الثقافة المعمارية المعاصرة بين المشاعر والمفاهيم
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
تعد المشكلة الأصعب في الثقافة المعمارية المعاصرة هي أن معظم النقود الموجهة إليها تفشل في الإخبار عن تلك المباني التي نراها كل يوم. فكيف نتحدث عن تلك العمارة السكنية الغليظة باعتبارها نقلات عظيمة في التاريخ المعماري؟ [يمكن هذا] فقط بصعوبة كبيرة. والسبب في ذلك هو أن مجموعة قليلة من الأفكار قديمة الطراز، العائدة إلى منتصف القرن العشرين أو ربما قبل ذلك، ما زالت تسيطر على الصحافة النقدية.
فالمباني يجب أن تكون مثيرة وتقدمية وخارجة عن المألوف كي تستحق المناقشة. نعم، هناك مبانٍ كهذه، وتستثير الناس فعلًا. إلا أننا لا نملك طريقة مناسبة –يمكن اعتبارها معيارًا- نتشارك من خلالها المتعة أو الإحباط الذي تبعث عليه هذه المباني التي يتم إنشاؤها يوميًا، والتي لا يمكن أن يقال عنها إلا أنها أقل من مُشوقة.
يميل المعماريون إلى محاكاة لغة عملائهم ونُقّادهم، لأنهم –العملاء والنقاد- بصريون، والدافع المهيمن لديهم هو الشيء نفسه وليس وصفه. كان الأمر هكذا دائمًا، فقد تحدث معماريو القوطية الحديثة بحرارة عن الأخلاقية والحقيقة لأن هذه الألفاظ هي التي أراد بناة الكنائس أن يسمعوها. ولم يختفِ هذا الأمرُ أبدًا، فما زالت المباني «جيدة» أو «سيئة»؛ «أصلية» أو «مُقلّدة». والمباني «السيئة» هي بطريقة ما «خاطئة» أخلاقيًا، ومعماريوها هم أناس أقل شأنًا بسبب ذلك. ويعد هذا، مع كل الأحكام الأحادية، لغة فيكتورية قديمة، وهذه الألفاظ لم تعد نافعة عند تطبيقها على معظم المباني.
في الحقيقة، هناك ما يجب على المعماريين تعلمه من الروائيين، وربما خاصة كتاب قصص الأطفال، البارعين في وصف المباني بطرق تربطها مباشرة بالحياة الحقيقية. فهم يعطون لمحات عن شخصية الأماكن من خلال صور موجزة، كمدخل؛ صالة؛ غرفة؛ منظر ما، وليس تصويرها من خلال «المفاهيم». ويتركون البقية لخيال القارئ، كمستمعي أفضل مسلسلات الدراما الإذاعية، حيث يقومون بتشكيل الشخصيات كلها تقريبًا في عقولهم.
يمكن تطبيق هذا المدخل على النقد والتاريخ المعماري. والدرس المستفاد هو ضرورة تجاهل الفكرة التي تقضي بوجود طريقة واحدة لوصف المبنى، وبدلًا عنها الاعتماد على مصادر متعددة نستخدمها لتقييم الثقافة بشكل عام، كي نعطي المبنى الاحترام الذي يستحق. فبالنسبة للروائيين العظام، لا يلعب المبنى دورًا واحدًا، بل لديه العديد من الجوانب المختلفة التي يعكس كل واحد منها القصة وفترة السرد. فعندما اكتشفت الروائي الفرنسي أونوريه دو بلزاك، صُدمت بمدى دقته في وصف المنازل في قصصه من ناحية الأماكن والرموز.
فهناك تفاعل مُقنع بين الشخصيات والغرف الفخمة أو الرثة التي يجدون فيها أنفسهم، أو الأماكن التي يسعون إليها. ففي روايتيه يوجين جرانديه (1833)، وخاصةً الأب جوريو (1835) بعدد شخصياتها الكبير، تشعر بدور المساحات وحتى من خلال ترتيب الأثاث. ولا يفاجئني أن هذه الروايات قد كتبت فترة دخول العمارة إلى ثورة شاملة.
يدرك معظم الناس المباني من خلال هذا الشكل من «الصور الموجزة»، فيذهبون ويجيئون حولها أو من خلالها ويرونها بسرعة وبزوايا مختلفة وظروف مختلفة لكنها محددة. يعني هذا أنك تنظر إلى شيء حقيقي: باب أو شباك أو حائط أو شيء من هذا القبيل، فأنت لا تنظر إلى فكرة. ويكمن السؤال في كيفية قول كل هذه القصص سويًا بشكل متماسك. وتُظهر العمارة البريطانية ما بعد الحداثية والطريقة التي تم استقبالها بها كيف كان لفشل النقد المعماري في الاستجابة لثراء الحياة الحقيقية أثر همجي.
كانت فكرة ما بعد الحداثة في العمارة هي أن المباني لم يعد من المفترض أن تسير بشجاعة وفخر وعن قصد إلى المستقبل المحدد من قبل ناقدي منتصف القرن [الماضي]، وأن الطراز والزخرفة التاريخية لم تعد بعيدة عن الإحياء، حيث إن عظمة المباني يجب ألا تكون مفاهيمية بالأساس، بل يجب أن ترتبط بالتجارب والممارسات الثقافية اليومية. فعلى سبيل المثال، كانت إعادة تطوير Comyn Ching من قبل تيري فاريل، في [محور] Seven Dials بالقرب من حديقة Covent في لندن في الفترة من 1978 حتى 1991، نسجًا متميزًا للأفكار التاريخية في طبقات على نطاق كبير وصغير، عبر مدينة قديمة. إلا أنه في نفس الوقت لم يستطع أحد من النقاد وصفها بدقة.
لأنهم لم يستطيعوا قراءة المستقبل، ولم يستطيعوا إدراك مدى تأثيره، ولم يروا شيئًا مثله، ولم يستطيعوا تسكينه في أي طراز مفاهيمي ثابت، لم يكن لديهم ما يقولونه. بدلًا من ذلك، انظر إليه، وصف ما تراه بالفعل. إنها ليست ظاهراتية، إنه بحث عن الحياة الحقيقية.
يتم الآن تهديد Comyn Ching، ومبانٍ أخرى من تصميم فاريل، من قبل بعض خطط إعادة التطوير، ولذلك تحاول حركة المحافظة على البيئة حمايتها. لقد أصبحت مهمة منطقية، فنحن الآن أبعد ما يكون عن سذاجات النقد المعماري للثمانينيات. بل لدينا طريق طويل لنسيره وعلى الكُتّاب المعماريين الكثير ليفعلوه كي يشرحوا لماذا تحمل المباني والمناظر الاستثنائية، وكذلك الاعتيادية، قيمةً تستعصي على الوصف و«المفهمة».
إن مبانينا التاريخية مهددة بشكل دائم، حتى على الرغم من أنها كبيرة وباهظة، وإننا في مجتمعنا عامةً أكثر وعيًا بالاستدامة والهدر أكثر من ذي قبل. ومن غير المرجح أن يتحسن معيار التصميم في معظم المباني، إلا من خلال وجود لغة مشتركة، وحركة شعبية من أصوات عدة عن المباني. ولا يوجد سبب يدفعنا للبحث عن أهمية أحد المباني، يكفي أن نسمع العديد من الأصوات، المتعارضة أحيانًا، من أشخاص يستمتعون به، أو لديهم شعور قوي عنه، حتى وإن كان لأسباب ليس لها علاقة بمعماره الفعلي.