القافلة في بغداد (3): حرية الـ«بلاك ووتر»
فى الثامن عشر من يناير/كانون الثاني عام 2004، وبعد شهر ونصف من القبض على صدام، أعلن دافيد كاي كبير المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق أمام الكونجرس «أنه لم يتم العثور على أي نوع من أسلحة الدمار الشامل في العراق، وأن التقارير الاستخباراتية لكل من الـ CIA والـ FBI في فترة ما قبل الحرب كانت خاطئة ومبنية على معلومات مغلوطة». انتفى المبرر الخاص بالإمبريالية الجديدة في حربها على الشعب العراقي المحاصر، ولكن عجلة اقتصاد الحر لا تدور هكذا، ولايهمها في المقام الأول سوى ارتفاع أسهم الشركات وتراكم الأرباح. ففي يوم 8 مارس الذي أقر فيه مجلس الحكم العراقي الدستور المؤقت والذي أشرف بريمير على صياغته، حصلت شركات W.I.G وبارسونز و CH2M هيل على عقود بقيمة 12 مليار دولار لإعادة هيكلة شبكات الطاقة والصرف والطرق في العراق.
المقاومة العراقية في مواجهة «بلاك ووتر»
قبل يوم 31 مارس/آذار لم تتم الإشارة على الإطلاق لأي من الشركات العسكرية الخاصة أو عن ماهية دورها في العراق في أي من وسائل الإعلام، فحتى بعد محاولة اغتيال بريمير تمت الإشارة لفرقة حمايته بأنهم «مجموعة أمنية على درجة عالية من الكفاءة». وكانت بلاك ووتر تتمتع بحرية تامة ودون تسليط أي ضوء عليها، في توقيع العقود المختلفة مع العديد من شركات إعادة الإعمار مثل عقدها مع «أورست سيرفيسز» وهاليبرتون؛ لحماية القوافل التي تنقل أدوات مطبخية للجيش الأمريكي بقيمة 400 مليون دولار. ومع ازدياد تواجد مقاولي بلاك ووتر وغيرها المدججين بالسلاح في كل مدن العراق، ازداد حنق المواطنين من هؤلاء الرجال وانتشر الاعتقاد بينهم أنهم قد أتوا لتنفيذ مهمات خاصة لمصلحة الـ CIA و الموساد، خاصة مع تباهي أحدهم أنه قد شارك في شبابه في مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان*. لم يكن 31 مارس/آذار أفضل أيام أربعة من مقاولي بلاك ووتر قد كُلفوا بحماية ونقل أدوات مطبخية خاصة بالجيش الأمريكي، عبر مدينة المقاومة الرئيسية في العراق، الفلوجة. مع حصار واشتباك قوات المارينز في حي العسكرى – حي الطبقة العاملة بالمدينة – ومحاولة السيطرة على المدينة فى 24 مارس/آذار وسقوط 15 قتيلًا من مواطني المدينة، وكانت حياة أي أمريكي سيمر عبر المدينة مصيرها محتوم. كانت الساعة وقتها التاسعة والنصف صباحًا عندما مر كل من «سكوت هلفنستون، مايكل تيج، جيري زوفكو وويسلي بالتونا» بسيارتي باجيرو عبر الشارع الرئيسي في المدينة، وقد نصب الكمين لهم من قبل مقاتلي المقاومة ومهاجتهم بالقنابل اليدوية والرشاشات من كل جانب. لاحقًا تم تعليق جثث رجال بلاك ووتر على جسر نهر الفرات في المدينة.
