مكافحة الكورونا: هل تكون خطوة جديدة نحو الشمولية؟
كان المسلسل الإنجليزي «المرآة السوداء – Black Mirror» الذي عرض في السنوات الأخيرة 2011 – 2016 صرخة تحذيرية ضد التطور التكنولوجي، في إحدى الحلقات يتنبأ صناع المسلسل بزراعة البشر لرقائق إلكترونية توضع خلف آذانهم لتسمح لهم بتسجيل كل ما يرونه ويسمعونه. باستخدام جهاز تحكم عن بعد، يمكن للمستخدم إجراء إعادة عرض ذاكرته مباشرةً إلى عينيه أو إلى جهاز عرض فيديو.
قد يصبح خيال صناع المسلسل حقيقة في الأيام المقبلة، فسياسات الحكومات تجاه محاصرة فيروس كورونا المستجد يلفت الأنظار والأذهان للنقاش الفكري والفلسفي حيال التطور التكنولوجي في مراقبة الحكومات لسلوكيات الأفراد وانتهاك أبسط خصوصياتهم في الحياة. وهو ما يبدو أنه صراع فلسفي وقيمي نتابعه في كتابات أغامبين وجيجك وتشومسكي وبوفال هراري مع إعادة طرح لأفكار ميشيل فوكو، وما تجسده هذه الصراعات الفلسفية على أرض الواقع في الأشهر والسنوات المقبلة.
الكورونا تخلق الجسد الطيع
كانت فكرة المراقبة والسلطة على الجسد، هي الشغل الشاغل لفلاسفة ما بعد الحداثة، خاصة ميشيل فوكو، الذي كرس مشروعة الفلسفي من أجل تتبع تقنيات المراقبة والإخضاع التي تمارسها السلطات على الجسد، في أعمال شهيرة له مثل «المراقبة والعقاب» الصادر في الستينيات. يتتبع فوكو تاريخ فكرة السجن، وكيف أسهمت التقنيات الحداثية في القرن السابع عشر والثامن عشر بما فيها الدفترة والتعدادات السكانية في ترسيخ الحداثة كنسق ضبطي. المبدأ هو جعل كل النزلاء عرضة للتفتيش المستمر، أو على الأقل إيهام هؤلاء النزلاء بأنهم خاضعون لمراقبة دائمة. إن المساحات الداخلية الضيقة يفترض أنها تعمل على تحقيق النظام والأمن، وتقضي على الفوضى والشغب داخل المجتمع، لكنها في الواقع تعمل على قمع الجسد.
في كتابه الآخر «ولادة الطب السريري» يكمل فوكو مشروعه في البحث عن الجسد في ظل الحداثة، وكيف يسهم الطب في خدمة مشروع الدولة الحديثة في الضبط، وانشغل بفهم كيفيّة تطويع معرفة الجسد داخل مؤسسة السلطة الطبيّة. وبتأريخ مأسسة التدخّل السياسي لتدبير الصحّة، وتحول الصحّة من شأن فردي خاص، إلى أمر سياسي عام.
وفي الفصل الثاني لنفس الكتاب «ولادة الطب السريري»، تحدث فوكو عن الأوبئة تحديدًا باعتبارها مهمة سياسية للأطباء، وأنه من المستحيل أن يوجد طب للأوبئة إلّا إذا أُلحق بإدارة أمنيّة. ويتكون كيان سياسي للأطباء في كل مقاطعة ليتأسس وعي طبّي على صعيد الدولة، منوط به مهمّة ثابتة تقوم على المعلومات والرقابة والإلزام.
يرى فوكو أن مبدأ المراقبة كان حاضرًا في كل الأوقات، وفي كل الجهات، فأينما كنا في مجتمعات الحداثة نجد عيون الرقيب لا تنام. أصبحت الرقابة نظامًا اجتماعيًا منظمًا وعقلانيًا، ينفق أدنى التكاليف، ويحصل على أكبر العائدات، أصبحت السلطة تتحكم في كل فضاءات الأفراد، وهذا يستدعي تطوير تقنيات مراقبة خاصة بكل فضاء، وهو ما يعني أن المجتمع الرأسمالي الحديث قائم على المراقبة الشرسة وتطويع الأجساد لها.
