ديستوبيا بنكهة الاستعباد: قهر المدينة في سينما عاطف الطيب
أعلم أن الكتابة عن عاطف الطيب صعبة وربما تكون شاقة، الحديث عن رجل كهذا أمر يثير في النفس نوبة قلق، أعلم ذلك كما أعلم أن هذا المقال سينضم لاحقاً ضمن آليات محركات البحث عن عاطف الطيب وسينماه إذا ما تمت الموافقة على نشره، كما أعلم أن هذا المقال ربما لن يأتي بالجديد، ولكن بعد تفكير طويل قررت أن أخالف العرف العام ولو مرة واحدة وآخذ هذه اللعبة على محمل الجد وأكتب في عاطف الطيب لا عن عاطف الطيب.
ظهرت المدينة كرمز للرومانسية والشاعرية المفرطة مع عزالدين ذو الفقار، وبدت رمزاً للانفتاح الفكري والتحرر الجنسي ومقصداً للثراء السريع والسلطة دون عائق الترقي في أفلام فؤاد الجزاريلي ونيازي مصطفى، بينما وجدها هنري بركات وصلاح أبو سيف تتوافق مع الظرف السياسي المعاش، ثائرة وفائرة وتمتلك دوماً زمام المبادرة، بينما تظهر كإرث حضاري يستحق التبجيل والوقوف أمامه في وضع المهابة؛ في الأفلام الوثائقية لكل من إبراهيم البطوط وسعيد نديم، تبدأ الإشكالية الأخلاقية في سرد المقال إذا ما تم فعلاً الاستناد الضمني إلى ما إذا كانت المدينة في ما سبق، جرى تناولها وفق رؤى شخصية نابعة من مضمونية القائمين على تلك الأعمال أم تم توجيههم ثقافياً وسياسياً في أزمتهم المعاشة لإظهار المدينة بكل ذلك الجلال الثقافي والرقي الحضاري بخاصة وأن شوارع ومباني ومعالم القاهرة لم تظهر في تلك الأفلام بدرجة يتناسب فيها وجودها الدرامي مع حيز المعاش، نظراً لأن أغلب هذه الأعمال كانت تنفذ داخل الاستوديوهات والشقق والقصور الفارهة.
في الحقيقة لا أملك الإجابة اللازمة إزاء هذا الطرح وبما أنني لست من هواة إعطاء الإجابات الفورية إزاء أزمنة لم يتسنّ لي لمسها بالأيدي؛ فإني أكتفي بالطرح من دون اللجوء لإسهاب مُفعم بتفسيرات تفتقد مسببات الدلالة، ولكن ما هو مُتأكد منه حقاً أن فترة آواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات شهدت أكبر انقلاب في علاقة السينما المصرية بالمدينة، علاقة بدت طردية وواقعية ولا تحتمل الدهشة، حيث ومن واقع سياسي مرير انطلق ما سيعرف لاحقاً بـ«سينما الواقعية» التي قادها وعن جدارة كل من عاطف الطيب ومحمد خان، سينما قد تبدو صادمة للبعض بخاصة لعشاق «القاهرة الرومانسية» ولكنها كانت واقعية فعلاً وتناسب مسارها التاريخي وتفاعلها الزمني. بخاصة سينما عاطف الطيب التي لم تلتفت لتجميل الواقع المعاش بل صبته مجسداً كما هو لحماً وعظماً، ذيلاً ورأساً في بوتقة خيال المتلقي، الذي لم يستطع صهره بكل تأكيد بل حاول جاهداً ابتلاعه بكل ما يحمله المعنى من فردية.
المدينة كعدو
ولد عاطف الطيب في مركز المراغة بسوهاج إحدى محافظات صعيد مصر وتحديداً في قرية الشورانية، عاش هناك طفولة خالية من القلق والترقب وتأرجح اليقين، ويرجع ذلك ربما والعارفون سيفهمون ذلك أن مجتمع الصعيد هو مجتمع متشابك الدماء ومعقد الأنساب، يربط الجميع هناك رابط أشد متانة من كونه مجرد مساحة من العيش يتشاركون فيها، إنه رابط «أبناء العمومة» فكل البيوت بيتك وكل الأولاد أبناء عمومتك وكل النساء خالاتك وجداتك وكل الرجال آباؤك وأعمامك، على عكس مجتمع المدينة الذي يعد نسيجاً متنوعاً ومتنافراً في نفس الوقت، حيث يضم في طياته ثقافات ولهجات وعادات مختلفة؛ نظراً لأنهم ليسوا من أصل واحد ولا تربطهم أي صلة قبلية أو اجتماعية أو ثقافية، بل التقوا نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية وتاريخية وسياسية مختلفة.
