القافلة في بغداد: الرأسمالية الأمريكية وتدمير العراق
ثلاثة عشر عامًا قد مضت، أذكر أني كنت في العاشرة من عمري عندما سقطت بغداد، كنت بمثابة طفل يقتله فضوله لمعرفة ما يحدث هنا وهناك. ففي بغداد كانت تلك المشاهد الحية من ساحة الفردوس تبث لكافة أنحاء العالم والدبابات الأمريكية منتشرة من أجل «تحرير العراق من قبضة صدام الوحشية». وفي قلب العاصمة المصرية لم يكن المشهد بعيد الصلة، فبين مظاهرات 20 و 21 مارس/آذار في ميدان التحرير المنددة بالهيمنة الأمريكية والاحتلال الاستباقي للعراق من جانب وبين مسرحية إستاد القاهرة الشهيرة وقتها.
وكطفل تفتح وعيه على بداية القرن الأمريكي الجديد وسط شد وجذب من الداخل والخارج، انتفاضة في فلسطين حامية الوطيس في مستهل القرن، 11 سبتمبر ومحور الشر والحرب الدولية على الإرهاب وابن لادن يتكرر اسمه في كل مكان، ثم تشهد في بداية عامك الحادي عشر سقوط تمثال الديكتاتور وسقوط بغداد في يد بلير اليمنى ويد بوش اليسرى وهما يضاجعان كوندوليزا في مجلس الأمن.
في تلك الفترة وقعت على مسامعي لأول مرة كلمة «الاحتلال»، ليست تلك الموجودة في كتب التاريخ المدرسية وأفلام روايات نجيب محفوظ، بل واقع تعيشه وفرض عليك بقوة المال والبنك الدولي وصواريخ «سوبرمان»، وأنت لا تملك سوى المتابعة والمشاهدة. لازلت أذكر تلك «الخناقة» الكوميدية في مؤتمر القمة «العربية» بين القذافي وعبد الله –الملك فيما بعد- وهما يتقاذفان الاتهامات بالخيانة والعمالة، حينها أيقنت أنهم جميعهم بمن سقط تمثاله في ساحة الفردوس قد قدموا بغداد وملايين العراقيين على طبق من نفط للعم سام.
عاصفة الصحراء التي لم تهدأ بعد
جذور الأزمة بدأت منذ أغسطس 1990 عندما اجتاحت القوات العراقية لنظام صدام الكويت باحثًا لنفسه عن تعويض لما حدث من خسارة اقتصادية فادحة في الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، بالإضافة للحرب الاقتصادية التي شنها «المجتمع الدولي» على النظام البعثي. الكويت عبارة عن بقعة من البترول على الخريطة الدولية، سيطرة صدام على هذه البقعة تشكل خطرًا كبيرًا على المصالح الجيوسياسية لكل من أمريكا والسعودية في منطقة الخليج. كان من الطبيعى أن يعلن بوش الأب عن إرسال قوات «الحرية» الأمريكية للدفاع عن -المصالح المشتركة- السعودية من جنون صدام. وفي تلك الفترة كان ديك تشيني هو وزير الدفاع الأمريكي والذي سنعود له لاحقًا.
في الحادي عشر من سبتمبر 1990 حددت الإدارة الأمريكية الأهداف الأربعة الرئيسية التي ستنهي أزمة الاجتياح العراقي للكويت، وهي:
1- الانسحاب الفوري وغير المشروط من الكويت.
2- عودة الحكومة الكويتية.
3- تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي.
4-حماية الرعايا الأمريكان هناك.
وبصرف النظر عن صحة تلك الأهداف ومداها الآن، ففي تلك الفترة صارت أمريكا القوى الوحيدة المسيطرة في العالم اقتصاديًا وسياسيًا مع انهيار جدار برلين والستالينية المتهالكة، وصارت الرأسمالية العالمية وإستراتيجية السوق الحر هي المحرك الرئيسي واللاعب رقم 10 في اللعبة الدولية الجديدة المسماة العولمة بغطاء من الأمم المتحدة بقوانينها الدولية من ناحية، ومؤتمرات دافوس واتفاقية الجات من ناحية أخرى. ما كانت تريده -حقًا- الإدارة الأمريكية، وهي ممثلة الطبقة الحاكمة العالمية الظافرة بنصرها على العدو الأحمر، هو أن تشرك منطقة الخليج النفطية في هذه اللعبة الدولية الجديدة بشكل فعال أكثر من فترة الحرب الباردة؛ مما يضمن لها موارد اقتصادية ضخمة في هذه المنطقة في يد السوق الرأسمالية العالمية، وهو ما لا يمكن تفويته.