سارعت الصين في السيطرة على الوباء عن طريق المراقبة الأمنية الصارمة الموجودة لديها قبل الوباء، حيث بدأت الصين في 2014 العمل على مشروع رقابة لـ«تحسين السلوك الفردي والاقتصادي»، ودعته «نظام الرصيد الاجتماعي». مهمة البرنامج تتلخص في عمل ملفات خاصة بأداء المواطنين والشركات المهني والاجتماعي، وذلك عبر تحليل كم ضخم من البيانات والصور التي تُجمَع بواسطة كاميرات المُراقبة المنتشرة على طول البلاد، وتشمل تلك البرمجيات نظامًا مُتقدمًا للتعرف على الأوجه، وتُسجَّل بواسطته نشاطات كل مُواطن في ملف خاص به، ومن ثم تقييمه بناء على هذا الملف.
فوجود هذا القدر الهائل من الكاميرات المنتشرة في البلاد ومنها 300 مليون كاميرا حرارية تراقب الصينيين جميعهم، وتكشف عن درجة حرارة كل مواطن، أسهمت في سرعة السيطرة والوصول لمن لديهم ارتفاع في درجة الحرارة واحتمالية إصابتهم بفيروس الكورونا. أسهم هذا المستوى من التطور التكنولوجي في حصار الصين للفيروس ودعم الحجر الصحي الكامل الذي فرضته بالقوة، وهو ما أصبح نموذجاً يتناقش حوله بعض المفكرين والسياسيين، عن مدى فاعلية هذا النموذج في مكافحة الكورونا وغيرها من الأوبئة اللاحقة.
وفي إسرائيل يتجسس جهاز الأمن العام «الشاباك» على هواتف المواطنين بموجب قانون استثنائي، وهو ما يساعد وزارة الصحة في الوصول لبعض المصابين واعتقالهم بالقوة.
مكافحة الأوبئة ومكافحة الإرهاب
تستعد المملكة المتحدة لظهور تطبيق خاص يكشف المخالطين للمصاب عن طريق تقنية «البلوتوث»، تمكن هذه التقنية من تواصل الحكومة مع المخالطين ومطالبتهم بالعزل المنزلي لإجراء الكشف عليهم، دون الحاجة لآليات التقصي بسؤال المصاب عن أصدقائه ومعارفه ومن يختلط بهم، ويساهم هذا التطبيق في تحذير المصابين أو المخالطين لهم من الخروج من المنزل لأكثر من ساعة برسائل نصية.
دمجت تايوان، هي الأخرى، قاعدة البيانات الخاصة بالتأمين الصحي مع قاعدة بيانات الهجرة لمراقبة حركة السفر عبر تقنية QR لتطلب من المشتبه بهم كمخالطين لحالات أو من سبق لهم السفر إلى الصين سرعة التوجه إلى المستشفيات عبر رسائل نصية على هواتفهم، وكذلك تتم مراقبة المصابين بإشارة الهاتف، ففي حالة خروج المصاب من منزله ستعرف السلطات مباشرة عن طريق هاتفه وتطلب منه في رسالة نصية سرعة العودة، ولو خرج دون هاتفه سيجد سيارة شرطة عند باب منزله.
في أمريكا حيث طلب كبير موظفي البيت الأبيض جاريد كوشنير إنشاء نظام وطني لمراقبة انتشار الفيروس، صحيح أن البيت الأبيض يقول إن جمع البيانات مسؤولية الولايات والمستشفيات وشركات الرعاية الصحية وليست الحكومة، ورغم هذا التصريح ورغم خطورة فيروس كورونا، لكن هذا لم يمنع البعض من مقارنة هذه الصلاحيات في الرقابة وجمع المعلومات بقانون باتريوت.
قانون باتريوت أو قانون الوطنية هو تشريع أمريكي تم إقراره في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، يهدف هذا القانون لتوفير الأدوات المطلوبة لمكافحة ومواجهة الإرهاب. وبموجبه مُنحت المؤسسات الأمنية الأمريكية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووكالة الاستخبارات المركزية CIA صلاحيات موسعة لمراقبة وتفتيش المشتبه فيهم والاطلاع على الممتلكات الشخصية للأفراد، ورفع العوائق القانونية للتنصت على المحادثات الهاتفية، ومراقبة الرسائل الإلكترونية والمعاملات البنكية والملفات الطبية، دون الحاجة لموافقة قضائية مسبقة.
نعم مكافحة جائحة وبائية مثل الكورونا تستدعي بالضرورة بعض الإجراءات الاستثنائية على كافة المستويات، ولكن كورونا ليس الجائحة الوبائية الأخيرة، وحتمًا تحتاج البشرية لاستعدادات دائمة للتنبؤ بالأوبئة ومحاولة حصارها وتحجيمها والسيطرة عليها مبكرًا.
إطلاق صلاحيات المراقبة وانتهاك الخصوصية ومنح المؤسسات الأمنية وأفرادها سلطات استثنائية صحيح أنها نجحت في أحيان كثيرة لإحباط عمليات إرهابية والوصول لبعض التنظيمات، لكنها في نفس الوقت وحتى في إطار الأنظمة الديمقراطية سمحت بانتهاكات عديدة من تفتيش المنازل والانتهاك الجسدي لمن يوضعون في دوائر الاشتباه، وكما أن قاعدة البيانات التي يتم إعدادها تسمح بالوصول لكل المصابين والمخالطين لهم، فمن الممكن استخدامها في مكافحة الهجرة.
وإذا كانت هذه التساؤلات والتخوفات مطروحة في أمريكا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا، فما هو المتخيل مع شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط والعالم الثالث من مصير هذا التطور التكنولوجي للمراقبة والتتبع والتحكم في السلوكيات الفردية للمواطنين، ومنعهم من الخروج من منازلهم برسالة نصية.
فكما ينبغي أن يفيق العالم بعد نهاية الجائحة بضرورة الالتفاف حول العلم، والانفتاح أكثر على مشاركة الخبرات والمعلومات والتعاون في التهديدات المتعولمة، وإعادة النظر في الإنفاق على البنية الصحية، هي ذات الجائحة قد تسارع في تشكيل أنظمة شمولية تتمتع بقدر أكبر من التسلط والمراقبة والانغلاق.
صحيح أن خطر الكورونا يفوق مخاطر الإرهاب ويحتاج لتطور تكنولوجي أكبر، لكن يجب أن يكون الهدف الحقيقي هو منع حدوث المرض في المقام الأول، فبعد عامين أو ثلاثة لن يكون المطلوب إنشاء تقنية لرصد الإجراءات التقييدية أثناء تفشي المرض، لكن منع حدوثه في المقام الأول. بعد عامين أو ثلاثة من انحسار التهديد بالفيروس التاجي – بحسب مقال الكاتب الأمريكي برونو ماسشيز في فورين بوليسي – سيكون التحدي هو بناء نوع النظام الذي يمكن أن يمنع الأوبئة المستقبلية قبل حدوثها، تمامًا كما يجب أن يكون هدف سياسة مكافحة الإرهاب الفعالة هو وقف الهجمات المحتملة، بدلًا من القبض على الجناة بعد نجاحهم.
هل هناك من بديل؟
لكن ما تطرحه الأزمة الحالية والاستجابات المختلفة لها، هو هل يمكن أن يكون هناك بديل لتلك لشمولية التكنولوجية المنشودة؟
هل يمكن أن يكون هناك طريق نحمي به أنفسنا من الأوبئة بينما نحافظ على خصوصية بيانات المواطنين؟ التعامل مع أزمة الفيروس يتطلب التحرك بما يشبه التعبئة العامة في زمن الحرب. وهذا أمر غير مبالغ فيه. الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة قد تتسبب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم (نعوم تشومسكي).
