مفهوم الشعر: عن نماذج هدمت اللاهوت الشعري
يُعد الشعر من أكثر الأجناس الأدبية تأثرًا بالتحولات المذهبية في الفنون، بل يُعتبر الوعاء الأول الذي يحتوي هذه التغيرات. وهذا لطبيعة الشعر الذاتية الوجدانية، فنجد أنه أنسب الفنون احتواءً للأفكار والمناهج المختلفة.
واجه الشعر في تاريخه في مختلف الآداب العالمية العديد من التغيرات في معانيه والبناء الداخلي وموسيقاه، وكانت البداية مع الثورة الرومانسية على الكلاسيكية، ثم ظهرت العديد من المدارس التي تخالف سابقتها في المفاهيم، مثل: الرمزية، السيريالية، الواقعية، الوجودية.. وتبنت كل مدرسة رؤية مغايرة للأخرى واختلفت معها في المعنى والبناء.
أزمة الشعر العربي
على مستوى الشعر العربي فنحن نمتلك تراثًا مدهشًا ما زالت آثاره بيننا لليوم، بيد أن أزمتنا الشعرية هي من تبعات أزمة العقل العربي عمومًا: التمسك بالموروث وما وجدنا عليه آباءنا، حتى خرجنا بالشعر من الصنعة للتصنع.
ظهرت آثار أولى التصنع اللغوي في العصر العباسي مما أدى إلى انحدار الشعر في بعض فترات هذا العصر، ثم استمر الأسلوب الشعري يعتمد في المقام الأول على الأسلوب اللفظي فقط دون مراعاة المعنى، وقد ظهر القليل فقط من الشعراء من جعلوا للمعنى قيمة أكبر من اللفظ كـ«أبي العلاء المعري»، و«المتنبي» على سبيل المثال.
وقد ظل الشعر إلى بداية القرن العشرين على نفس النمط الكلاسيكي المتوارث، وقد كانت أولى المحاولات التغييرية على يد شعراء المهجر ومدرسة الديوان ومدرسة أبولو، فقد حاولو التجديد في المعاني في تأثرهم بالمدرسة الرومانسية مثل «جبران خليل جبران»، وبالرمزية والوجودية كما في أشعار «إيليا أبو ماضي»، كما كان تغييرهم في البنية الداخلية للقصيدة.
ثم ظهرت حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، ومن روادها «بدر شاكر السياب» و«نازك الملائكة» و«صلاح عبد الصبور» و«أحمد عبد المعطي حجازي»، فلقد جعلوا للقصيدة رونقًا آخر لتتناسب مع ذواتهم وعصرهم، كما كان هو الحال مع شعراء الجاهلية الذين عبروا عن ذاتهم وعصرهم.
اللاهوت الشعري
عِلم العَرُوض هو اللاهوت بالنسبة للشعر، فقد حصر «الخليل بن أحمد الفراهيدي» التجربة الشعرية وضيَّق الخناق على التعبير عن الوجدان بوضعه لهذا العلم، فما فعله الخليل هو مثل ما فعله الفقهاء الأوائل، فقد أصّلوا لما يجب السير عليه وما لا يجب السير عليه، وما ساعد على وصول هذه العلوم إلينا والسير على منهجها إلى اليوم هو التبعية وعدم الإبداع والخوف من الخروج على القديم، وهذه هي أزمة العقل العربي في جميع المجالات الفكرية.
لنعود إلى الخلف وننظر إلى الشاعر الجاهلي، على ما كان يعتمد عند كتابته الشعر؟ ألم ينظم الجاهليون على السليقة؟ ألم يحمل شعرهم سمات بيئتهم وعصرهم؟
لم يحتج الجاهلي لعلم العروض أو شيء ثابت لينظم عليه، بل كان يكتب الشعر للتعبير عن نفسه، والزحافات والعلل لم تكن عنده سوى خروج غير مقصود ليناسب ما يريد كتابته، فهو لم يكن مهتمًا سوى بالتعبير عن الذات، ثم نحن أخذنا عفويتهم وتلقائيتهم في الكتابة وجعلنا منها تابوهًا مقدسًا لا يمكن الكتابة خارجها، حتى أخطاءهم في الخروج على التفعيلة قسمناها زحافًا خبنًا وطيًا وإضمارًا، وعللًا بالنقص والزيادة.. هل يوجد خضوع وتبعية أكثر من هذا؟!
لم يكن الشعر الجاهلي كما وصلنا هو الأسبق في الشعر، فقول «عنترة»: «هل غادر الشعراء من متردم» يخبرنا بوجود سابقين لهم، فهناك ما لم يصلنا من الشعر القديم، وقد يكون على خلاف ما نظم الجاهليون من بحور شعرية.
في مفهوم الشعر
الشعر هو ذلك الفعل الجمالي المتجاوز للغة والواقع للتعبير عن دواخل الإنسان أو معالجة أي موضوع بنظرية ذاتية مختلفة، وموسيقى الشعر ليست هي الأوزان المعروفة والقوافي المتتابعة بقدر ما هي الوحدة الداخلية والترابط بين المعنى والأسلوب والأخيلة والصور البديعة، فموسيقى الشعر ليست هي ما ورثناه من بحور الشعر القديم، فشعر «محمد الماغوط» بتحرره من الوزن لا يقل جمالًا عن غيره من الشعر الموزون.