استنفرت جميع هيئات الإدارة الأمريكية السياسية والإعلامية بعد هذه الحادثة، فصارت أبواق كل من الحزب الديمقراطي والجمهوري تنطلق عبر «Fox News» مهاجمة مدينة الفلوجة ومطالبة بسحقها والقضاء على أي تمرد محتمل فيها، كما تم تشبيه هذه الحادثة بحادثة طائرة «البلاك هوك» في الصومال في 1993 والتي قتل جرّاءها 18 جنديًّا أمريكيًّا وقتها. أرجع الكثير منهم السبب في الحادث إلى اغتيال الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس/آذار وتوجهت أصابع الاتهام للزرقاوي، الذي لم يكن في مدينة الفلوجة أصلًا، كما أن تسليط الضوء على مجموعة «التوحيد والجهاد» التابعة له فى الإعلام الأمريكي والدولي لم يكن واقعيًا على الإطلاق، ويتناقض تمامًا مع حقيقة ما كان يجري ميدانيًّا من جانب المقاومة في كافة أنحاء العراق. في الرابع من أبريل/نيسان بدأت القوات الأمريكية حصارها لمدينة الفلوجة أو ما سمي عملية «العزم المتحفز» في نفس اليوم الذي بدأت فيه القتال في مدينة النجف مع قوات «جيش المهدى» من قبل بلاك ووتر والقوات الأمريكية معًا، وتم الهجوم في السابع من أبريل/نيسان على مسجد عبد العزيز السامرائي والذي كان نقطة تمركز قوية للمقاومة في مدينة الفلوجة، وأدى ذلك الهجوم إلى مقتل أربعين عراقيًا من رجال المقاومة، رغم مواثيق جنيف «الشكلية» التي تنص على عدم استهداف دور العبادة أثناء الحرب. كان لذلك أثر بالغ الأهمية في ارتفاع وتيرة المقاومة في العراق بأسرها، وصار التضامن مع المدينة وتدفق المساعدات الغذائية والطبية والمتطوعين تسللاً، رغم الحصار المفروض، أمرًا اعتياديًا. في التاسع من أبريل/نيسان اشتعلت الانتفاضة السنية الشيعية المشتركة في المدينة وانتقلت الحمى إلى كافة أنحاء العراق، وعمت التظاهرات السنية-الشيعية بشكل واسع، كما وصل الأمر إلى حدود التنسيق المشترك على مستوى القتال ضد القوات الأمريكية والمرتزقة في كافة مواقع الاشتباك.
تجلى إدراك العراقيين في فترة المقاومة أن العدو لم يكن القوات الأمريكية والمرتزقة وحسب، بل يتواجد عدو آخر وهو شركات إعادة الإعمار المختلفة، التي جاءت لنهب الثروات العراقية بشكل ممنهج يخدم مصلحة السوق الحرة ودافوس*. ففي التاسع من أبريل/نيسان تمت مهاجمة قافلة من شاحنات النفط تابعة لشركة هاليبرتون قرب بغداد، واستمرت عمليات مهاجمة شاحنات النفط على مدار عامين وبمناطق متفرقة من العراق. وعلى الرغم من ذلك، استمر مسلسل توقيع عقود إعادة الإعمار ولكن بشكل مختلف عن السابق. فمع اتساع نطاق المقاومة وانتشار الكمائن للجنود والمقاولين المرتزقة ولشاحنات النفط خاصة بعد تفجير فضيحة أبو غريب في 28 أبريل/نيسان وثبوت تورط المرتزقة وعناصر الـ CIA والجيش الأمريكي في عمليات القتل والتعذيب بكافة أشكاله بحق عشرات الآلاف من المعتقلات والمعتقلين العراقيين، بدأت إدارة بوش في اتباع نهج جديد لسياسات إعادة الإعمار، وهو ما كشف عنه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في 14 سبتمبر/أيلول بتخصيص مليارات الدولارات لقضايا الأمن. لكن هذه الإستراتيجية تم بالفعل تطبيقها قبل هذا الوقت بشهرين، فمع بداية شهر يوليو/تموز وتسليم السلطة من بول بريمير – الذي حل محله جون نيجروبونتي مهندس عملية الكونترا في نيكاراجوا في الثمانينات – لحكومة علاوي الانتقالية، تم توقيع عقد جديد مع بلاك ووتر يقضي بمنحها 2 مليار دولار؛ أي 30% من موازنة صندوق «إعادة بناء العراق» وزيادة عدد عناصرها إلى 20 ألف بنهاية العام، كذلك الصفقة التي تمت بين روبرت جاكسون رئيس شركة لوكهيد مارتن وإريك برنس رئيس شركة بلاك ووتر في أغسطس/آب، والتي تنص على تزويد بلاك ووتر بالأسلحة «الذكية» على مدار ثلاث سنوات بقيمة 2.4 مليار دولار، في الوقت الذي أكدت فيه «الإيكونوميست» أن: «احتلال العراق قد رفع مداخيل الشركات العسكرية الخاصة من 320 مليون دولار قبل الحرب إلى 1،6 مليار دولار بحلول نهاية العام 2004».