المدافعون عن الحريات الشخصية وحماية الخصوصية وسرية المعلومات وحرية الحركة والتنقل، وعدم استمرار حالات الاستثناء، ينبغي أن تتسم أطروحاتهم بإدراك التكاليف الاقتصادية والاجتماعية المرتفعة جراء ما يطالبون به، ومن ناحية أخرى كيفية خلق التوازن بين حالات الاستثناء المتطلبة للرقابة، والحفاظ على قدسية الحرية الشخصية وسرية المعلومات.
قد تتيح خوارزميات جوجل حلًا نموذجيًا يقف بالحكومات عند هذا الحد من التطور التكنولوجي، مثلما أشارت صحيفة نيويورك تايمز في الرابع من أبريل الحالي، كانت عمليات البحث عن «لا أستطيع أن أشم» – وهي أعراض شائعة لعدوى فيروس كورونا – أعلى في نيويورك، ونيوجيرسي، ولويزيانا، وميتشيجان، وهي الولايات الأربع التي لديها أعلى معدل انتشار للفيروس التاجي. في الواقع، كانت عمليات البحث المتعلقة «بفقدان حاسة الشم» خلال هذه المدة مطابقة تمامًا لمعدلات انتشار الأمراض على مستوى الولاية. وكانت عمليات البحث عن non-sento odori «لا أستطيع أن أشم» تتزايد في إيطاليا مع انتشار تفشي الفيروس التاجي، قبل وقت طويل من نشر تقرير يحدد الأعراض المحتملة.
إحدى الطرق التي لفتت الانتباه هي ما فعلته شركة كينسا للأجهزة الطبية، باستخدام موازين حرارة متصلة بالإنترنت لتحميل قراءات درجة الحرارة إلى منصة مركزية وتطبيق إلكتروني خلال 12 ثانية. وقد أنشأت إحدى الشركات خريطة وطنية لمستويات ارتفاع درجة الحرارة في أواخر مارس، وكانت أسرع وأكثر دقة من أي طرف آخر في توقع اتجاهات الإصابة بالكورونا.
هذا الاستخدام المحدد والمفيد للتكنولوجيا دون التورط في إتاحة فرصة لخرق الخصوصية والبيانات الشخصية، بالإضافة لضخ إنفاق كبير على البنية التحتية للمؤسسات الصحية وبرامج التأمين الصحي، بالإضافة لتمويل حقيقي للبحث العلمي، والتوقف عن اللجوء إليه في أوقات الطوارئ والكوارث وفقط فالبشرية قد لا تحتمل جائحة جديدة لم تستعد لها تماماً مثل ما حدث مع السارز وأنفلونزا الخنازير والإيبولا، وهو ما جعل شركات الأدوية بطبيعة الحال أن تركز جهدها البحثي والمالي في الأدوية والأبحاث المدرة للمكاسب.
بالإضافة للتوعية المستمرة للمواطنين بالسلوكيات الصحية السليمة، وربما إعادة هيكلة لقوانين وديناميكيات العمل بتقليل الكثافات، والتوسع في تقنية العمل عن بعد أو العمل من المنزل المتوقع لها الزيادة والانتشار، وربما إعادة تصميم وهيكلة الطرق والمدن ووسائل المواصلات للسيطرة المستقبلية على أي انتشار وبائي.
لكن الرغبة الحميمية في تسخير التطور التكنولوجي للتوجيه في الانتخابات أو المراقبة للمعارضين أو انتهاك الحياة الشخصية يظل هاجساً وحلماً لكل الأجهزة الأمنية والأنظمة السلطوية في العالم، لتتحقق نبوءة فوكو وتصوره بتوحد المستشفيات والأنظمة الصحية مع السجون والثكنات العسكرية والمؤسسات الأمنية، كسلطات تتحكم في أجساد البشر وتقمع حرياتهم.