أما عن حصر الشعر في الأسلوب واللغة فهذا من آثار العصور الزائلة، فما اللغة إلى وعاء يستخدمه الشاعر للتعبير عما يدور فيما وراء الفكر والوعي والوجدان، والأساليب في التعبير عديدة، فقط الشاعر هو من يقرر أي القوالب هي الأنسب للتعبير عنه، لا أن يُفرض عليه القالب! فلغة الشعر هي الخيال والقدرة على الارتفاع بالأرضي وإنزاله منزلة السماوي، فالشعر هو التحليق خارج اللغة، يقول «محمود درويش» في ديوانه «أثر الفراشة»:
لنستعرض ثلاثة أمثلة سريعة للتوضيح: الأول عن إشكالية القصيدة النثرية واعتبار الكثيرين لها من جنس النثر. يرى البعض أن الوزن هو سمة الشعر، وأن القصيدة النثرية لا تنتمي للشعر، وهذا من تبعات ما أوضحته سابقًا من جمود في المفاهيم، فالقصيدة النثرية هي نوع من تطور القصيدة، حيث الاعتماد فيها في المقام الأول على المضمون، لكنها مع هذا لا تخلو من موسيقى، بل إنها كثيرًا ما يكون إيقاعها أجمل من القصيدة الموزونة، نقتبس جزءًا من قصيدة لـ«الماغوط» للتمثيل:
ولو يسعني المقام لاقتبست من دواوينه الثلاثة ما يكفي ويفيض، بالرغم من محدودية إنتاجه فمشروعه الشعري كثيف وترك علامة مميزة في تاريخ الشعر الحديث، فقد أخذ بيده نوعًا مختلفًا من الشعر رُفض كثيرًا في بدايته وسمى به لمنزلة عالية.
الماغوط تجربة شعرية فريدة ومميزة، وقد برز العديد من الأسماء المميزة في كتابة قصيدة النثر، مثل: «عماد أبو صالح»، كما كتب «نزار» أيضًا في هذا النوع.
البعض يتمادون إلى قول أن الشعر الحر ليس شعرًا، بيد أن النص الشعري يدل على نفسه حتى وإن كتب متجاورًا بشكل نثري لا في شكل أبيات، كما يفعل «عبد الوهاب البياتي» في ديوانه «قمر شيراز» حيث يمزج بين الكتابة بالشكل الشعري والكتابة بالشكل النثري، لكن القصائد تتفق في حساسية اللغة الشعرية وجمالها وإثبات أن الشعر هو الشعر مهما كان شكله، نجده يقول في قصيدته «قمر شيراز»:
إلى نهاية هذا المقطع. في هذا الديوان يقوم البياتي بهذه الحيلة التي تثبت رهافة اللغة الشعرية في أي شكل، وفي المقطع التالي لهذا من نفس القصيدة يقول:
وهكذا طوال القصيدة نجد تنوعًا في الشكل الظاهري، لكن اتحاد في الشكل الداخلي والحس الشعري الرمزي، سنمر دون تحليل القصيدة وجمالياتها، فالديوان لا يمكن تحليله إلا في دراسة منفصلة. ما أردت إيضاحه هو أن الشعر يظل شعرًا في أي شكل.
المثال الثالث يتناول إشكالية اللغة، فما زال الكثيرون يرون أن الشعر العامي انحطاط للشعر.
اللغة الشعرية ليست محدودة في شكل، فالشعر العامي احتوى تجارب شعرية ذات بصمة لا تُمحى في تاريخ الشعر، منها «رباعيات جاهين»، وأعمال «فؤاد حداد» و«الأبنودي» و«مجدي نجيب» وغيرهم.
نجد أن «نجيب سرور» يعالج هذه المشكلة بطريقة عبقرية في مسرحيته الشعرية «ياسين وبهية» التي كان السرد فيها بالفصحى والحوارات بين الفلاحين بالعامية.
قال لي صديقي من قبل إن الشاعر العامي يكتب العامية لأنه عاجز عن كتابة الفصحى، أخبرته أن هناك الكثير من شعراء الفصحى يكتبون العامية، وهنا يبرهن نجيب سرور على هذه الفكرة في ظل سرده للملحمة، فيتساءل على لسان أحد الفلاحين الساخطين عن عدم وجود الكهرباء في القرية:
ذكرني نهج نجيب سرور هنا بما فعله بـ«إليوت» في رائعته «الأرض الخراب»، حين مزج بين أنواع الشعر حتى العامية التي لم تكن تستخدم في وقته، ليخبر الجميع بأن ينظروا للشعر من جميع جوانبه ويتركوا التصنيفات جانبًا، فاللغة وعاء يتبدل، المهم هو ما تحتويه التجربة الشعرية من صخب أفكار الشاعر ودواخله.
إذن، فالقوالب الشعرية لا يجب أن تتحول إلى قيد يعيق الشاعر، بل إن انطلاقات الشاعر الحرة هي ما تخلق القوالب الشعرية، كما هو الحال في العصر الجاهلي. وأختتم هذا المقال بقول الشاعر نجيب سرور الذي يلخص الكثير مما تناولته بالأعلى: