الإجماع: سؤال الديمقراطية في الإسلام
يتمتع الإجماع في الفقه السني بدرجة كبيرة من الاعتبارية، على العكس من المذهب الشيعي الذي يرى أن «الإجماع» لا يصلح أن يكون دليلاً مستقلاً قائمًا بذاته طالما لم يستند على قول أحد الأئمة «المعصومين» في المفهوم الشيعي. يعد الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي لدى أهل السنة بعد القرآن الكريم والسنة النبوية.
استقر مفهوم الإجماع ودلالته في الاصطلاح الفقهي على أنه إجماع الفقهاء المجتهدين على حكم معين من أحكام الفقه الإسلامي في أي شأن من شئون الدين أو الدنيا.
لا يتم الالتفات كثيرًا إلى حقيقة أن مفهوم الإجماع في التاريخ الإسلامي قد تطور عبر عدة مراحل حتى صار إلى ذلك المفهوم المشار إليه أعلاه، حيث كان مفهوم الإجماع في عصر الصحابة أكثر اتساعًا من مفهومه اللاحق الذي اقتصر على الأحكام الفقهية وحسب، حيث كان في بعض الحالات هو آلية إسناد السلطة السياسية كما جرى في سقيفة بني ساعدة.
بدأ مفهوم الإجماع يضيق شيئًا فشيئًا بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين، فتقيدت حدوده ومظاهره، فصارت الفئة المنوط بها الإجماع مقتصرة على فئة الفقهاء المجتهدين، وعندئذ زالت اعتبارية الفرد العادي الذي كان في العهد الأول هو وغيره من المسلمين سواسية في أمة من الناس «يسعى بذمتهم أدناهم» كما في الحديث الشريف؛ أي كان أقلهم مكانة وشأنًا يستطيع أن يمنح الأمان للأجانب الغرباء، وما إلى ذلك من حقوق لم يكن يتمتع بها إلا السادة والأشراف في المجتمعات الأخرى.
في هذا السياق التاريخي، أصبح يشار إلى عموم المسلمين من آحاد الناس في السياق العادي داخل عموم الكلام المدون في التراث بلفظ العامة وأحيانًا السوقة، في دلالة إلى أن هؤلاء بصفتهم تلك وحسب – أناس عاديون – هم همل ودهماء لا قيمة لهم. هنا، ربما لنا أن نفهم أن سيرورة تاريخية معاكسة لما جرى في الغرب الحديث الذي تعززت فيه قيمة الذات الفردية، قد جرت في العالم الإسلامي التاريخي حيث تقوضت خلالها قيمة ذوات الأفراد، وتهاوى فيها الإجماع ومن ثم الاجتماع السياسي السليم والحكم الصالح.
أدلة الإجماع
يستند الإجماع في كونه مصدرًا فقهيًا على العديد من الأدلة من القرآن والسنة، يبدو أكثرها وضوحًا وصراحةً الحديث الذي رواه أحمد في مسنده والطبراني في «المعجم الكبير» وابن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
وقد رُوي الحديث نفسه بروايات عديدة أخرى، وعضّدته بعض المرويات عن الصحابة والتابعين كقول ابن مسعود الذي رواه الإمام أحمد:
لماذا لم تتسع الدلالة إلى السياسي؟
لا يخفى أن عموم اللفظ في جميع الأدلة التي سبق الإشارة إليها، وكذلك أيضًا في غيرها مما لم يتسع المقام لذكرها، أن الإجماع المقصود هو إجماع عموم المسلمين، وليس الفقهاء الفئة التي لم تكن تشكلت بعد في عهد النبوة بالمعنى الذي عرف لاحقًا في عهد التابعين وتابعي التابعين.
لا يجد مفهوم الشورى المستلهم من القرآن الكريم الذي تم إحياؤه في الأزمنة الحديثة أمام صدمة الحداثة، في محاولة للتوفيق بين الإسلام والمفاهيم السياسية الغربية الحديثة وعلى رأسها الديمقراطية على المستوى التراثي، تمثيلاً أفضل من مسألة الإجماع الذي أصبح المصدر الثالث للتشريع في الإسلام لدى أهل السنة الذين يشكلون معظم قوام أمة المسلمين.
إلا أن ذلك التمثيل التاريخي أجهض مبكرًا وأفرغ من محتواه السياسي، وأصبح قاصرًا على المعنى الفقهي، الذي أصبح قاصرًا بدوره على أحكام الطهارة والعبادات وبعض المعاملات، وابتعد بشكل شبه كلي في غالب الأحيان عن السياسة وشئون الحكم.
كما فقد أيضًا طابعه المؤسسي الذي تمثل في أمرين ألا وهما؛ ما يعرف بـ «أهل الحل والعقد» الذين كانوا يمثلون التراكيب النخبوية في المجتمع الإسلامي التقليدي، و«البيعة» التي كانت هي وسيلة إسناد السلطة من المجتمع أو ممثليه من أهل الحل والعقد للحاكم. صارت البيعة بمرور الوقت بيعة صورية تتم تحت قوة السلاح والعصبية السياسية القبلية للأسر والعشائر الحاكمة كبني أمية وبني العباس وغيرهم، وأصبح أهل الحل والعقد ليسوا من ممثلي المجتمع كالفقهاء وزعماء العشائر والقبائل، بل من ممثلي الدولة ورجالها المعينين من قبل الحاكم نفسه من وزرائه وبطانته وحاشيته.
لكل هذه الأسباب تحول مفهوم الإجماع بالنحو الذي هو عليه الآن في علم أصول الفقه في الوقت الحاضر، إلى مفهوم مبتسر مفرغ المحتوى، فقد الكثير من دلالته الأصلية ومن اعتباريته كمصدر أساسي للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم والسنة النبوية.