قرارات الكونجرس: حرب اليمن مستمرة وابن سلمان باقٍ
نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 يلتقي ولي عهد الإمارات محمد بن زايد مستشار ترامب للأمن القومي، جون بولتون، في قصر الشاطئ في أبو ظبي.شائعات تدور حول أن ابن زايد أبلغ بولتون أنّه لم يعد يريد إنفاق المزيد من الأموال في «المُستنقع اليمني»، وصرّح برغبته في الخروج من اليمن، لكن دون أن يترك ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، وحده والحرب في حالتها المتأزمة. وأضاف أنه يحاول السيطرة على ميناء الحديدة في محاولةٍ أخيرة لحفظ ماء الوجه؛ ليخوض على إثرها مفاوضات للخروج من اليمن، لكن من موضع قوة.
ديسمبر/ كانون الأول 2018 يجتمع الكونجرس الأمريكي لمناقشة قرار رفضوه منذ شهور، حظر بيع الأسلحة للمملكة بسبب سوء استخدامها في حرب اليمن، وسحب جنود الولايات المتحدة من اليمن، عدا الذين يقاتلون الجماعات المتطرفة. خطوةٌ ضل عنها الكونجرس الأمريكي طوال 4 سنواتٍ، هى عمر حرب اليمن. كما تم تقديم عدة مشروعات لقرارات تحظر تقديم الأسلحة للمملكة، لكن تم رفضها أو تأجيل مناقشتها. فما الذي تغيّر في عقيدة الكونجرس هذه المرة، أم أن شيئًا لم يتغيّر والقرار مجرد مناورة سيربح من خلالها الجميع؟
يجب أولًا أن نضع القرار في مكانته التشريعية الصحيحة بعيدًا عن الحفاوة الشعبية التي استُقبل بها. التصويت في الكونجرس يُعتبر رمزيًّا، لأنه تصويت كان هدفه جمع 60 صوتًا لكي يصل القرار إلى مجلس النواب لمناقشته والتصديق عليه، فيصير حينها قانونًا مُلزمًا. ومجلس النواب يغلب عليه ديموقراطيون، لكن يبقى فيه جمهوريون يشاركون ترامب رغبته في مزيدٍ من صفقات السلاح مع أي طرفٍ يكن؛ لضخ مزيد من الأموال والوظائف. ولا يحق للمتفائلين أن يتجاهلوا حق النقض «الفيتو» الذي يمتلكه ترامب، ما يُمكنه من إيقاف المشروع دون إبداء أسباب.
القرار إذن لا ينتظره أعضاءٌ يشاركون العرب حفاوتهم به، لذا فأمامه معركة طويلة بداخل مجلس النواب سيقطعها العديد من إجازات الأعضاء بمناسبة حلول العام الجديد. وإذا تم إقراره فسيكون قرارًا لحظر بيع مزيدٍ من الأسلحة لا حظر استخدام الترسانة السعودية الحالية، ويتم سحب الجنود الذين «لا يحاربون الجماعات المُتطرفة». كما تبقى احتمالية أن يفاوض ترامب مجلس النواب على عدم استخدام الفيتو شريطة ألا يُعارضوا تزويد الولايات المتحدة للتحالف بالوقود، ومساعدته في عمليات الاستهداف، بجانب صور أخرى للدعم. فالتحالف في العقيدة الأمريكية يُقاتل الحوثيين، رُسل إيران وأعداء الولايات المتحدة.
خاشقجي قُتل في الوقت المناسب
القرار الثاني الصادر عن نفس جلسة الكونجرس كان قرارًا بمسئولية ولي العهد السعودي عن قتل الصحفي المُعارض جمال خاشقجي. خاشقجي ليس مواطنًا أمريكيًّا ولم يُقتل على أرض أمريكية؛ لذا لا داعي لأن تُزعج الولايات المتحدة نفسها بالتدخل في قضيته، هذا هو رأي رئيس الولايات المتحدة في القضية منذ البداية. يُضاف إلى هذا الرأي دفاعه الدائم والمستمر حتى الآن عن مسئولية ولي العهد في القضية.
لذا ربما كان مقتل خاشقجي هو العامل الحفّاز في معادلة التدخل الرسمي لوقف مأساة اليمن، إذ سرّع فقط من تمام التفاعل دون أن تتغير خواصه. فليس من المُتوقع على المدى القريب أو البعيد أن يُطارد ابن سلمان دوليًّا أو تُجرى له محاكمة جنائية. كما أن القرار ليس انتصارًا لحرية الصحافة أو قدسية الحياة البشرية أو حتى منطلقًا من باب التأكيد على حرمة المؤسسات الدبلوماسية وضرورة تجنب استخدامها كفخاخ للاجئين والمُعارضين.
اقرأ أيضًا: خرج ولم يعد: من هو المعارض السعودي «جمال خاشقجي»؟
ربما شعر الساسة الأمريكيون أن الأمير الشاب بحاجة إلى طلقةٍ تحذيرية تُخبره أن الأمور ليست تحت سيطرته كما أخبر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. وعليه أن يأخذ بنصيحة ماكرون ويبدأ بالشعور بالقلق تجاه أفعاله وعواقبها، خاصةً أن الكونجرس ذاته هو من رفض قرارًا لحظر بيع الأسلحة الهجومية إلى البحرين، بصفتها مشاركًا في تحالف الحرب على اليمن، قبل أيامٍ فقط من التصويت لصالح القرار الحالي ضد المملكة. الأمر إذن متعلق بالسعودية ذاتها لا بحرب اليمن كمأساة إنسانية، وبعملية قتل غير محسوبة العواقب لا بعملية القتل كمبدأ.
أين جماعات الضغط؟
هنا لدينا سؤالٌ تنتقل إثارته من باب الاستحباب إلى باب الوجوب؛ أين جماعات الضغط؟ كيف صمتت مجموعات الضغط الإسرائيلية على تمرير قانون يضر بشريك شديد الحيوية مثل ولي العهد الجديد؟ جماعات الضغط لا يُستهان بنفوذها، فقد استطاعت في فترة حكم الرئيس القوي باراك أوباما أن تُرتب لقاءً وخطابًا في الكونجرس لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو دون أخذ موافقة أوباما، ليجد الأخير نفسه مرغمًا على التصفيق لعبارات نتنياهو بينما يتملكه الشعور بأن انقلاب سياسيًا قد جرى عليه، وقدرتها على التحكم في ترامب وفي مجالسه النيابيّة أقوى وأشد عمقًا.
أولًا تأخذنا الإجابة مرةً أخرى إلى ضرورة التأكيد على رمزية القرار حتى الآن، بالتأكيد جماعات الضغط تُدرك ذلك. ثم الاحتمال الثاني هو أن جماعات الضغط لا تراهن أبدًا على الحصان الخاسر، ولا تخوض معركةً تعلم أنّ فيها أدلة مُصورة ومُسجلة تملكها السلطات التركية، لذا فربما أنها ببساطة لم تمارس ضغطًا على أعضاء الكونجرس وتركتهم يتمتعون بوهم حرية الرأي والدفاع عن القيم الأمريكية.
اقرأ أيضًا: «جماعات الضغط»: كيف تُباع الديمقراطية الأمريكية بالمال؟
لكن الاحتمال الأقوى والأقرب لطريقة عمل السياسة الأمريكية التي تحكمها المصحلة أولًا والمصلحة آخرًا، أن معركة الاستنزاف الجارية تُدر دخلًا على الجميع، فالجميع ترّبح من خفض أسعار النفط، وسيربحون المزيد بالضغط على الأمير الشاب. فالمشهد الآن كالتالي: الكونجرس يُجرد سيفه، ترامب يحمي ابن سلمان من بطش الكونجرس، جماعات الضغط تملك الحل لكنها لا تتدخل، بهذا التوزيع المُتقن للأدوار يُمكن لأي طرف أن يطلب مزيدًا من التنازلات من ابن سلمان فيما يخص أمورًا متعلقة بالمنطقة، تكون أكثر دوامًا من خفض مؤقت لسعر النفط.
حتى لو
إذا حدث وصدرت موافقة نهائية على مشروع القرار، فهل يظهر ذلك على الأرض؟ الحرب نارٌ مشتعلة تحتاج دائمًا إلى الحطب كي تُبقي لهيبها متوهجًا. لكن إذا نفد الحطب منك فستنطفئ النار في وقتٍ ما، ليس الآن أو فورًا بل في لحظةٍ مستقبليةٍ ما، تبدأ في الخفوت والاضمحلال حتى تتلاشى تمامًا. هكذا سيكون الحال مع المملكة وحظر إتمام وتوريد صفقات أسلحة جديدة للمملكة.
المملكة تمتلك حاليًا 365 طائرة مقاتلة هي عماد حرب اليمن الجوية، 70% من هذه الطائرات أمريكية الأصل. إضافةً إلى 171 طائرة من طراز إف-15، وهى العمود الفقري لحرب اليمن حاليًا. ويمتلك الجيش السعودي أكثر من 3000 عربة مدرعة أمريكية الصنع والصيانة، هذا بجانب عشرات الآلاف من القنابل والصواريخ الأمريكية. لذا فالولايات المتحدة لم تكن تمد السعودية بأسلحة حرب اليمن يومًا بيوم، بل لدى المملكة فعلًا ما يكفيها لمدة طويلة. لكن فقد الصيانة الأمريكية للآليات التي ستتعطل، أو تحديثها بالتكنولوجيا المتتابعة، سيضعف من كفاءة الجيش السعودي ما ينعكس على استعار حرب اليمن.
اقرأ أيضًا: هل تفرض أمريكا على التحالف العربي وقف حربه في اليمن؟
يمكن أن تُدرك حقيقة أهمية صفقات الأسلحة الأمريكية-السعودية إذا علمت أن تغريدات ترامب عن مئات الألوف أو ملايين الوظائف التي تخلقها تلك الصفقات هي تقديرات شديدة المبالغة. ففي أشد الدراسات الاقتصادية تفاؤلًا توفر تلك الصفقات 20 ألف وظيفة فقط سنويًا، أي 0.3% فقط من الوظائف الأمريكية. وفي حال إلغاء بعض الصفقات السعودية أو كلها فإن تلك الوظائف لن تتأثر على الإطلاق لوجود زبائن آخرين يفضلون السلاح الأمريكي.
إجمالًا، يمكن لقرار واشنطن أن يُنهي حرب اليمن، لكن على المدى الطويل، مع اشتراط أن تتوقف الولايات المتحدة عن صيانة وتحديث الصفقات السابقة، وهو ما سبق أن إلى أشرنا أن ترامب سوف يستخدم ورقة الفيتو لمفاوضة الكونجرس حوله، ويبقى الأثر المباشر لإدانة ولي العهد في قضية خاشقجي هو تشريفٌ لروح خاشقجي. ولا تُبشر الأوضاع القائمة باحتمالية تعرض الأول لمحاكمة جنائية أو سياسية، بل مزيد من التوبيخ الدولي المُعلن والمطالبة بدفع مقابل صمتهم سرًّا.