ومن أجل تمهيد المسرح لهذا المشهد الاقتصادي المرتقب والمراد، تم تشكيل التحالف الدولي ضد العراق بأمر مباشر من العم سام من 34 دولة على رأسهم (أمريكا – السعودية – المملكة المتحدة – فرنسا – مصر «مبارك») بقوة 660,000 جندي الغالبية العظمة منهم من القوات الأمريكية. وأول عمليات هذا التحالف سميت «درع الصحراء»، ثم في 17 يناير 1991 انطلقت الهجمات الجوية للتحالف الدولي على المنشآت والقطاعات العراقية في الكويت والعراق، وبدأت «العاصفة».
في 28 فبراير/شباط، يسدل الستار على مسرحية الـ 100 ساعة من الحرب بإعلان بوش الأب وقف إطلاق النار، ولم ينتج عن هذه المئة ساعة سوى 100,000 إلى 200,000 قتيل (شهيد) أغلبهم من المدنيين العراقيين. في مئة ساعة كان على قوات «الحرية» الأمريكية أن تقتل من 1000 إلى 2000 عراقي كل ساعة تقريبًا بمجمل 60,000 طن من المتفجرات الحديثة لدى قوات «الحرية» الأمريكية، التي تم قصفها على بغداد والفلوجة وغيرهما، ولم يتسنّ لها تحقيق هذا «الإنجاز» –مثلاً- إلا بضرب ميدان السوق في الفلوجة في 13 فبراير/شباط 1991 بقنابل عنقودية كيميائية “ضالَّة» تودي بحياة 130 عراقيًّا معظمهم من الأطفال، أو أن تقصف في ذات اليوم ملجأ العامرية في العاصمة بغداد لقتل 315* عراقىًّا معظمهم من النساء والأطفال، كانت هذه بداية العاصفة فقط.
لم يكن الكيان الصهيوني بمنأى عن الصراع والحرب التي تدور من أجل السيطرة على منابع البترول الخليجية (الأوبك)، فصدام حسين كان يريد تفكيك تحالف بوش-تاتشر الدولي من الباب الخلفي في الثامن عشر من يناير/كانون الثاني 1991، بإطلاق ثمانية صواريخ سكود صوب عاصمة هذا الكيان*، راميًا أن يشترك في القتال تحت لواء بوش–تاتشر الذي يضم دولاً عربية مثل السعودية وسوريا (نظام الأسد صاحب الممانعة الكرتونية) ومصر، وبالتالي سيتفكك التحالف تلقائيًّا بانسحاب هذه الدول العربية منه؛ مما لا يدع من مسوغ لبقائه في المنطقة واستكماله للحرب. لكن الإدارة الأمريكية، وبحكم علاقتها الجيدة مع صدام ونظامه فيما سبق، كانت تدرك مدى تأثير اشتراك الكيان الصهيوني في الحرب بشكل سلبي على هدفها الرئيسي؛ البترول، لذا طالبت الكيان الصهيوني «بضبط النفس» وهو ما قد حدث، وأسباب طلب الإدارة الأمريكية هذا:
1- أن تبقي الكيان الصهيوني آمنًا وبعيدًا عن النزاع العسكري الدائر.
2- أن تضمن سيطرتها الاقتصادية والسيطرة على القرار السياسي فيما بعد الحرب، وذلك عن طريق المصالح المتشابكة بين الطبقات الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط ونظيرتها العالمية في منظومة الإمبريالية الجديدة؛ مما يعزز من قوة هذا الكيان في دائرة الصراع هذه دبلوماسيًا واقتصاديًا واستمراره في توسعه الاستيطاني في فلسطين منذ ما قبل 1948 وسط منطقة تعاني شعوبها الطبقية والحروب والطائفية والتدهور الاقتصادي والسياسي وحتى التعليمي والصحي والتكنولوجي، حتى نصل إلى خلفية دبلوماسية مثقوبة ومهترئة تحت عناوين «السلام» و«وقف الصراع في منطقة الشرق الأوسط»، وهو ما حدث في اتفاقية أوسلو في 1993.