ربما التشكل الحقيقي لوجدان الطيب حدث بعد خروجه من القرية الهادئة الهاجعة المحمية من آفات الزمن وعادات الطيور بفضل العادات الحميدة لأهلها إلى المدينة، وهو ما سينعكس لاحقاً على أغلب أعماله السينمائية؛ فالمدينة عند «الطيب» هي كتلة خرسانية صُممت على عجل ودون مراعاة لأي شاعرية إنسانية لاحتواء آلاف الغرباء بداخلها، مبان مجردة من أي حب لأنها صنعت بلا حب ولم تعرف الحب ولن تعرفه أبداً، مربعات هندسية تم تقسيمها وتمزيقها عملياً إلى شوارع وميادين وأزقة فقط لتسهيل عملية هضمها داخل أمعاء البيروقراطية التنظيمية المعقدة، حفنة من مبان قذرة صامتة وباردة تسبح في مستنقع آثن وعفن تحت رحمة السلطة، مساحة من العيش كئيبة في كل شيء تطلق مع أول خيوط الفجر نوبة كراهية ضد قاطنيها فتحيلهم رماداً فوق رفوف السلطة. يقول عاطف الطيب على لسان أحد أبطاله في فيلم «الحب فوق هضبة الهرم»: إن المدينة ما هي إلا لعنة قديمة صنعتها الشياطين لجعل كل الأمور تبدو منظمة مع أن الأشياء ستكون أبسط من ذلك إذا ما تُركت على سجيتها.
وتلك نقطة الجدل التي سيعيشها كل شخوص أفلامه، أُناس عاديون ومهمشون في مواجهة كل هذا الذرء الرحِب للسلطة التي تسمى المدينة.
تصرخ مديحة في فيلم «ملف في الآداب» في وجه السلطة التي طعنتها زوراً في شرفها رافضةً حكم براءة في مساحة عشرين متراً فقط، تعلم أن هذه المدينة لن ترحمها بعد خروجها من قفص الإدانة، تُطالب بأكثر من ذلك أن تتم تبرئتها في محكمة شعبية تصرخ باكيةً «ما فائدة البراءة يا سيادة القاضي وأنا ما زلت متهمة في أعين الناس».
يضطر حسن في «سواق الأتوبيس» لاستخدام العنف كأداة مجتمعية للعيش بعد أن فشلت كل محاولاته لمواجهة المدينة بالتهادن، يُوقف شاحنته في منتصف الطريق ليطارد «نشالاً» ثم يكيل إليه اللكمات يميناً ويساراً مفرغاً كل غضبه وثورثه دفعة واحدة دون إنذار مسبق.
ترفض سلوى شاهين في «كشف المستور» تحويلها إلى عصا يابسة في أيدي السلطة، تخوض حرباً ستنتهي بهزيمتها لا محالة هي تعلم ذلك، تبدأ رحلة البحث عن مخاديعيها القدامى ومستغليها الجدد حتى ينتهي الأمر بمقتلها.
يُضيق كل هذا «الليبنثتروم» مساحة العيش على عاشقين متزوجين حديثاً، يختليا خلوة الحب داخل مدينة تغمرها آلاف البنايات، وعلى الرغم من ذلك لم يعد يشغل المدينة إلا ملاحقة الشابين وعقابهما على جرم لم يرتكباه، حدث ذلك في «الحب فوق هضبة الهرم».
الديستوبيا اللذيذة
في كاميرا عاطف الطيب البطل يغوص حتى قدميه في مستنقع المدينة ولكنه يرفض الغرق، الأمر أشبه ببرميل بارود سوفيتي مخيف ولكنة لن ينفجر.
في مكان ما في العالم هناك نظام ديكتاتوري قمعي متوحش مُغل في العفن، يسحق إرادة الناس ويؤرق مطباعها فيتسرب كبرص آسيوي إلى روحهم وقلوبهم فيحيلها رماداً فوق نار الذكرى المشتعلة، وعلى مسافة إصبعين من هذه السطور يوجد نظام تزخر الناس فيه برغد العيش وينعمون بالسلام والسكينة، تكمن لذة اللعبة هنا أن المفارقة القدرية بين مجتمعين أحدهما يُشوى في نار الظلم المتقد، والثاني ينعم في رخاء عدل اجتماعي منقطع النظير، لطالما تكلم البشر عن المدينة الفاضلة/اليوتوبيا، منذ بدء التاريخ الفكري تقريباً. مدينة أفلاطون الفاضلة كانت أول تصور للمدينة المثالية، ثم صاغ توماس مور المصطلح في القرن السادس عشر، اليوتوبيا أو الطوبيا، وتوالت التصورات الأدبية والفلسفية التي تصف اليوتوبيا التي يعيش فيها البشر بسلام ويتمتعون بالسعادة والرخاء. لكن هناك نوعاً آخر من القصص وجد طريقه إلى الأدب في وقت متأخر نوعاً ما، وهو «قصص الديستوبي».
