الخطاب الديني المعاصر إلى أين؟
هل تذكر يومًا كانت فيه مساجد مصر مليئة بفرسان المنابر ورواد الدعوة؟ هل تذكر زمنًا كنت تحتار فيه بين حماسيات كشك وعقلانيات الغزالي وروحانيات زكي الدين إبراهيم؟ زمنًا كنا نتجمع فيه بعد صلاة الجمعة على مائدة الغداء يزين مجلسنا صوت الشعرواي يفسر كتاب الله.
هل صليت العيد يومًا في ساحة مسجد مصطفى محمود بالمهندسين خلف الشيخ الغزالي؟ هل ذهبت يومًا للإسكندرية فصليت الجمعة خلف إمامها الشيخ المحلاوي، أو قادتك الظروف نحو محافظة السويس فجلست تستمع لخطاب الشيخ حافظ سلامة؟ ولعلك ذهبت للجامع الأزهر ورأيت شيخًا ذا مهابة وجلال يأتيه الناس من كل مكان ينهلون من علمه وفضله.. خطيب الأزهر وما أدراك ما خطيب الأزهر، الشيخ إسماعيل صادق العدوي رحمه الله.
تمر السنوات ويظهر شاب لطيف ظريف يدعو الناس إلى الخير والبر مستخدمًا أسلوبه الجديد ومعتمدًا على العامية في وعظه، اختلف الناس عليه بين محب له ومتابع، وآخر ناقم يرى فيه بداية الانحراف عن الصراط المستقيم. وبين انتقاد السلفيين وتأييد الإخوان نما هذا التيار وتعاظم وأصبح تجربة سار عليها الكثيرون شكلًا وإن اختلفوا في المضمون والرسالة.
على أية حال فنحن نتحدث عن فترة زمنية لا تتجاوز 30 عامًا إلا قليلًا اصطلح على تسمية مشايخها «مشايخ الصحوة»، وهذا الوصف وإن كان لا ينطبق على الأزهريين الذين حافظ معظمهم على شكل الخطاب التقليدي مع شيء من التجديد في الشكل أو في المضمون، إلا أنَّ تزامُن وجود كل هؤلاء في فترة متقاربة أحدث نقلة كبيرة وفارقة في علاقة المصريين بالدين واهتمامهم بشعائره.
أصبح الحجاب أساسًا غالبًا في ثياب المرأة على اختلاف الطبقات الاجتماعية، وعظَّم الناس أمر الصلاة والصوم في رمضان، واجتمعوا حول قراء القرآن واقفين منصتين لمدة تزيد عن الساعة في صلاة التراويح التي تنافست فيها المساجد، فصار كثير منها يختم القرآن كاملًا خلال شهر رمضان.
تُرى أين ذهب كل هذا؟ وماذا حل بواقع الدعوة ومسيرتها في السنوات السبع العجاف التي نعيشها؟ بعيدًا عن الكلام في تفاصيل السياسة وصراعاتها فقد وظف كل من فريقي الصراع الكبيرين الدين كمكون واضح في خطابه السياسي، وفي وصفه لخصومه على الجبهة الأخرى، انتصر الفريق الأقوى كما هي قوانين الحياة وسننها، ولكن ظل الخطاب الديني حاضرًا في كل مناسبة، يستعين به الفريقان ويستمطران اللعنات على خصومهم. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا بقاء في مثل هذه المعارك إلا لمن يملك الصوت الأعلى والحجة الدينية الأقوى (من وجهة نظره).
العسكر من جانبهم لم يقصروا في صبغ كل ما في البلاد من مؤسسات بصبغتهم، وطريقتهم في هذا معروفة ومجربة. ولهم فيها باع وخبرة طويلة في توجيه الشارع المصري نحو ما يريدون، بالترغيب حينًا والترهيب والبطش حينًا آخر.
طريقة سهلة ونتائج مضمونة، وزارة للأوقاف تسحب بساط الدعوة من تحت المؤسسة الأزهرية وتحول أئمة المساجد لموظفين يسهل التحكم فيهم، تصعيد لكل من يعرف كيف يستخدم خطابه لخدمة المناخ السياسي العام، حتى يكون هذا الاستخدام بطاقة العبور للمناصب القيادية، وإلا فهو إمام من جملة 80 ألف إمام هم تعداد الأئمة والخطباء المنتسبين لوزارة الأوقاف.