وكنتيجة أولى بعد انتهاء الرياح الأولى للعاصفة وتعزيزًا للمصالح بين الطبقات الحاكمة هنا وهناك وبسط الهيمنة الرأسمالية وأمركة المنطقة، بدأ الحديث في فبراير/شباط 1993 عن أعجوبة العجائب وهي «السوق الشرق أوسطية»، والتي كان المبشر الأول بتعاليمها في مصر يوسف والي، وزير الزراعة «المسرطن» لدى حاشية مبارك. تلك السوق التي تمثل بالدرجة الأولى مصالح الشركات متعددة الجنسيات المملوكة للطبقات الحاكمة العالمية في بسط نفوذها السياسي والاقتصادي بشكل فعلي دون مواربة. فببساطة تتمّ السيطرة على كافة وسائل الإنتاج والمواد الخام ومصادر الطاقة «الشرق أوسطية» التي تصبح صادرات من الشرق إلى الغرب بأسعار زهيدة في مقابل إغراق «السوق الشرق أوسطية» بالبضائع المختلفة الزائدة عن الحد بل والسعي لخصخصة القطاعات والمرافق العامة؛ مما يضمن للاستعمار الجديد سيطرته الكاملة اقتصاديًا كما كان بالضبط في ممارسات الإمبريالية الكلاسيكية الاقتصادية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولا يمكن إغفال التواجد العسكري الأمريكي الدائم بعد الحرب في دول منطقة الخليج المختلفة، التي صارت قواعد عسكرية للبنتاجون.
النتيجة الثانية لرياح العاصفة قد ظهرت للعيان بعد 4 أيام فقط من الاجتياح العراقي للكويت. ففي السادس من أغسطس/آب 1990 أصدر مجلس الأمن قراره الشهير رقم 661 والذي نص على فرض عقوبات اقتصادية صارمة على العراق (صدام) وإجباره على الانسحاب من الكويت، إلا أن هذا القرار أنتج حصارًا للشعب العراقي استمر لمدة 13 سنة؛ أي لم ينتهِ الحصار سوى بالاحتلال الاستباقي في مارس 2003.
ثلاثة عشر سنة من الحصار والتجويع الذي فرضه مجلس أمن الطبقة الحاكمة العالمية على الشعب العراقي، الذي دفع ثمن صناعة أمريكا للديكتاتور في بلادهم. سنوات عجاف دمرت فيها البنية التحتية للعراق، فثلثا القوة العاملة العراقية قد كون جيشًا كبيرًا من العاطلين نتيجة لتوقف القطاعات الحكومية والأهلية عن العمل بسبب الحصار المفروض.
غذائيًا كان العراق يستورد 200 ألف طن من الحبوب شهريًا قبل الحرب، أما بعده فلم يسمح له سوى باستيراد نصف هذه الكمية، فضلًا عن التدهور التعليمي الذي نتج عنه تسرب تعليمي مفزع بلغ 130 ألف طالب وطالبة كل سنة تقريبًا، هجرة أكثر من مليوني ونصف المليون عراقي في أغلب الحالات هربًا عن طريق الحدود الشمالية للعراق بسبب كثرة التنكيل والاعتقال السياسي الذي فرض بجنون في فترة الحصار من قبل نظام حزب البعث. تكفي قراءة تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان عن نتائج ذلك الحصار الصادر في 1999(3*) لمعرفة حجم النتائج الكارثية للحصار على مدار 9 سنوات فقط من أصل 13 سنة. بلد بهذه الحالة المتردية اقتصاديًا واجتماعيًا وتعليميًا وسياسيًا قد «عاد إلى حقبة ما قبل الصناعة» على حد وصف وزير الخارجية الأمريكية (جيمس بيكر) آنذاك، قد صار بين عشية وضحاها في نظر ذات الإدارة الأمريكية يمتلك أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيميائية و«خزعبلية» متطورة تكنولوجيًّا إلى أبعد حد، ويعدّ هو أحد أضلاع محور الشر!.
11 سبتمبر: القافلة تستعد من جديد
عندما يقع النظام الرأسمالي في أزمة دورية معتادة، لا يبقى له سوى الحرب خير سبيل لتعويض الخسارة التي لحقت به. فاقتصاد الحرب يكون هو اللاعب الأساسي في تحريك العديد من التجارات المختلفة، مثل تجارة السلاح المتطورة تكنولوجيًّا باهظة الثمن (بنادق القرن الواحد والعشرين)، وارتفاع أسهم شركات النفط بشكل متسارع. وكانت أفغانستان قبل الدخول على القرن الأمريكي الجديد، تعد حلقة الوصل بين حقول بحر قزوين وطرق خطوط نقل النفط الجديدة.