لكن بدلًا من أن تتم السيطرة على الوضع في العراق حدث العكس، فزادت عمليات خطف «مقاولي السوق الحر» بخطف 100 مقاول تابع لبلاك ووتر وغيرها وقتل 80 آخرين، واستمرت عمليات القتال بشكل قوي في الفلوجة والنجف بين المقاومة وقوات الحرية على جبهات عدة، حتى انتهى الأمر في الفلوجة في حصار واسع لها في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، اشتمل على قصف جوي لـ 500 ألف طن من القنابل العنقودية بهدف ضرب معاقل المقاومة؛ مما أدى إلى تدمير 18 ألف مبنى وأكثر من 3000 قتيل فضلاً عن 200 ألف لاجئ من هذه المدينة وحدها التي كانت تمتلئ بعبارات «الموت لأمريكا» و«ارفعوا رؤوسكم أنتم في الفلوجة». أما في النجف، وبعد تلقين ميليشيات المقاومة وعلى رأسها جيش المهدي درسًا قاسيًا وباهظ الثمن بقوات «الحرية»، انهارت المدينة في النهاية في سبتمبر/أيلول. وبالرغم من هذا عادت المقاومة في سامراء وتل عفار –وإن كانت بشكل متقطع- حتى نهاية العام 2005.
أثبتت المقاومة العراقية، وإن هزمت بسبب نقص الخبرات الميدانية والقدرات التقنية، نفسها بشكل قوي، كما أكدت على تجاوزها للعنصر الطائفي- الذي أراد المحتل الأمريكي إشعاله بتفجيرات المساجد الشيعية والسنية- وقدرتها على التنسيق الميداني المشترك. كما أثبت وعي العراقيين بماهية سياسة الاحتلال في جعل العراق سوقًا حرة لشركات الأمبريالية الجديدة وكسب المليارت من عقود إعادة الإعمار الخاصة بالنفط والشركات العسكرية الخاصة، ضعف حجج الاحتلال وتبريراته المتعددة بشأن الحرب بأنها الحرب «الأكثر إنسانية في التاريخ» أو أنها لأجل السلام.
عفوًا، لم نكن نقصد: «أبو غريب» معبد الحرية الأمريكية
ليس على خنازير الحرب من حرج طالما في إمكانهم أن يخرجوا في ملابسهم الرسمية على شاشات التلفاز مبتسمين ومعتذرين عن الخطأ الذي ارتكب من قبلهم، خاصة مع تأكدهم من ازدياد أرصدتهم في كافة البنوك. و قبل الخوض في مسألة معتقل أبو غريب تجب الإشارة هنا إلى نقطتين؛ أولا: هو تاريخ الإدارة الأمريكية وملفها المشهور في قضايا التعذيب من قبل العراق بعقود في كافة الحروب التي خاضتها من فيتنام ونيكاراجوا إلى أفغانستان ومعتقل جوانتانامو وارتباط مصالح الشركات الكبرى بهذا الأمر، ثانيًا: انتشار الأصوات الليبرالية الجديدة – نخبة الطبقات الحاكمة في المنطقة – في منطقة الشرق الأوسط على نطاق واسع وحملها لواء أكذوبة «الحرب الدولية على الإرهاب»، والتي عادت من جديد برعاية الثورة المضادة العالمية؛ لبسط سيطرة أكبر للإمبريالية الجديدة والقضاء على أي تحرك أو تمرد مناهض لها من شعوب المنطقة، فهي لا تريد أن تكرر شعوب المنطقة ثوراتها كما حدث في 2011 وأن تتركه في متاهة التدخلات العسكرية من أمريكا وروسيا والتطرف الذي صنعته.
في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2003 أكد بوش أن العراق قد صار خاليًا من غرف التعذيب والاغتصاب التي كانت موجودة في فترة صدام، وعاد لتأكيد هذا الأمر في 12 يناير/كانون الثاني من العام 2004؛ أي قبل انتشار الصور التي خرجت من أبو غريب بشهرين. وبعد انفضاح أمر تعذيب عشرات الآلاف من العراقيين بكافة الأشكال، سواء تعذيب جنسي أو نفسي أو بدني وتقارير «النيويوركر» حول قضية سجن أبو غريب والشهادات التي خرجت عن ارتكاب هذه الجرائم، خرج بوش في الأول من مايو «يعتز» بأنه على الأقل لم يعد المساجين يختفون كما كان في فترة حكم صدام. كان معتقل أبو غريب إبان حكم صدام جحيمًا للعراقيين بكل حق بتواجد أكثر من 50 ألف معتقل بداخله سنويًا، لكن ما لم يذكره بوش أو لن يذكره ترامب أو هيلاري، هو أن تلك المعتقلات البعثية قبل عاصفة الصحراء كانت تستخدم من قبل أمريكا – ممثلة في الـ CIA – في استجواب وتعذيب أناس من مختلف أنحاء العالم لشك الإدارة الأمريكية أنهم فقط ضد مصالحها، أو أنهم قد عرفوا نوعًا جديدًا من الحرية مناهضًا للحرية الأمريكية.
