جائحة كورونا: ثورة الطبيعة ضد النيوليبرالية
يعاني العالم في الشهور الأخيرة من جائحة الكورونا التي أصابت حتى الآن أكثر من 330 ألف إنسان، وتسببت في قرابة الـ 14 ألف وفاة، وعزلت دولاً بأكملها، وكبدت العالم بأكمله خسائر اقتصادية فادحة من غير المعلوم متى ستتوقف تحديدًا.
أسرعت بعض الحكومات للتفاعل مع الكورونا وتباطأ البعض الآخر متأثرًا بالرغبة في تقليل الخسائر الاقتصادية، ما يدفعنا لطرح سؤال هام: هل ثمة علاقة بين ظهور هذا الفيروس وارتباطه بنهج سياسي واقتصادي عالمي؟
في قادم السطور سنحاول الإجابة على هذا السؤال، متنبئين بالآثار السياسية والاقتصادية المحتملة من جراء هذه الجائحة الخطيرة.
التدهور البيئي عبر الرأسمالية الزراعية
ظهر فيروس كورونا مع بداية العام الحالي في مدينة ووهان الصينية، تحديدًا في سوق ووهان الذي ظهرت أولى الإصابات بين عمّاله، والسبب هو بيئة هذا السوق المركزي كالنظام الصيني تمامًا، الذي يجمع بين الحيوانات البرية والأليفة والداجنة، دون مراعاة للأنماط الزراعية والبيئية الخاصة بهم. في نفس السوق تجد الأسود والنمور التي تباع بأسعار مرتفعة للأغنياء لاعتقادهم بأنها تزيد قدراتهم الجنسية، جنبًا إلى جنب مع الثعابين، الخفافيش، الدببة، الشمبانزي، الأرانب، الدجاج، وباقي الطيور، والتي ترتبط بنظام غذائي للمواطنين الأفقر الباحثين عن اللحم الأرخص. وهو ما يخلق بيئة مواتية للفيروسات في الانتقال بين الحيوانات وبعضها، وهو ما حدث هذه المرة بالانتقال بين الوطاويط والخفافيش لحيوان آكل النمل ثم إلى الإنسان.
والأسباب ذاتها هي التي أدت إلى ظهور فيروس «السارس» عام 2002، والذي انطلق من إقليم غوانغدونغ جنوب الصين إلى العالم بأكمله. ومن خلال تتبع العلماء للفيروس، وجدوا أنه من عائلة الفيروسات Mers وانتقل إلى البشر عبر أسواق الثروة الحيوانية. تم احتواء الفيروس بعد عام من إصابته لأكثر من من 8 آلاف شخص ووفاة أكثر من 800 شخص حول العالم.
فيديو يوتيوب يشرح جذور فيروسات الكورونا والسارس وارتباطها بالنمط الزراعي والبيئي في الصين.
يربط البعض جذور سوق ووهان وغواندونغ وغيرها من الأسواق المركزية بالصين، بالسياسات التي اتخذتها حكومات الصين المتتالية كرد فعل على المجاعة العامة في ستينيات القرن الماضي التي أودت بحياة 30 مليون مواطن والتي دفعت الفقراء والفلاحين للتغذية على بعض الحيوانات البرية الأكثر وفرة وأقل كلفة. قامت الحكومة في الصين مع تحولاتها الرأسمالية المركزية بإنشاء أسواق مجمعة للثروة الحيوانية لضمان عدم تكرار المجاعة من ناحية، وتراكم رأس المال في يد الحكومة مباشرة من ناحية أخرى.
لكن النمط الصيني لا يختلف كثيرًا عن عمليات الاستثمار الزراعي والحيواني في العالم، حيث تقوم الشركات الكبرى باحتكار الحيوانات من الحقول وصغار الفلاحين وانتزاعها من بيئتها الطبيعية لجمعها بأعداد كبيرة في مكان واحد لرعايتها ودراسة إمكانية تغيير بعض السلالات وتهجينها بالهندسة الوراثية. وعليه، تضخمت أرباح الشركات مقابل أموال زهيدة للفلاحين. أضف إلى ذلك إمكانية دائمة لظهور الفيروسات التي تحولت بعد ذلك إلى أوبئة تصيب الآلاف.