يمكننا الاعتبار أن أول رواية دستوبية يمكن تصنيفها حقا أنها ديستوبية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هي رواية الأديب الإنجليزي جوزيف هول «العالم الآخر والعالم ذاته Mundus alter et idem» التي نُشرت عام 1607م، وهي تصف عالماً مستقبلياً مقسماً إلى مقاطعات تعبر كل منها عن رذيلة من رذائل البشر، بينما يعتبر أول فيلم ديستوبي ظهر حاملاً ثقل هذا الاسم بداخله هو الفيلم الإنجليزي «Oppressed People»، الذي أُنتج سنة 1917، الذي كان يسلط الضوء على معاناة أسر الجنود الإنجليز المشاركين في الحرب العالمية الأولى، لتبدأ بعد ذلك سلسلة طويلة من سينما الديستوبية التي اختلفت قليلاً عن سينما الواقعية الاجتماعية اختلافاً طفيفاً ولكنه يظل اختلافاً، وهو أن السينما الديستوبية كانت لا تلتفت إلى المعاناة ما لم تحمل رمزاً سياسياً يمكن الإشارة إليه بالإصبع.
تركز سينما الديستوبيا على الاغتراب المجتمعي وفقدان الهوية الذي يعانيه الفرد في حيزه الجغرافي والاجتماعي نتيجة ظلم سياسي أو مجتمعي وقع عليه، تنعدم في مثل هذا النوع من الفن أي رموز تحمل وجهين وأي فكرة تحمل تخليقاً ثنائياً في طيها، الرمز يمكن لمسه بالأيدي والإسقاط لا يحمل ألغازاً مبطنة بداخله يصبح المعنى أحادياً في عالم يفتقد أدنى مسببات الدلالة يحكي الفيلم الإيطالي «Produttore di Raso» الذي أُنتج سنة 1941، عن جورجي كونتي مصمم الأزياء الماهر طيب السمعة وخفيف الظل الذي عاش حقبة الديكتاتور الإيطالي بينتو موسوليني وأُجبر على التجنيد في الجيش والانضمام إلى الحملة الإيطالية في الصحراء الغربية، وبين طرفة عين وغمضها يجد كونتي نفسه حاملاً رشاشاً على ظهر دبابة «مياس» سيئة التصميم خاض عراكاً في الصحراء المفتوحة بالأيدي مع جنود الإمبراطورية الإنجليزية، عندما فرغت ذخيرته نجا بمعجزة من الأسر مرتين ومن فخ أربعة ألغام أرضية، أراد له المخرج أن يعيش ويعود إلى إيطاليا بعد سقوط الفاشية وانتهائها الزمني بشنق موسوليني في عرض شعبي على إحدى عوارض محطات البنزين؛ ليعيش مرحلة الاغتراب وتقزم الذات وجد حانوته قد تحول إلى أحد متاريس الدفاع للجيش الأمريكي، وأمه ماتت وأُلقيت عظامها في موقد شحم دون تمكنه من العثور عليه ودفنها كمسيحية، وأخته هربت مع أحد جنود الحامية النيوزيلندية. وأصدقاؤه قطعوا الاتصال به باعتباره أحد آخر المتاريس الصغيرة في ماكينة الفاشية التي تم تفكيكها. عانى كونتي الاغتراب عن الواقع، فقد البوصلة وتسربت الحياة من بين يديه ليختار أخيراً الوقوف على سطح داره المهدمة ويصرخ ثم يسقط من ارتفاع 15متراً.