في خطابه الشهير في 10 سبتمبر/أيلول 2001 في مبنى البنتاجون، أعلن دونالد رامسفيلد حرب أمريكا ضد عدوها الجديد الذي يهدد «نمط الحياة الأمريكية الحر». ذلك العدو الذي أسماه «بيروقراطية البنتاجون» تمهيدًا لعملية خصخصة كبيرة تنشدها الطبقة الحاكمة الأمريكية بجناحيها الديمقراطي والجمهوري؛ مما يجعل الاقتصاد العسكري لمركز الإمبريالية الجديدة ركيزة أساسية لبقائها واستقرارها، والمقابل هو مجرد «أرقام تقديرية» عن الضحايا تذاع مباشرة على شاشات وكالات الأنباء الدولية المختلفة.
وفي اليوم التالي، 11 سبتمبر/أيلول 2001، نفذ «أصدقاء ما خلف الكواليس» بمباركة الإدارة الأمريكية هجوم الطائرات المختطفة على مبنى التجارة العالمي والبنتاجون في وقت واحد. بدأت تنتشر كلمة «محور الشر» كالنار في الهشيم وكل أصابع «المجتمع الدولي» تتجه لاتهام «أسامة وصدام» –حليفا الأمس القريب- بالاشتراك في تنفيذ هذه العملية التي خلفت أكثر من 3000 قتيل في بضع دقائق، ثم يعلن بوش بشكل فوري الحرب الدولية على الإرهاب.
لم يكن «أسامة» على عداوة حقيقة مطلقًا مع الإدارة الأمريكية، فصوره كانت تنتشر على الصفحات الأولى للواشنطن بوست في الثمانينات بوصفه زعيمًا لـ «جنود الحرية» الذين يقاتلون ضد العدو القديم المسمى الكريملين. هؤلاء الجنود الذين كانوا يتلقون التدريب العسكري تحت إشراف ريجان بنفسه في جنة البترودولار (السعودية) فضلًا عن التمويل المادي الضخم، والضلوع في تجارة الكوكايين والهيروين مع ريجان وبوش الأب كما حدث في نفس الفترة بين السي آي إيه (من خلفهم بوش وريجان) مع عصابات الكونترا في نيكاراجوا بالضبط. جدير بالإشارة أن «جنود الحرية المجاهدين» قد أرسلوا 300 مقاتل للانضمام تحت لواء بوش-تاتشر في العاصفة.
لن أتطرق هنا للحديث عن الفاعل الحقيقي لهجمات 11 سبتمبر أو عن المستفيد الرئيسي من حدوثها على هذا النحو، فالأمر كله قد تم تنفيذه بالوكالة عن المستفيد نفسه، الذي لن يترك مفرًا لخلق حيز استثماري ضخم يتمثل في اقتصاد الحروب متعدد المكاسب للإمبريالية الجديدة.
بدأت الجولة الأولى من الحرب الدولية على الإرهاب في أفغانستان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2001، عندما توجهت القوات الأمريكية لإسقاط حكومة طالبان والقضاء على تنظيم القاعدة (ذيول الماضي)، حتى صدور قرار الأمم المتحدة في 6 ديسمبر/كانون الأول 2001 بالدعوة إلى إنشاء حكومة جديدة في أفغانستان؛ الأمر الذي تم بتعيين حكومة كرازي في 22 ديسمبر، إلى أن يتم الإعلان عن مؤتمر «إعادة إعمار أفغانستان» في فبراير 2002. جولة أولى من الحرب الدولية على الإرهاب و«تحرير» العالم الثالث من قبضة التطرف الديني الذي صنعته أمريكا نفسها، خلفت عشرات الآلاف من القتلى وعشرات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين «العائمين»، بالإضافة لانتشار موجة الإسلاموفوبيا في الغرب والتي تتزايد بشكل مطرد إلى يومنا هذا، وتدعمها بشكل قوي دعاية اليمين المتطرف والمحافظين الجدد في دول الغرب كافة.
إعادة الإعمار: الدمار الشامل للعراق
قبل أن تدق طبول الحرب في بغداد بفترة ليس ببعيدة، كانت ملامح الاحتلال الاستباقي للعراق تصاغ داخل أروقة الكونجرس الأمريكي في العام 1998 تحت مسمى «قانون تحرير العراق»، وقتما كان يبلغ الحصار المفروض من الإمبريالية الجديدة على الشعب العراقي ذروته في تردي الأوصاع المعيشية والغذائية والصحية، ثم يعلن «كلينتون الديمقراطي» عن بدء عملية «ثعلب الصحراء» في ديسمبر من العام نفسه. لكن هذا القانون ظلَّ حبيس أروقة الكونجرس الأمريكي حتى جاءت لحظة خروجه للنور بعد حدوث هجمات 11 سبتمبر. فقد وجدت الإدارة الأمريكية المسوغ لوضع العراق على قائمة الدولة التي سيتم «تحريرها».
ففي 29 يناير/كانون الثاني 2002، أعلن جورج بوش الابن في خطابه أن العراق يعد أحد أضلاع محور الشر بجانب كل من كوريا الشمالية وإيران. وفي 9 أبريل/نيسان 2002، تصدر وزارة الخارجية بالاشتراك مع كل من السي آي إيه والبنتاجون مشروع مستقبل العراق، الذي يهدف إلى إخضاع «سوق العراق» لآليات الرأسمالية الجديدة التي يتبناها ممثلًا الطبقة الحاكمة: الحزب الجمهوري (المحافظين الجدد) والحزب الديمقراطي. وفي 9 أغسطس،آب 2002 عقدت الإدارة الأمريكية اجتماعًا مع ممثلي «المعارضة العراقية»، أبرزهم: إياد علاوي، بعثي سابق ورئيس الحكومة المؤقتة فيما بعد، وأحمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي؛ وذلك لرسم ملامح انتقال العراق لـ «الديمقراطية الأمريكية» فيما بعد الحرب، وقد تم هذا الاجتماع في «واشنطن دي سي» بدعوة من ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي وقتها، كما حضر الاجتماع مسؤولون من وزارة الخارجية والبنتاجون، وكوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي، والعضوة السابقة في مجلس إدارة شركة «شيفرون» للبترول.
ولكي يتم إخراج المشهد بإتقان، وتبريرًا لاحتلال العراق المحاصر لثلاثة عشر عامًا، صار صدام حسين يعمل على تطوير أسلحة دمار شامل ليكون ترسانة نووية؛ مما يشكل خطورة على المجتمع الدولي. كذبة واحدة بنى عليها احتلال العراق واجتياحه. في خطابه في 11 سبتمبر/أيلول 2002 -الذكرى الأولى لذريعة الحرب- وقف جورج بوش مطالبًا مجلس الأمن بإعطائه تفويضًا دوليًا لبدء الجولة الثانية من حروب القرن الحادي والعشرين في العراق، ولقص شريط افتتاح «سوق العراق الحر». ولم تمضِ فترة طويلة حتى أعطي ذلك التفويض، فالأمم المتحدة قد صدقت على قرار مجلس الأمن رقم 1441 الذي نص على تحذير العراق من «عواقب وخيمة» في حالة عدم التزام نظام صدام حسين بالعقوبات المفروضة مع وجوب التزامه بالتعاون مع فرق التفتيش عن «أسلحة الدمار الشامل». وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2002، شكل روبرت جاكسون* رئيس شركة «لوكهيد مارتن» أكبر شركات السلاح في الولايات المتحدة: ما عرف بـ «لجنة تحرير العراق»، وكان جورج شولتز -ممثلًا عن شركة «بكتل»- رئيسًا للمجموعة الاستشارية لتلك اللجنة. الآن فقط يمكن الإعلان عن الجولة الثانية من الحرب الدولية على الإرهاب، وهذه المرة في العراق.
وفي ربيع 2003، وقف جورج بوش وإدارته ممسكين بـ «الدليل» والوثائق التي تثبت نية امتلاك صدام لأسلحة دمار شامل، وهو صفقة عقدت بينه وبين النيجر في مقابل 500 طن من اليورانيوم المنضب (الكعك الأصفر)، كان سيتم استخداهم في تطوير ترسانة أسلحة نووية للعراق، تلك الصفقة التي لم يكن لها وجود فعلي إلا في مخيلة إدارة بوشالتي جاءت لتحارب من أجل السلام!. وفي 16 مارس/آذار 2003، مباشرة قبل الغزو، كتبت الواشنطن بوست: «أن الولايات المتحدة وفرنسا كانتا في الثمانينات المصدر الأساسي لكل عينات الجراثيم التي استخدمت في تصنيع الأسلحة البيولوجية التي لا يزال يعتقد بأنها موجودة في ترسانة العراق، وذلك طبقًا للمسؤولين الأمريكيين والدبلوماسيين الأجانب الذين راجعوا إعلان العراق الأخير عن أسلحته الذي قدمه للأمم المتحدة».