وما يؤكد استمرار انكشاف جوهر الإمبريالية الجديدة، هو استمرارها في سَوْق الأكاذيب واختلاق الفقاعات كل يوم. فببساطة كانت عمليات الاستجواب والتعذيب تتم في معتقل أبو غريب بأمر مباشر من رامسفلد في البنتاجون، وذلك على أساس المرسوم المضاد لمرسوم جرائم الحرب الذي أصدره بوش في بداية عام 2002 ويقضي بإعطاء الحرية للمسؤولين الأمريكيين في التعامل مع عناصر القاعدة وطالبان أو من يكون مشتبهًا بالانتماء لأحدهما. كما قد أشارت النيوزويك إلى أن هناك مذكرة قد أعدتها وزارة العدل الأمريكية لمصلحة الـ CIA عقب 11 سبتمبر/أيلول، واشتملت على تفسير ضيق للاتفاقية الدولية لمحاربة التعذيب؛ بما يسمح لعملاء الـ CIA باستخدام أساليب «الحرمان من النوم، واستخدام أشكال التخويف وعوامل الإجهاد النفسي والبدني» في استجواب المشتبه بالانتماء للقاعدة، و قد تمت تجربة هذه الأساليب أولاً في جوانتانامو ثم على نطاق واسع أبو غريب.
ورغم ذلك استمر جورج بوش في تأكيده على أن من ارتكب هذه الجرائم هم «حفنة» من جيش القوات الأمريكية وأنه لا يجب تعميم الأمر، ولكن ثبت تورط عملاء الاستخبارات المركزية بشكل كبير في ارتكاب تلك الممارسات بجانب مرتزقة السوق الحرة «بلاك ووتر» – الذين كانوا يتقاضون راتبًا عن الساعات التي يقضونها في استجواب وتعذيب العراقيين – ثم أفراد الجيش الأمريكي، فضلًا عن برنامج «المدخل الخاص السري» في سجون العراق والذي أعدّه دونالد رامسفلد في أغسطس/آب 2003 والذي حصل على موافقة البيت الأبيض.
لم تكن الإدارة الأمريكية بعيدة عن حليفها الإقليمي في مسألة حرب العراق، فجرائم أبو غريب ما كانت لتتم دون الدورات التدريبية التي قدمها خبراء من «الموساد» لعناصر المخابرات العسكرية الأمريكية في 2002، وذلك برغبة من بول وولفوفيتز – رئيس البنك الدولي (2005-2007) – ودوجلاس فيث الرجلان الأهم بعد رامسفلد في البنتاجون. تلك الدورات والندوات كانت لتعليمهم أحدث تقنيات الاستجواب والتعذيب للمعتقلين والتي اختبرها الكيان الصهيونى مع الفلسطينيين لأكثر من ستين عامًا. تلك الندوات التي لاقت رواجًا و تأييدًا من قبل المحافظين الجدد والديمقراطيين أيضًا، مبشرين بأنها ستكون إحدى أهم الأسلحة في القضاء على«الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل».
في 22 أبريل/نيسان 2006 جاء نوري المالكي لرئاسة الحكومة العراقية، في الوقت الذي كان قد وصل فيه عدد المعتقلين 61،500 معتقل، في نفس الوقت الذي انتشرت فيه موجة هروب الطبقة الحاكمة من مسئوليتها عن تدمير بلد وشعب بأكمله وقتل أكثر من 2 مليون من مواطنيه. ففي 7 ديسمبر/كانون الأول 2005 أعلن بوش أن خطط إعادة الإعمار لم تسر كما تم التخطيط لها مسبقًا، حتى مايو/أيار 2007 عندما قال عدد كبير من مسئولي الجيش الأمريكي أن من 70% إلى 90% من المعتقلين العراقيين تم اعتقالهم بالخطأ، حتى يوم الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2008 وفي آخر زيارة له لبغداد قال بوش حينها «عفوًا لم نعثر عندكم على أسلحة دمار شامل، عفوًا لم نكن نقصد»، و لم يلق ردًا سوى إلقاء الحذاء على رأسه و على علم أمريكا.
يتبع
- .(Gerry Schumacher, Steve Gansen, A Bloody Business_ America's War Zone Contractors and the Occupation of Iraq, Zenith Press (2006
- جيريمي سكاهيل: بلاكووتر
- (Written by Chris Hedges and Laila Al-Arian, photography by Eugene Richards: Collateral damage_ America's war against Iraqi civilians, Nation Books (2008
- كريستيان ميلر: ضريبة الدم
- Naomi Klein, The Shock Doctrine
- كينيون جيبسون: أوكار الشر