على سبيل المثال، ظهرت مجددًا إنفلونزا الطيور في الغرب الأمريكي عام 2015 في المزارع الكبرى التابعة لشركات احتكار الدجاج وأودت بحياة 40 مليون دجاجة وديك رومي، ظهرت انفلونزا الطيور مجددًا رغم كل الاحتياطات الوقائية المتبعة، نتيجة مباشرة لهذا النمط الإنتاجي الذي يضع عشرات الآلاف من الطيور في منشآت مغلقة بدون نوافذ، وعلى الرغم من عدم وجود علامة على أن هذا الفيروس سوف يقفز إلى البشر، إلا أن الزراعة الصناعية تزيد احتمال ظهور سلالة جديدة من الفيروس في المستقبل تنتقل إلى الإنسان.
وبعد تجاوز أزمة انتشار فيروس السارس في 2002، اقترح العلماء برامج لأبحاث خاصة بأوروبا والولايات المتحدة، كان الهدف منها التعرف أكثر على هذه الفصيلة من الفيروس والتعامل مع احتمالات ظهورها تحت أنواع مختلفة، لكن الحكومات رفضت تمويلها بسبب كلفتها العالية، مقارنةً بأبحاث الهندسة الوراثية أو التركيبات الدوائية التي تدر الكثير من الأرباح.
يظهر في الفيديو التالي رجل الأعمال بيل جيتس متحدثًا عن مستقبل العالم بعد جائحة الإيبولا في غرب أفريقيا عام 2014، والتي رغم فداحتها إلا أن البشرية كانت سعيدة الحظ، لأن الفيروس لا ينتقل عن طريق الهواء، وانتشاره كان محدودًا وتظهر علامات الإصابة به بوضوح، مطالبًا بإنشاء تجمع طبي أشبه بـ «حلف الناتو» لمواجهة أجيال جديدة قد تظهر من الفيروسات قد يكون سلوك ونمط انتشارها مختلفًا عن الإيبولا، فتصيب الإنسان ولا تظهر أعراض الإصابة عليه إلا لاحقًا، وكأنه يتحدث عن الكورونا.
لم تهتم الحكومات بمواجهة الفيروسات اللاحقة على الإيبولا رغم التطور التكنولوجي والعلمي، ولم تلقَ مبادرة بيل جيتس استجابة على أرض الواقع على الرغم من تحذيرات العلماء المستمرة حول التطور الفيروسي المستمر، فلماذا ننقذ الصين أو الدول النامية من فيروسات خاصة بها طالما لا تصيبنا؟
تقاعست كذلك شركات الأدوية عن البحث حول عائلات الفيروسات المرشحة للظهور بسبب الأنماط الرأسمالية الزراعية التي تحدثنا عنها، لأن هذه الأبحاث لا تجد التمويل أو الدعم الكافي من ملاك شركات الأدوية الكبرى أو حكوماتها. فبماذا كانت تهتم الحكومات أكثر من اهتمامها بالبحث العلمي؟
نهج النيوليبرالية في السنوات الأخيرة
في السنوات الأخيرة، بات العالم بأسره يسير بخطوات أسرع نحو مزيد من النيوليبرالية وسياسات التقشف والتخلي عن مسؤوليات دولة الرفاه الاجتماعية، لصالح الشركات متعددة الجنسيات، والتسليح النووي، والإنفاق العسكري الذي بلغ إجمالي نفقاته 3 تريليون دولار سنويًا في العقد الأخير، ضاربين عرض الحائط بمؤشرات الفقر والجوع المتصاعدة، وخطورة التلوث البيئي والتغير المناخي، وتراجع الإنفاق على الرعاية والتأمين الصحي.
بحسب تقرير مؤشر الفقر متعدد الأبعاد الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2019، هناك 1.3 مليار شخص يعانون الفقر «متعدد الأبعاد». وهو مؤشر حديث يدرس حالة الفقر ليس فقط بحساب المرتبات ودخل الفرد، بل في تجلياتها متعددة الأبعاد، أي فقر الصحة ونوعية العمل، والافتقار للأمان.
ومن بين 1.3 مليار شخص ممن تم تصنيفهم كفقراء، هناك حوالي 663 مليونًا من أطفال دون سن الـ 18 عاما، وحوالي الثلث منهم، أي حوالي 428 مليون طفل دون سن العاشرة.