لم يكن رجال الوول ستريت بعيدين عن المشهد تمامًا قبل الحرب، فعقود «إعادة إعمار العراق» بدأت صياغتها قبل أن تنطلق رصاصة أو قنبلة واحدة في فجر 20 مارس/آذار 2003. ففي عام 1999، قال ديك تشيني، رئيس شركة «هاليبرتون» وقتها: إن إنتاج البترول يقترب من النفاذ، وإن منطقة الشرق الأوسط التي تحتوي ثلثي الاحتياطي العالمي تعد «الجائزة النفطية الكبرى». وكانت العراق في تلك الفترة إلى بداية الغزو في 2003 تمتلك ثالث أكبر احتياطي للبترول في العالم، وإخضاع تلك الموارد الضخمة لاقتصاد السوق الحر صار على رأس اهتمامات الإمبريالية الجديدة، وما قاله بول وولفوتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي، في سنغافورة في 31 مايو/آيار 2003، إن الفرق بين العراق وكوريا الشمالية يكمن في الناحية الاقتصادية، فلم يكن هناك من مفر سوى التدخل العسكري في العراق الذي يطفو على بحر من النفط يؤكد المطامع الرئيسية للإمبريالية الجديدة وإستراتيجيتها في حروب القرن الحادي والعشرين بصفة عامة. ففي 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، منح البنتاجون لشركة «هاليبرتون» أول عقد إنشائي يتضمن التخطيط لإصلاح الصناعة النفطية في العراق في فترة ما بعد الحرب!.
وفي 27 يناير/كانون الثاني 2003، أصدر بوش أمرًا رئاسيًا بإنشاء مكتب «إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية» في العراق، وتولى مهمة هذا المكتب رجل البنتاجون السابق جاي جارنر، الذي ينتمي للمحافظين الجدد فضلًا عن صلاته الوثيقة باللوبي الصهيوني في أمريكا وعلاقته المتوطدة بمؤسسة AIPAC*. وفي 8 مارس 2003، منح سلاح الهندسة في الجيش الأمريكي عقدًا قيمته 7 مليار دولار لشركة «هالبيبرتون Halliburton» من أجل إعادة بناء الصناعة النفطية في العراق، والتي ستهتم بها شاحنات «رايس» التابعة لشركة «شيقرون تكساكو» التي عهد إليها عملية تصدير النفط العراقي بعد الحرب، وبتكلفة بلغت 200 مليار دولار من 2003 لتصل في نهاية 2006 إلى 1.5 تريليون دولار.
(مظاهرة في الذكرى السابعة للحرب على العراق ضد المسئولين عنها أمام مقر شركة هالبرتون)
بدأت حرب العراق في فجر 20 مارس/آذار 2003 بقصف متواصل على بغداد استهدف المباني السكنية والمدارس ومحطات توليد المياه والكهرباء، التي كانت تسميها إدارة بوش: المخابئ المحتملة لصدام. وفي اليوم التالي بدأ الاجتياح البري لبغداد من قبل قوات “الحرية” الأمريكية والناتو (NATO ) والمقاولين المأجورين. وفي 22 مارس/آذار، وصل مهندسو شركات هاليبرتون وشيفرون وبكتل إلى بغداد لمباشرة تطببق برنامج “إعادة الاعمار”، والذي اعتبره بول بريمير منذ وصوله لبغداد في 12 مايو/آيار 2003 «حقًّا أصيلًا للإدارة الأمريكية في إعادة توجيه اقتصاد العراق»، ذلك الحق الأصيل الذي بدأ بريمير في صياغة خطوطه العريضة على النحو التالي:
– خصخصة 200 شركة عامة والسماح للأجانب بامتلاك 100% من كافة الشركات العراقية، وتحويل أموال الأجانب وأرباحهم بدون قيود أو ضرائب.