لا يحتاج الأمر لكثير من العنف لتطويع هؤلاء الأئمة، فقط يكفي أن تزج بهم في هذا السجن الكبير المسمى الوظيفة الحكومية، فتجعل أقصى أحلامه وأكبر طموحه أن ينال ترقيته الوظيفية في موعدها، حتى لا يحرم حفنة من الجنيهات وشيئًا من المكافآت تعينه على نوائب دهره. وبعد ذلك فويل لغبي لم يفهم، أو لمعاند يغرد خارج السرب، ومن خلال التنكيل بالمعارض والتلميع للأذكياء الذين عرفوا سبيل الترقي الوظيفي تستطيع أن تحافظ على تماسك أي مؤسسة وولاء أفرادها لك، ما لم يكن هناك عوامل أخرى خارج نطاق السيطرة.
عمامة بيضاء بجانبها أخرى سوداء يتصادف وجودهما بجوار بعضهما في كل محفل رسمي (صدقوني إنها محض مصادفة) فقادة الأديان يحب بعضهم بعضًا، لأن المشترك بينهما من حب الأوطان وحب قادة الأوطان أكبر من أي خلاف حول دين أو معتقد، فترى تلك المعجزة المتكررة في كل محفل والمتمثلة في جلوس (أبونا إلى جوار مولانا) ترسم صورة جميلة عن هذا الوطن المستقر الآمن!
أصحاب العمائم السوداء ورغم أنهم لم ينضموا إلى وزارة ما، ورغم اعتمادهم على أوقافهم وريع مشروعاتهم الخيرية، فإنهم أيضًا قد امتلئوا بحب الأوطان والذوبان في حب قادة الأوطان، ولا يقلون في ولائهم وإخلاصهم عن إخوتهم من ذوي العمائم البيضاء.
مرت الأيام وفي حدث استثنائي تغير حاكم البلاد وجاء نظام جديد يفتقر لهذه الخبرة المتطاولة في حكم شعب زراعي يعشق الاستقرار ويرفض التغيير، بدا وكأن روح الثورة قد تحركت صوب المؤسسات العتيقة لتحرك المياه الراكدة، واجه النظام الجديد صعوبات ومؤامرات، فلم يقصروا في استعمال شيء من أسلحة خصومهم، إنه الخطاب الديني الذي عاد مجددًا إلى واجهة الأحداث يستخدمه الطرفان في لعبة منح البركات للمحبين وإنزال اللعنات على المعارضين.
نقطة تحول.. الخوف من كل ما يرتبط بالدين!
في ظل حرب مستعرة لا تبقي ولا تذر استنفد الطرفان سلاحهما وهو الخطاب الديني. انتصر العسكر مجددًا فكان هذا إيذانًا بعودة النهج القديم في التعامل مع أصحاب العمائم البيضاء والسوداء، ولكن الجديد هذه المرة أن تأثير الدين نفسه في حياة الناس قد انحسر وتراجع بشكل واضح، ولم يعد للخطاب الديني ذلك الأثر الذي كنا نراه فيما مضى، بل فوق هذا فإن الناس قد توجسوا خوفًا من كل ما يربطهم بالدين، وبدأنا في ردة عكسية عن مظاهر التدين التي عاشها هذا الجيل على يد مشايخ الصحوة، ومن معهم من الأزاهرة.
تاجر الفريقان بالدين في خطاب سياسي مبتذل، فربح أحدهما وصارت له الدولة والجولة، وخسر الآخر فحق عليه أن يوصف بأنه من «تجار الدين وكلاب النار من الخوارج»، وكأن مشايخ السلطان إنما يتاجرون في المنتجات الغذائية والبيض والسكر ولا يتاجرون في شيء وراء هذه الأصناف.
