غضب وخسائر مادية: أبرز تداعيات سقوط الطائرة الأوكرانية
قضى المسؤولون الإيرانيون ثلاثة أيام في الكذب على شعبهم بخصوص السبب الحقيقي لسقوط الطائرة الأوكرانية ومقتل كل ركابها الـ 176، بينهم 82 إيرانيًا، قبل أن يجدوا أنه لا مفر من الاعتراف بمسؤوليتهم عن الكارثة وأنه لا فائدة من الإنكار بعد ما باتت أجهزة الاستخبارات الغربية تؤكد أن الطائرة أسقطت بصواريخ إيرانية. اعتراف صعب له العديد من التبعات نرصدها في هذا التقرير.
الاحتجاجات تعود مجددًا
كان عام 2019 شديد الوطأة على الشعب الإيراني الذي يئن بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة الناتجة عن العقوبات الأمريكية القاسية؛ تجاوزت معدلات التضخم 40%، وبلغت نسبة البطالة نحو 15%، وتتراوح نسبة الفقر بين 23 و40% وفق أرقام شبه رسمية.
طوال العام كان هناك حركات احتجاجية صغيرة ضد الأوضاع المعيشية، لكن الانفجار الشعبي الكبير وقع في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عندما فرضت الحكومة زيادة كبيرة ومفاجئة في أسعار الوقود، بنسبة 50% خلال ليلة واحدة، فانتشرت المظاهرات في عموم البلاد، وكانت أشد عنفًا عن أي حراك سابق، وشارك فيها محتجون من خلفيات اجتماعية مختلفة، بما فيهم الطبقات العاملة والأفقر.
قابلت السلطات الإيرانية الاحتجاجات بقمع وحشي وسحقتها باستخدام القوة المميتة، مما أدى إلى مقتل أكثر من ألف شخص وإصابة عدة آلاف آخرين واعتقال نحو 7 آلاف مواطن، وفق التقديرات الأمريكية. فيما تقدر منظمة العفو الدولية عدد الضحايا بـ 304 قتلى وآلاف الجرحى، فضلًا عن اعتقال آلاف المحتجين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والطلاب لمنعهم من التحدث علنًا عن القمع القاسي.
عقب موجة الاحتجاجات الواسعة وما قابلها من قمع، أتى مقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني بضربة جوية أمريكية في العراق، مطلع الشهر الجاري، كفرصة لنظام الملالي لإعادة توحيد صفوف الشعب تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع الشيطان الأكبر؛ أميركا».
لوهلة، كاد الأمر ينجح، بعد ما خرج مئات آلاف الإيرانيين في الشوارع ليودعوا بطلهم القومي سليماني ويطالبوا بالثأر لدمه، لكن سرعان ما خفتت حدة موجة القومية عقب اكتشاف الشعب الإيراني أن قادته خدعوه، وأن الطائرة الأوكرانية أسقطت عن طريق صواريخ إيرانية.
كانت صدمة الشعب الإيراني في قدراته العسكرية كبيرة، فبعد أن تحمل الأمرين في سبيل بناء جيش قوي قادر على حماية «الجمهورية الإسلامية والثورة» والوقوف في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل، أتى أمير علي حاجي زاده، قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني، ليقول إنهم اعتقدوا أن الطائرة الأوكرانية «صاروخ كروز»، وإن ضابط المشغل الدفاعي الذي أطلق الصاروخ کان یتوجب علیه الاتصال والحصول على إذن قبل إطلاق الصاروخ، لكنه لم يفعل ذلك، بسبب حدوث مشكلة في نظام الاتصالات، حالت دون ذلك!
اندلعت مظاهرات غاضبة، الأسبوع الماضي، بعد ما تجمع المئات الطلاب في طهران، من أجل تأبين ضحايا الطائرة وتكريمهم، ثم سرعان ما تغير الموقف وتحولت التجمعات إلى احتجاجات.
طالب المحتجون بمحاكمة المسؤولين عن إسقاط الطائرة، ومن تستروا على الحادث، ووصل الأمر حد ترديدهم شعارات ضد قادة البلاد وتمزيق صور قاسم سليماني، والهتاف بضرورة تنحي المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي. كما هتفوا أيضًا «الموت للكاذبين» على نمط الشعار الإيراني الشهير «الموت لأميركا».
موجة السخط الشعبية وصلت للعاملين في التلفزيون الرسمي الإيراني الذين أعلنوا استقالتهم احتجاجًا على تعاطي السلطات المحلية مع حادثة إسقاط الطائرة. فقد أعلنت المذيعة جيلاري جباري، عبر حسابها الرسمي على انستغرام، استقالتها من التلفزيون الرسمي الإيراني، وكتبت جباري في منشورها: «كان من الصعب جدًا بالنسبة لي أن أعترف بأن شعبنا قد قتل.. سامحوني لأنني عرفت هذا متأخرًا.. واغفروا لي 13 عامًا كذبت عليكم فيها»، فيما قالت زهرة خاتمي: «لن أعود إلى التلفزيون أبدًا.. اغفروا لي»، وكذلك الأمر مع سابا راد التي أشارت في منشورها إلى أنها بعد 21 عامًا من العمل في الراديو والتلفزيون لن تستطيع مواصلة عملها في وسائل الإعلام.
وصفت جمعية الصحفيين الإيرانيين تصريحات السلطات الإيرانية التي نفت بدايًة أن تكون مسؤولة عن الحادثة بأنها «جنازة للثقة العامة»، لافتًة إلى أن ذلك «أضر بالسمعة المهزوزة أصلًا للإعلام الرسمي الإيراني».
