اقتحام ورباط: صراع الاحتلال والفلسطينيين في القدس
فرض الاحتلال الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية إجراءات تعسفية على الفلسطينيين في القدس المحتلة من شأنها مساعدته في تنفيذ مخططاته لتهويد مدينة القدس، وفي القلب منها المسجد الأقصى.
تعتمد استراتيجية الاحتلال في ذلك على ركنين أساسيين. الركن الأول هو زيادة الوجود اليهودي في المقدسات الإسلامية. وقد شهدت المؤسسة الدينية اليهودية في إسرائيل تدرجًا في موقفها من المسجد الأقصى، ففي البداية كانت فتاوى الحاخمات تحرّم الصلاة في أماكن «مدّنسة» بغير اليهود، لكن حاخام جيش الاحتلال، شلومو جورين، رأى أن اليهود يمكنهم زيارة الحرم القدسي والصلاة فيه، وكتب إلى رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين في عام 1994 يطالب بالسماح لليهود بالصلاة في الحرم القدسي كافة، وليس حائط المبكى فقط.
أعقبت فتوى جورين دعوات وضغوطات صهيونية من جانب العديد من الجماعات المتطرفة مثل «كاخ» (الحزب اليهودي المتطرف الذي أسسه الحاخام مائير كاهانا عام 1971) و«معهد الهيكل» (مؤسسة يهودية تهدف إلى إقامة الهيكل اليهودي الثالث محل المسجد الأقصى)، بالسماح بالصلاة لليهود في المقدسات الإسلامية، وقد تتوّجت تلك الدعوات باقتحام رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، وزعيم حزب الليكود المتطرف، آرئيل شارون، للحرم القدسي في سبتمبر/أيلول عام 2000، وهو الاقتحام الذي مثل الشرارة التي اندلعت على إثرها الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
بعد ذلك، سُمح لليهود المتدينين بزيارة الحرم القدسي وأداء الطقوس الاستفزازية فيه، حيث كان يسمح لثلاثة فقط بدخول الأقصى كل مرة، ثم زادت الأعداد وتطورت حتى وصلت إلى العشرات. ثم لاحقًا أقدم الاحتلال على تقسيم الحرم القدسي زمانيًا بين المحتلين والفلسطينيين، ليكون أمرًا واقعًا أن يقتحم المستوطنون اليهود الأقصى بشكل شبه يومي، مع مخططات أخرى لتقسيم المقدسات مكانيًا.
الركيزة الثانية للاستراتيجية الإسرائيلية كانت التضييق على الوجود الفلسطيني في الحرم القدسي. أولى تلك الإجراءات كانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عندما أقر الاحتلال قانونًا يمنع الأذان بالمكبرات الصوتية، وقيّد رفع الأذان في المساجد داخل القدس المحتلة، وبدأ تنفيذ القرار من خلال اقتحام المساجد لمنع رفع الآذان. وقد طالت تلك القيود 600 مسجدًا، هذا إضافة لإجراءات من شأنها تقييد حرية العبادة ومنع الوصول إلى المسجد الأقصى من خلال نصب الحواجز الأمنية وإغلاق أبواب المسجد الأقصى. كما شملت الإجراءات أيضًا تقييد أعمار المصلين في المسجد لمنع وصول الشباب إلى المسجد وتفريغه من المرابطين المستعدين للدفاع عنه.
كان آخر تلك المحاولات في رمضان الماضي عندما أغلق الاحتلال باب العامود، أحد أبواب البلدة القديمة في القدس التي يقع فيها المسجد الأقصى، حيث اندلعت على إثر ذلك هبة مقدسية سرعان ما تحولت إلى احتجاجات عارمة في كافة الأراضي الفلسطينية وصولًا إلى نشوب معركة «سيف القدس» بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال.
تردد أردني
في 10 مارس/آذار الماضي، زار وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي، يائير لبيد، الأردن لبحث الأوضاع في القدس مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني. أصدرت خارجية الاحتلال بيانًا أكدت فيه أن الهدف من الزيارة هو الاحتواء المسبق للتوترات في القدس مع الإشارة إلى ارتفاع حدة التوترات مع اقتراب شهر رمضان المبارك.
تبع ذلك لقاء آخر في 29 مارس/آذار، بين وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس لقاء مع العاهل الأردني، لبحث التهدئة في القدس خلال شهر رمضان، وزعم وجود نوايا لدى الاحتلال لتخفيف الإجراءات في الأراضي المحتلة لاحتواء التصعيد، شارحًا للجانب الأردني الإجراءات التي تنوي حكومة الاحتلال اتخاذها من خلال تخفيف جزئي للقيود المفروضة على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.
لم يكشف بيان الاحتلال عن الإجراءات التي ينوون اتخاذها بشكل واضح، لكن مصادر ميدانية أكدت لـ«إضاءات» أن الاحتلال سمح بالفعل بعدة فعاليات ثقافية ودينية وأمسيات فنية ضمن الاستعداد للشهر الكريم، وأعلن نيته إضاءة الفوانيس. لكن تلك الإجراءات لم تكن كافية لنزع فتيل الأزمة المنتظرة مع اعتزام المستوطنين اليهود اقتحام المسجد الأقصى في رمضان.
هذا ما أكده اجتماع العاهل الأردني في اليوم التالي مع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، حيث طلب الأول منع الإجراءات المفضية إلى العنف الذي يدفع ثمنه الطرفان، على حد تعبيره، للتمهيد من أجل السلام والهدوء، مع التشديد على ضرورة وقف الإجراءات التي تحول دون وصول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى، وعدم المساس بالوضع التاريخي والقانوني للمدينة المقدّسة.
كان رد رئيس دولة الاحتلال هو ربط وقف التصعيد الإسرائيلي بالسلام والهدوء بناءً على قناعة الاحتلال، داعيًا إلى جعل شهر رمضان المبارك فرصة لأصحاب الأديان الثلاث، في إشارة للمسلمين والمسيحيين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، لممارسة إيمانهم في أمن وثقة،ملوّحًا بنية الاحتلال لفرض احتلال يهودي للمقدسات الإسلامية، وبالتحديد المسجد الأقصى.
أفضت الاجتماعات الإسرائيلية الأردنية إلى قرار وزارة الأوقاف الأردنية بقصر الاعتكاف في المسجد الأقصى على العشر الأواخر من شهر رمضان مع منعه رسميًا في الأيام العشرين الأولى من الشهر، داعية الراغبين في الاعتكاف للجوء إلى المساجد الصغيرة في البلدة القديمة، وهو ما يخدم الشق الأول من رغبات الاحتلال في تقييد الوجود الفلسطيني في الحرم القدسي، مما يفتح الباب لتنفيذ إجراءات الاحتلال الديني للأقصى.
التصعيد
لم ينتظر الاحتلال كثيرًا لبدء إجراءاته التصعيدية الأولى، ففي ثاني أيام شهر رمضان المبارك، الموافق 3 أبريل/نيسان 2022، اقتحم وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي يائير لابيد ساحة باب العامود في القدس الشرقية، تحت حراسة أمنية مشددة من الشرطة الصهيونية، ونفذ جولة استفزازية في المنطقة بزعم تقييم الوضع الأمني والاستعداد للتوترات المحتملة بين الاحتلال والفلسطينيين، وقال خلال الجولة: «لدينا شرطة يمكن الوثوق بها لكي تمر تلك الفترة المعقّدة» معربًا عن فخره بحراستهم للصهاينة في الأيام التي اعتبرها «عصيبة» عليهم.
لا تحاول الجماعات الصهيونية المتطرفة، عادة اقتحام المسجد الأقصى المبارك في المناسبات الدينية اليهودية فقط، بل تنشط أيضًا خلال الأعياد والمناسبات الدينية الإسلامية مثل يوم عرفة وشهر رمضان، لإفساد الاحتفالات الفلسطينية وما تعبر عنه تلك المناسبات بالضرورة من هوية إسلامية للمقدسات.
لذلك، أعلنت جماعة «العودة إلى الجبل» اليهودية الصهيونية، وهي جماعة تدعو لبناء الهيكل الثالث في المسجد الأقصى، استعدادها لتنفيذ عملية ما يسمى «ذبح قرابين عيد الفصح» في الحرم القدسي ونثر الدماء عند قبة السلسلة في 15 أبريل/نيسان الموافقة للجمعة الثانية من رمضان، وهو ما يعتبر إحياء لطقس مرتبط بالهيكل اليهودي القديم، وكان قد اندثر وفقًا للرواية اليهودية باندثار الهيكل.
«المقاومة» في المشهد
بالتزامن مع كل ذلك، كان وفد مصري يستعد للانتقال إلى الأراضي المحتلة للاجتماع بنظرائه الإسرائيليين للحفاظ على التهدئة. المصريون لديهم رغبة حقيقية في التهدئة، لكن المقاومة أبلغت الوفد المصري الذي زار غزة أولًا بأنها لن تقف في موقع المشاهد أمام الإجراءات الإسرائيلية في القدس والأراضي المحتلة، مع تلمّسهم دلائل تؤكد أن الاحتلال لا يرغب في التصعيد نظرًا لعدم استعداده الداخلي.
هذه الرغبة لدى المقاومة في استمرار التهدئة، لا يعني أنها ستتجنب الحرب في حال خرجت الأمور عن السيطرة في المسجد الأقصى، وهو ما يعرفه الاحتلال جيدًا، وأن تنفيذ مثل هذا المخطط في «الذبح» يعني رشقة صواريخ من غزة تبدأ حربًا جديدة.
المقاومة الفلسطينية واجهت تلك الدعوات بالتلويح بالحرب للرد على الطقوس الصهيونية الاستفزازية، معتبرة أن الاحتلال يتجاوز الخطط الحمر، ودعت للنفير العام فيما أسمته «فجر حماة الأقصى»، الجمعة الماضي، للوقوف لمخططات تدنيس المقدسات، رابطةً الهدوء بين غزة والاحتلال بالهدوء في الأراضي المحتلة.
مكتب رئيس وزراء الاحتلال على الفور أصدر مساء الأربعاء الماضي، بيان ينفي فيه وجود مخطط لـ«ذبح القرابين في المسجد الأقصى»، وبعدها بيوم واحد وقبل جمعة رمضان الثانية المزامنة لعيد الفصح اليهودي، اعتقلت شرطة الاحتلال 4 محرّضين على تنفيذ العملية، كما أكدت الشرطة إبعاد مسؤول الدعوات الصهيونية الرئيسي عن القدس حتى منتصف مايو/آيار.
ذكّر هذا البيان الاحتلال بمعركة «سيف القدس» رمضان الماضي التي خلفت 200 شهيد فلسطيني غالبيتهم من المدنيين و13 قتيلًا صهيونيًا، وهي المعركة التي أعلن طرفاها سواء جيش الاحتلال أو فصائل المقاومة الفلسطينية الانتصار فيها، فمن جهة شهدت تطورًا نوعيًا لضربات المقاومة التي نجحت في الانتصار على القبة الحديدية أكثر من مرة وأصابت عمق تل أبيب ومستوطنات صهيونية أخرى، بينما رد الاحتلال بضربات قاسية وعنيفة ضد البنية التحتية بقطاع غزة مما خلّف دمارًا هائلًا، مما جعل التهدئة حلًا ضروريًا لوقف الحرب باهظة التكاليف.
المواجهة
بحلول اليوم الموعود، نفّذت قوات الاحتلال بدءًا من منتصف الليل إجراءات تقييدية لمنع وصول الفلسطينيين للأقصى، من بينها تحويل البلدة القديمة إلى ثكنة عسكرية، مع إصدار قرار منع وصول من هم دون الأربعين للحرم القدسي، وشهد تنفيذ الإجراءات اعتقالات واسعة واعتداءات ومضايقات للنساء.
في المقابل، عمل المقدسيون على الاحتشاد في الأقصى والرباط فيه لمنع الاقتحام اليهودي المتوقع، وبالفعل أدى 60 ألف فلسطيني صلاة الجمعة في الأقصى بحسب دائرة الأوقاف بالقدس، ما عنى استحالة تنفيذ طقس الذبح في الأقصى على أرض الواقع.
رد جنود الاحتلال الإسرائيلي باقتحام المسجد الأقصى المبارك، واعتدوا على المصلين، وحاولوا إخراجهم من الحرم القدسي للسماح للجماعات المتطرفة بالدخول إلى المسجد الأقصى وأداء طقوسهم. بدأت العمليات الأمنية الإسرائيلية بحصار الحرم، مع اعتلاء عدد من القناصة أسطح المباني، مع استخدام كثيف لقنابل الغاز المسيّل للدموع، كما صوب الاحتلال الرصاص المطاطي إلى نوافذ المسجد مما أدى إلى تدمير عدد منها، وأظهرت المقاطع اعتداء على المصلين بمن فيهم النساء عند قبة الصخرة، واعتقل عددًا من المرابطين في المنطقة، إضافة إلى منع الطواقم الطبية من أداء عملها، لتبدأ مواجهات متجددة.
وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمات حقوقية إصابة 150 فلسطينيًا خلال الهجمات الإسرائيلية، واعتقال 400 مرابط في القدس من بينهم صحافيون لا تزال غالبيتهم تحت يد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حتى الآن.
«عمليات القمع الصهيونية اتسمت بالعدوانية الشديدة ومحاولة استخدام أعلى درجات العنف لإصابة المصلين بأقصى درجة ممكنة»، أحد مصادرنا قال ذلك، ويضيف: «العدوان الصهيوني كان جنونيًا، ومتعاليًا وحاقدًا بأقصى درجاته»، مرجعًا سبب ذلك إلى رغبة لدى سلطاته في معاقبة المصلين المحتشدين بالمسجد، ويؤكد: «الاحتلال ينازعنا السيطرة الدينية على القدس بخطوة جديدة كل رمضان، وهو ما ندفع ثمنه».
يشدد مصدر آخر على أن فشل الجماعات المتطرفة الصهيونية في تنفيذ طقس ذبح القرابين يوم عيد الفصح لا يعني انتهاء محاولات تنفيذ السيطرة الدينية على المدينة ومقدساتها، محذرًا من خطوات تصعيدية أخرى قد تفجّر الأوضاع في المدينة خلال الأيام المتبقية من شهر رمضان.