قالوا قديمًا: «ويلٌ للمهزوم»، واليوم في مثل حالتنا نقول: ويلٌ للجميع، فقد انصرف الناس عن سماع الخطاب الديني بشكل كبير، ولم يعد لأصحابه ذلك التأثير السابق على الحياة العامة أو الخاصة، وكل ما تراه من مظاهر التدين وعلامات الخير الباقية فهي من رصيد قديم ينضب رويدًا رويدًا. ورغم غياب أو انحسار الخطاب الديني فهذا لا يعني بالضرورة انحسار الدين، فاحتياج الناس لروحانيات تشحذ همتهم وتداوي جراحهم وتخفف عنهم ضغط الحياة هو أمر ضروري لا غنى عنه.
نتيجة لذلك انتشر بين الناس نزعات روحانية جديدة مخلوطة بعلوم الهند وجبال التبت، تستخدم التأمل وجلساته سبيلًا لتصفية الذهن المجهد، وتقوية القلب الخائف من مستقبل غامض، وتتحدث عما في الكون من طاقة سلبية وأخرى إيجابية، وتخاطب خبايا النفس ودقائق تفكيرها، غير أنها لا تحدثك عن جنة أو نار، ولا عن عقاب أو ثواب، ولا عن حق أو باطل، محض دعوات لمذاهب روحانية لا تلزم المنتسب لها بشيء سوى أن تقدم له وعدًا براحة البال وصفاء الذهن.
قد يكون انتشار الإلحاد أحد نتائج المرحلة، وهذا صحيح، ولكن كثيرًا من الدراسات التي أجريت بين أوساط الشباب الملحد قد أثبتت أن السبب الذي يقف من وراء الستار خلف إلحاد معظمهم هو حالة التمرد والرفض للسياقات التي تم استخدام الدين فيها من كلا طرفي المعركة. أو إن شئت فقل هو حالة من الرفض العام والثورة الدائمة والرغبة في قطع أي صلة لهم بماضٍ أليم اغتال أحلامهم وضيَّع زهرة شبابهم في تظاهرات واعتصامات وسجون وتعذيب، ثم لم يجدوا ما توقعوه من نزول ملائكة تقاتل إلى جانبهم أو ترد عنهم ظلم الظالمين، بل وجدوا الدين يستخدمه خصومهم مبررًا لقتلهم وسفك دمائهم، فهم إما من الخوارج كلاب النار، أو من أعداء الوطن وخونته المستحقين للقتل على كل حال!
لكن نسبة الإلحاد وإن زادت لن تمثل في النهاية رقم الأغلبية أو حتى رقمًا قريبًا منه، ولا يعني هذا التهوين من خطورة الإلحاد، ولكني أحاول رسم صورة أقرب للواقع قدر المستطاع.
المضحك هنا أن يرمي كل واحد من الفريقين صاحبه بتهمة إفساد الدين وتنفير الناس منه، فقد خرج علينا بعض المشايخ المستوطنين لدولة الإمارات مروجين لبحث يرد فيه أسباب نزوع الشباب للإلحاد أو للعنف إلى فكر الإخوان وأدبيات سيد قطب، ويحاولون من جهتهم أن يتقاربوا متوددين لملاحدة العرب وغلاة العلمانية الذين هم من وجهة نظرهم مجرد ضحايا وردة فعل لفكر الإخوان المنحرف.
زامر الحي لم يعد يطرب
فما العمل؟ استوردت مصر بلد الأزهر مشايخ من اليمن وليبيا والشيشان، لعلهم يؤدون الدور المأمول في ترسيخ صورة الإسلام الوسطية، ونبذ كل فكر متطرف!
ولعل ما يثبت صدق نظرتي تلك عن أثر الخطاب الديني في مجتمعنا اليوم أن ترى فيلمًا أُنتِج حديثًا عن حرب الاستنزاف بمشاركة أبطال مشهورين ورعاية كاملة من سلاح الشئون المعنوية بالجيش، ثم العجب العجاب والأمر المستراب أنك لا ترى في الفيلم الذي تزيد مدته عن الساعتين قليلًا أثرًا لخطاب ديني أو مشهد سينمائي ولو عرضًا عن أثر الدين في تحفيز المجاهدين على القتال في سبيل الله، بل لا تكاد ترى صيحات التكبير في أي مشهد من مشاهد المعارك. ولله الأمر من قبل ومن بعد.