في «كتيبة الإعدام» يضع عاطف الطيب بطله أمام مأزق أخلاقي وسياسي معاً، يُسجن حسن عز الرجال 14 عاماً على إثر جريمة لم يرتكبها وذنب كان بمنأى عنه، يُطعن في شرفه ووطنيته ونزاهته، يُلاقي الويلات إزاء مجتمع وصمه بذنب لم يقترفه يعاني الاغتراب وانعدام التوازن والقليل من فقدان الثقة؛ يتوارى في جحر في إحدى اللوكاندات سيئة السمعة مفضلاً دفن نفسه حياً وأن يموت من الغيظ على أن يصفه الناس بالخيانة، بينما الخائن الحقيقي ينعم في رغد العيش. يبحث حسن عز الرجال عن ابنه، بينما تبحث نعيمة عن قاتل أبيها وأخيها، ويبحث الضابط يوسف عن الأموال التي يقال إن حسن عز الرجال سرقها أثناء حصار السويس. في تشابك معقد من حمي الغليان التي أولدتها الأحداث وحدها يجتمع الثلاثة على تبرئة حسن بعد معرفتهم بأمر المتآمر الحقيقي، كان من المفترض أن أقول الاثنين ولكن حسن نفسه كان مشكك في براءته، وطيب سمعته، أفقده الاغتراب بين جدران المدينة التي لفظته وطردته وبصقت عليه القدرة على الإمساك بمتلمسات الواقع الذي عاشه فقد حسن الإدراك وبات متشككاً جامداً مع القليل من عجز الإرادة وتأرجح اليقين.
قضى عاطف الطيب خمس سنوات مجنداً في الجيش في فترة من أشد الفترات إثارة للجدل في تاريخنا المشرف، جزء من ترابنا الوطني تم اقتطاعه عنوة من خلال الشمال، سقطت كل الأكاذيب عن قوة جيشنا الباسل وأفرغ عبد الناصر عن وجهه المزيف وبات ضعيفاً هشاً لا يحتاج إلا نفخة واحدة ليسقط مقوضاً وها قد سقط، مات عبد الناصر تاركاً سفينة الوطن تبحر على غير هدى ضد التيار. الأرض محتلة والإرادة عاجزة والناس قلقون والعالم قد مات من حولنا؛ بتنا معزولون مهلهلون يابسون كغصن شجرة؛ خرج عاطف الطيب من سنوات التجنيد وقد عانى الخوف والقلق وظل لعامين حتى استرجع إحساسه بالواقع وجد الوجوه تبدلت والقناعات تغيرت والأفكار قد تم بيعها والمدينة شاخت وتم محو معالمها وتكالب الناس بلا وعي على مهرجان الانفتاح العظيم، يقول هو نفسه عن تلك الفترة لصديقه سعيد الشيمي: «كنت عايز أموت أحسن من إني أعيش الواقع دة»، لعله لم يجد إلا شخصية حسن في فيلم «سواق الأتوبيس» ليصب عليه غيظه ويروي من خلاله تجربته في سرد شجاع وبلا حياء على الإطلاق.
تدور أحداث الفيلم حول سائق أتوبيس خرج لتوه من سنوات التجنيد السبع وشارك في حرب أكتوبر، وما بين نشوته بالانتصار ورجوعه إلى رحم المدينة التي ولد فيها ينصدم بأن المدينة التي عاش فيها طفولته لم تعد تشبهه، هذه المباني الصامتة الكئيبة وهذا الزحام الخانق وهذا التبدل الاجتماعي سريع الذوبان في ماء الوطن «ماذا يحدث في تلك المدينة!؟» يتساءل حسن ليجيبه أبوه : بأنه تم الحجر على الورشة التي يملكها وهي معروضة للبيع في مزاد علني، يحاول حسن إنقاذ الورشة من البيع لأنها تمثل سمعة والده، فيذهب إلى أخواته البنات وأزواجهن ليساعدوه في سد الدين وإنقاذ الورشة لكن الكل يطمع ويستغل الحاجة؛ يدخل حسن مع أصدقائه الذين كانوا معه في ميدان القتال في نوبة شك وتذبذب يقين سابحين في صحراء القلق الممتدة حتى الطرف الأخير من تاريخنا سيئ الذكر بأنهم هم من قاتلوا وغيرهم من حصد بنضالهم ودمائهم.
ثنائية الخوف والهروب
مع موسيقى كئيبة تخلو من أي شاعرية تذكر، يبدأ عاطف الطيب تقديم بطله المهزوم «منتصر» على أنه شاب ثلاثيني يعيش واقعه المغاير بعد أن سلبته المدينة هدوءه وخدشته في موضع طمأنينة كان بمنجى عنه؛ وحولته إلى لص ومزور وقاتل بالتبعية مطلوب من ثلاث جهات حكومية. تبدأ إشكالية منتصر الاجتماعية بل لنقل الأخلاقية، عندما قرر مغادرة الريف بإلحاح من زوجته تحت حمى اندفاع غير محتسب العواقب قاصداً المدينة طمعاً في تغير وضعه الاجتماعي، ثنائية المدينة/ الريف في «الهروب» تبدو حاضرة في ذهنية عاطف الطيب منذ مغادرته الريف وارتحاله للمدينة للدراسة في معهد السينما، فالمدينة التي سلبت من الطيب هدوءه وشبابه وأقحمته في تشابك الواقع مع خياله الفردي، نفسها من سلبت من منتصر نفس الشيء باختلاف طفيف يغير مجرى الأحداث وبالتالي يضيف للقصة جانباً أكثر راديكالية، يشبه بطل «الهروب» سعيد مهران في «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، يتعرض لسلسة من المؤامرات والخيانات والطعنات من أقرب الناس إليه حتى من زوجته، فيخرج من السجن رغبة في الانتقام، ولا يشعر بالحرية والراحة إلا عندما يعود إلى بلدته في الصعيد مستلقياً في أرجوحته تحت شجرة التوت ليراقب الصقور والطيور وهي تشق آخر خيوط الشمس قاصدة أعشاشها.
البريء إشكالية المدينة والسلطة
«أستاذ وحيد هو أنت من أعداء الوطن بصحيح» تقول الأسطورة وبعض الأساطير حقائق أن السيناريست وحيد حامد كان مشاركاً في احدى المظاهرات سنة 1986، ليتفاجأ بجندي أمن مركزي يضربه على رأسه بعصا خشبية وعندما التفت ليراه وجد أنه أحد أبناء قريته؛ وكانت هذه هي الجملة التي نطق بها ذلك العسكري، بعد ثلاث سنوات من ذلك يروي وحيد حامد هذه القصة لصديقه عاطف الطيب الذي أمسك بلفافة ذات خيط رفيع وقال «عسكري بريء»، ومن هنا جاء أحد أعظم الأفلام في تاريخ السينما الواقعية المصرية «البريء». تنجلي عظمة الطيب في المزاج ثنائي الدلالة مع الإسقاط أُحادي المعنى وهو ما يميز جميع أعماله السينمائية، ولكن في «البريء» يحدث اختلاف طفيف ولكنه لا يخل بالنهج أبداً المدينة/ الريف/ السلطة. يعيش أحمد سبع الليل وكان من المفترض أن يعيش ذلك للأبد لولا أنه في يوم سبت مشؤوم طُلب على عجل لخدمة الوطن، على سجيته يسبح في ترعة اللامبالاة الممتدة على ضفاف قريته لا يعرف عن العالم سوى أنه عالم آخر وبالتالي لا يمكن لمسه بالأيدي، فلاح بسيط يفتقد أدنى مسببات النظر إليه أنه قد يكون ذا فائدة في متاريس السلطة في يوم من الأيام.
تبدأ محنة سبع الليل الحقيقية عندما يتم زجه في أتون المدينة الزاخرة في رحاب السلطة العفنة، يفتقد سذاجته وطيبته وغباءه الفطري بمجرد خدمته بأحد مراكز إعداد المعتقلين السياسيين «كانوا يسمونها كهذا».
يضرب يده في قلبه ليخرج أحقاداً قديمة كانت مخبأة بين سيقان الحقول التي كان يزرعها في سنوات سلامه لن تعود أبداً، وعلى الرغم من أن صديقه «حسين وهدان» قد أفهمه وأوعظه قيمة الجندي ومعنى الوطن الحقيقي، فإن للمدينة وعلى امتداد فسيح من السلطة أقنعته أنه لا بد من تصنيف البشر تصنيف يحمل كل معاني الدنس ووضع أرقام على أقفيتهم كي يتسنى لهم معرفتهم ثم الحذر منهم، يتورط في عملية تصفية تليق به كبرعم صغير في حقل النخبوية النتن وعلى الرغم من صراخ «رشاد عويس» وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لسبع الليل «أنت مش فاهم حاجة»، فإنه ظن أن الوطن قد تخلص من أحد أعدائه لا نريد الجور على هذا الجندي البسيط في الواقع «أحمد سبع الليل» كان يقاوم التغيير لأن الواقع هو الضامن الوحيد لاستمرار حصوله على الفتات، بل يقف في وجه ثورة وشباب انتفض من أجله ومن أجل حقوقه المهدرة ومن أجل كل الأبرياء في مدينة الموتى تلك.