دفعت الأزمة بعض وكالات الأنباء المرتبطة بشكل وثيق بالنظام إلى بدء الإبلاغ عن الاحتجاجات في الشوارع، مثل وكالة «فارس» شبه الرسمية، التي بثت أخبار المظاهرات الاحتجاجية على سقوط الطائرة الأوكرانية، قائلة إن «نحو 1000 شخص رددوا شعارات ضد قادة البلاد ومزقوا صور قاسم سليماني».
طالبت الصحف الإصلاحية، مثل جريدة «اعتماد»،الحكومة بالكشف عن التوقيت الذي عرف فيه الحرس الثوري أن الطائرة أسقطت بصواريخه، وما إذا كانت هناك شخصيات بارزة في الحكومة لم يتم إبلاغها فعليًا حتى يوم الجمعة، وسبب عدم التنسيق بين سلطة الطيران المدني في البلاد والحرس الثوري.
وفق وسائل إعلام، أرسل المعارض الإيراني البارز مهدي كروبي، الذي يقبع قيد الإقامة الجبرية منذ عام 2009، رسالة غاضبة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيراني علي خامنئي، قال فيها: «صاحب الفخامة، كقائد عام، لديك مسؤولية مباشرة عن ذلك، من فضلك أخبرني هل كنت على علم بالكوارث صباح الأربعاء؟ أو هل علمت بذلك يوم الجمعة كما تزعم وسائل الإعلام المقربة إليك؟ إذا كنت على دراية وسمحت للجيش والأمن ومسؤولي الدعاية بخداع الشعب، فلا شك أنك لا تملك مؤهلات دستورية للقيادة.. وإذا كنت -كما يقولون- لست متورطًا في الكارثة ولم تتابع اكتشاف الحقيقة، فما هو الدور القيادي القوي الذي تلعبه أنت في البلاد في هذه الحالة؟ من الواضح أيضًا أنك تفتقر إلى الحكمة والشجاعة والإدارة والقوة اللازمة للقيادة».
وفي محاولة منها لتهدئة الغضب، أعلنت السلطات القضائية في إيران اعتقال عدد من الأشخاص يشتبه بتورطهم في إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، دون أن تحدد هويتهم ومناصبهم.
خلافات داخلية
حملت الرئاسة الإيرانية الحرس الثوري مسؤولية الكذب الرسمي حول سبب سقوط الطائرة الأوكرانية، وقال متحدث باسم روحاني: إن «الحرس الثوري أخبر الرئيس على نحو زائف بأنهم لم يكونوا متورطين. وقال علي ربيعي المتحدث باسم الحكومة: «كل السلطات المعنية أكدت لنا عدم سقوط الطائرة الأوكرانية بسبب أي صواريخ إيرانية».
أثار إلقاء روحاني باللائمة على الحرس الثوري غضب قادة الحرس. ظهر هذا في مقطع صوتي مسرب لأحد ضباط الحرس الثوري -نشرت نصه صحيفة التلغراف البريطانية– وهو يخاطب غرفة مليئة برفاقه ويحثهم على التغلب على العاصفة السياسية الحالية، قائلًا: «البيان الصادر عن الحكومة والذي أقر فيه بسبب تحطم الطائرة كان مشينًا. لا ينبغي أن يكون البيان قد ألقى باللوم على الحرس الثوري بأكمله وكان يمكن أن يقول إن الأمر خطأ فردي».
وتابع الضابط مجهول الهوية: الحكومة كان من الممكن أن تنتظر شهرين أو ثلاثة قبل أن تعلن الحقيقة لتسمح للحرس الثوري بالحصول على دعم وتعاطف شعبي أكبر على خلفية اغتيال قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني وما تلاه من قصف لقاعدتين في العراق. أضاف أن إدارة روحاني فشلت في إظهار الامتنان للحرس الثوري لسحقه الاحتجاجات المناهضة للحكومة في أواخر العام الماضي.
هناك خلاف آخر شديد الأهمية بين المرشد الأعلى للثورة خامنئي والرئيس روحاني، رصدته عدسات الكاميرات خلال صلاة الجمعة الماضية، عندما استعجل روحاني بالمغادرة بينما المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، الذي كان يؤم الصلاة ساجدًا. وعزت بعض التقارير السبب في ذلك إلى وجود خلاف بين الرجلين حول طريقة إدارة أزمة الطائرة الأوكرانية.
خسائر مالية ضخمة
إلى جانب الإحراج الدولي الكبير الذي وضعت فيه إيران بسبب خطأ إسقاط الطائرة الأوكرانية، ستتكبد طهران خسائر مالية كبيرة جراء الخطأ، في وقت تمر فيه بأزمة اقتصادية طاحنة.
وستضطر إيران إلى دفع تعويضات تقدر بعشرات ملايين الدولارات إلى أسر ضحايا الطائرة، وهو مطلب لن تتهاون دول الضحايا فيه، حيث قالت أوكرانيا التي توفي 11 من مواطنيها في الحادث، إنها ستصدر بيانًا قريبًا بخصوص التعويضات، وإنها متفقة مع إيران بخصوص هذا الشأن، فيما قالت كندا التي فقدت 57 من مواطنيها في الحادث إن أولى أولوياتها هو الحصول على تعويضات مالية لعائلات الضحايا.
إلى جانب هذا يتكبد الاقتصاد الإيراني يوميًا خسائر مالية كبيرة، بعد ما قامت عدة شركات طيران بإلغاء رحلاتها إلى إيران، وغيرت شركات أخرى تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، والنرويجية، والماليزية، والأسترالية اتّجاهها، متجنّبة المجال الجوي الإيراني. كما أن قطاع السياحة المتضرر أصلًا من الأوضاع في إيران سيمر بأزمة كبيرة.