ومن الجدير بالذكر أن الفقر واللا مساواة ليسا حكرًا على الدول النامية والعالم الثالث، ففي 2017 ذكر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن المسح الذي أجراه حول وضع الأسر، كشف أن 44% من الأمريكيين حال تعرضهم لأي حادث مفاجئ، لن يكون بحوزتهم 400 دولار نقدًا، بينما يملك 0.1 % من الأمريكيين ثروة تساوي ثروة 90% من الأمريكيين.
أما التلوث البيئي، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية من خطورة تنامي الظاهرة في 2012، وتنبأت بأنها ستسبب وفاة مبكرة لـ 7 مليون شخص بالعالم، ولا تنال هذه القضية أولوية في خطاب الحكومات. حالها حال التغير المناخي الذي لم تبذل أغلب حكومات العالم مجهودات جادة في مكافحته، بل أنتج اليمين القومي الصاعد مؤخرًا خطابات تسخر من خطورة التغير المناخي أو تصفه بمجرد أوهام لا تستحق إنفاق الأموال عليها فالمال والأرباح أهم من مستقبل البشر.
ويسلِّط تقرير أعدّته المنظمة العالميّة للأرصاد الجويّة، المؤسسة التابعة للأمم المتّحدة، الضوء على الحرارة المتزايدة التي شهدها عام 2019، وتسارع ارتفاع مستوى سطح البحر، وأحوال الطقس المتطرّفة؛ بحسب المنظمة كان العام الماضي ثاني أكثر الأعوام حرارة على الإطلاق على صعيد العالم، إذ بلغ متوسط درجة الحرارة العالميّة 1.1 درجة أعلى من مستويات ما قبل العصر الصناعي.
تفاعل الحكومات مع زلزال كورونا
على الرغم من تأخر الكثير من الحكومات في التعاطي الجاد مع توابع الكورونا الصحية والاقتصادية، فبعد تفشي المرض، أسرعت الحكومات بتخصيص حزم من المساعدات والتعويضات لشركات القطاعات المتضررة لتعويض خسائرهم، وتخفيض فوائد القروض البنكية لتيسير ذلك، وجدت أغلب الحكومات أنفسها أمام تراجع الطلب الكلي والركود المنتظر وخسائر سوق المال، مضطرة لتبني برامج وسياسات «كينزية» أو ميلًا لليسار لإنقاذ مجتمعاتها من انهيار حتمي.
في أمريكا التي سخر ترامب من قدرة الفيروس وخطورته في البداية، خصصت إدارة ترامب حزمة تحفيز بتريليون دولار من أجل امتصاص التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، يتوجه نصفها للشركات بما فيها الشركات القائمة على رأس المال الوهمي التي تحقق أرباحها الرئيسية من البورصة، تتضمن 50 مليار دولار لشركات الطيران التي تواجه شبح الإفلاس، و250 مليار دولار قروضًا للشركات الصغيرة، و150 لباقي قطاعات الاقتصاد الأكثر تضررًا، مع بعض المبالغ لدعم الموظفين في الراحة مدفوعة الأجر وإمكانية إقراض كل مواطن أمريكي 1000 دولار.
بريطانيا التي يحكمها حزب المحافظين وعلى الرغم من عدم رغبة رئيس وزرائها جونسون في الإغلاق المبكر لمنع الفيروس من الانتشار والحفاظ على الاقتصاد، وبنى إستراتيجيته على دعم قطاع الأعمال الخاص لأطول مدى ممكن، حتى أنه مع الخوف من انهيار النظام الصحي اضطرت حكومة حزب المحافظين البريطانية لتأجير المستشفيات الخاصة من مستثمريها بمبلغ 2 مليون و400 ألف جنيه إسترليني يوميًا، في نفس الوقت الذي تتيح فيه قروض بقيمة 399 مليار دولار للشركات المتضررة، وهو ما يعادل 15% من ناتجها المحلي الإجمالي.
اضطرت المملكة المتحدة للتحدث على لسان وزير خزانة «المحافظين» بمضاعفة الإنفاق على البحث والتطوير بحلول عام 2024، وتوفير حزمة دعم عاجلة لهيئة التأمين الصحي القومية بـ 5 مليار جنيه إسترليني، ضمن برنامج خاص لمواجهة الكورونا بـ 12 مليار جنيه إسترليني.
