبحت أكثر خبرةً وكفاءة بعد عاميْن كامليْن من جهود المواجهة مع تلك الجائحة الدولية، وبالتالي من المتوقع خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة أن تتكشَّف كل المعلومات التفصيلية الدقيقة عن تلك السلالة، لتبدأ بعدها على الفور جهود إنتاج لقاح خاص بها إن لزم الأمر.
اقرأ: مجموعة البرد: هيا ندمر المناعة ونغذي البكتيريا.
ماذا نفعل؟
بالنسبة للحكومات، فأوسطُ الحلول وأهمها في اللحظة الراهنة هو التوسع العاجل في توزيع اللقاحات حول العالم، وفي إعطاء الجرعات التنشيطية لمن مضى عليهم وقت طويل منذ التلقيح، وعلى الدول الكبرى والغنية مسئولية أخلاقية وبراغماتية في آنٍ في إلغاء الهوة الخطيرة بينها وبين البلدان النامية في معدلات التلقيح، لأن انتشار الفيروس وكوارثه لا تقتصر على مكانٍ دون آخر في عالمنا الذي أصبح تقريبًا بلا حواجز.
أما بالنسبة إلينا كأفراد، فلا جديد في النصائح والتعليمات عما كرَّرناه ونُكرره كثيرًا خلال العاميْن الماضييْن:
- لا داعي للهلع، لأنه غير مفيد، ويُعطِّل الجهود الفعَّالة سواءً الفردية أو الجماعية.
- مواصلة السعي للحصول على لقاحات الكورونا المتاحة، لأنها ببساطة أهم سلاح متوفر حتى الآن ريثما تُستَكمل خلال الأسابيع القادمة الأبحاث الجديدة التي تدرس مدى جدوى اللقاحات الحالية ضد هذا التحور الجديد، وأيها أكثر قوةً ضده.
- الإجراءات الاحترازية الفردية، والتي هي المبدأ والمُنتَهى في مواجهة هذا التحور أو غيره، وأهمها الحفاظ على المسافة الآمنة متر ونصف على الأقل، وتجنب التجمعات المزدحمة في الأماكن المغلقة، وارتداء الكمامة الطبية في الأماكن العامة، وغسل اليدين جيدًا بالماء والصابون أو الكحول المُركَّز إن لم يتوافرا.
وختامًا، حفظنا الله وإياكم من كوفيد-19 ومن حملات الذعر، وحسابات الساسة.