– تعيين مفتشين أمريكيين فى كافة الوزارات والهيئات العراقية، لضمان تنفيذ سياسة إعادة الإعمار لمصلحة الشركات الكبرى.
– إعطاء الحصانة من القانون العراقي للمقاولين الأجانب (مقاولو الدفاع المرتزقة) في حالة ارتكابهم لجرائم قتل بحق العراقيين، والمحاكم الأمريكية وحدها هي التي تمتلك سلطة محاسبتهم.
– السماح للبنوك الأجنبية بشراء حصص ضخمة في البنوك العراقية.
– تخفيض الضرائب على شركات برنامج «إعادة الإعمار» من 40% إلى 15%.
– توكل لشركة «بكتل Bechtel» مهمة إعادة بناء شبكة الطاقة الكهربائية في العراق.
– إنشاء صندوق «تنمية العراق» بتكلفة 20 مليار دولار للبدء في خطة «إعادة الإعمار».
– ضخ دفعة ثانية من قبل الكونجرس بقيمة 18.4 مليار دولار في صدنوق آخر سمي «صندوق إغاثة العراق».
وبحسب ما ورد من جريدة الفاينانشال تايمز، فإن شركات برنامج إعادة الإعمار لم تكن لتحلم بتلك المكاسب الضخمة التي جنتها، لولا الحصار الذي فُرِض على العراق لثلاثة عشر عامًا وقرار التدخل العسكري والاحتلال الاستباقي. وللذكر فقط، فشركة «هاليبرتون Halliburton» قد زادت إيراداتها من العام 2003 إلى 80% في 2004، وشركة «Bechtel» التي أوكل اليها أكثر مشاريع إعادة الإعمار قد زادت إيراداتها في العام نفسه 158%، وكذلك شركة «شيفرون تكساكوا Chevron Texaco»، وشاحنتها الضخمة «رايس» التي كانت مسؤولة عن تصدير وبيع النفط العراقي لكافة الشركات متعددة الجنسيات قفزت أرباحها لـ 90% في 2004، فضلًا عن شركة «لوكهيد مارتن Lockheed Martin» لتصنيع السلاح وصاحبها رويرت جاكسون (مبتكر لجنة «تحرير العراق») زادت قيمة أسهمها ثلاثة أضعاف بعد عام واحد من احتلال العراق.
(الجنود الأمريكيون أمام إحدى محطات الطاقة التي عهد إلى بيكتل بإنشائها في إطار مشروع إعادة إعمار العراق)
في 9 إبريل/نيسان 2003 أحكمت القوات الأمريكية قبضتها على بغداد بتواجد دبابات «الحرية» في ساحة الفردوس، سقط تمثال الديكتاتور. ورغم تواجد جنود «الحرية» فإن ما تم تصويره من قبل الصحف العالمية ووكالات الأنباء، بأن الشعب العراقي «مبتهج» بقوات «الحرية» الأمريكية كان مغايرًا للحقيقة على الأرض، فبعد تسعة أيام فقط خرج أكثر من 100 ألف عراقي في بغداد رافعين شعارات «يسقط صدام، يسقط بوش، تسقط أمريكا».
1- 20th Century Battlefields – Gulf War (1991), BBC Documentary. 2- أرقام الضحايا قصف ملجأ العامرية ظلت غير مؤكدة لفترة طويلة لكثرة القتلى والمصابين 3- تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان عن وضع العراق تحت الحصار من عام 1990 إلى 1999.
4- فتش عن اللوبي الصهيوني: لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية AIPAC.
- Otto Friedrich, Desert Storm: The War in the Persian Gulf, Time Warner Publishing Inc. (1991).
- Sheldon Rampton & John Stauber, Weapons of Mass Deception: The Uses of Propaganda in Bush's War on Iraq (2003).
- روجيه جارودي: حفارو القبور
- Stephen J. Sniegoski, Paul Gottfried & Paul Findley, The Transparent Cabal: The Neoconservative Agenda, War in the Middle East, and the National Interest of Israel, Ihs Press (2008).
- جلال أمين: المثقفون العرب وإسرائيل
- كريستيان ميلر: صريبة الدم: مليارات مهدورة، أرواح مفقودة، وجشع الشركات العملاقة في العراق
- Naomi Klein: The Shock Doctrine
- Michel Chossudovsky, America's ''War on Terrorism'', Global Research (2005).
- روجيه جارودى: الولايات المتحدة الأمريكية طليعة الانحطاط