أما حكومة أسبانيا اليسارية فأعلنت عن حزمة ضخمة حجمها 220 مليار دولار، لمساعدة الشركات وحماية العمال والفئات الضعيفة والعمالة المؤقتة، وتأخير مستحقات الرهن العقاري، بالإضافة لتأميم المستشفيات الخاصة وضمها تحت تصرف الدولة.
العالم المتخيل بعد الكورونا
تضع أزمة الكورونا العالم والمجتمع الدولي كله أمام حقيقة أزمته السياسية والاقتصادية، وجوهر اختيارات حكوماته، وتجذير النيوليبرالية في السنوات الأخيرة، ويوجه سؤالاً عن تدخل «اليد الخفية» كيف لها أن تنقذ ملايين البشر اليوم من الموت فقرًا إذا تركت للقطاع الخاص ورجال الأعمال الذين رفضوا توقف الأعمال وتعويض موظفيهم بدون الحصول على تعويضات من الحكومات؟
صحيح أن الحكومات مهمومة بالسيطرة على الركود والتضخم ونسب البطالة لأغلب مواطنيها جراء الأزمة الحالية، لكن أليست هي ذاتها الأسباب تقدم فرصة مواتية للنقاش وصعود خطابات يسارية ديمقراطية حول تراكم الثروات وعدالة التوزيع والعدالة الضريبية والملاذات الضريبية التي يتسارع إليها رجال الأعمال والأثرياء قاطبةً؟
العالم بعد معاناة الكورونا يستحق التأمل والتفكير أمام الأسباب التي تؤدي بالبشرية لهذا الهلاك، فعلى الرغم من الخسائر الاقتصادية الكبيرة، لكن أحدًا من قادة العالم لم يلتفت إلى أن الكرة الأرضية نعمت بهدنة بيئية كبيرة، جراء توقف أنشطة الوقود الأحفوري، وتوقف مصانع الصلب والسيارات، والعديد من الأنشطة الاقتصادية الملوثة للبيئة، ما تسبب في خفض نسب التلوث الهوائي، وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 25%، وزيادة نسب الهواء النقي. وأن هذا الأمر كفيل بضرورة خروج تيارات يسارية ديمقراطية تناقش جدية أداء وخطابات ونتائج النيوليبرالية أمام أزمات التغير المناخي والتلوث البيئي؟
الأنظمة الصحية بأكملها تنهار أمام الكورونا مع تزايد أعداد الإصابات، بسبب تجاوز سقف قدرات المستشفيات العامة من أعداد للأسرة والعناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي، حتى اضطرت الحكومات لاستئجار المستشفيات الاستثمارية أو تأميمها، ألا يستحق ذلك محاسبة الحكومات النيوليبرالية على عبوديتها لأرقام العجز والديون، في مقابل سياسات تقشف وتقتير على الصحة؟ ألا يقتضي ذلك صعود خطاب يساري ديمقراطي حقيقي يهتم ويعتني بإعادة الاستثمار الكبير في القطاعات والخدمات الصحية وتوقيف خصخصتها كأولوية للنجاة، ويعطي الأولوية لأنظمة التأمين الصحي الهشة، وتطوير البحث العلمي والدوائي؟
أمام التيارات اليسارية الديمقراطية فرصة من رحم المعاناة الحالية التي أوصلتنا النيوليبرالية إليها، وتعيد ترتيب أوضاعها وتجذير خطابها مقابل خطابات العداء للمهاجرين والعنصرية، ومقابل احتكار الثروات والتهرب الضريبي بإقرار ضرائب الثروة والضرائب التصاعدية، وأن نجاة البشرية من التلوث البيئي والتغير المناخي وتزايد معدلات الفقر المركب، واللا مساواة والعنصرية والحروب، لن يواجه إلا بالتضامن الإنساني والسلام الحقيقي أمام التوحش والاستغلال.
صحيح أن أعداد ضحايا الكورونا كبيرة، لكنه ناقوس خطر لثورة وتمرد الطبيعة ضد هذه الأنماط النيوليبرالية، وإذا أخمدت ثورة الكورونا دون تغيير كبير يوازيها، فستخرج تجليات جديدة للنيوليبرالية أشد فتكًا، ليموت البشر ويحيا الاقتصاد الحر، والنجاة الفردية.