مفهوم الذكاء بين البيئة والجينات
في هذا القرن؛ هل يمكنك أن تتخيل أن آثار علم الوراثة ستصبح أكثر أم أقل أهمية؟
ربما سيُخمِّن معظم الناس أنها أقل أهمية لسببين وهما:
- يبدو من الواضح أن ما يُحرِّكنا هو رياح البيئة التي نشأنا فيها مثل أثر الأبوين، والأصدقاء، وعلاقتنا الاجتماعية، وطبيعة وظائفنا وغيرها من المؤثرات. بجانب ما نتعرض له من حوادث وأمراض.
- ربما يعتقد آخرون أن الآثار الوراثية لا يمكن أن تتغير من لحظة تشكل الجنين، بمعنى أننا نرث حمضنا النووي من الأبوين بالمناصفة منذ لحظة اللقاء الأول بين البويضة والحيوان المنوي.
ومن هذا المنظور أتت أحد النتائج الكبرى لأبحاث الوراثة السلوكية، وملخصها أن الآثار الوراثية تصبح أكثر أهمية عند التقدم في السن. فما من سمةٍ نفسية تظهر أثرًا وراثيًّا أقل مع التقدم في العمر. وأن المجال الذي يزداد فيه أثر هذا التوريث بصورة صارخة هو القدرة المعرفية للفرد – وهناك عدة أنواع من القدرات المعرفية فمنها اللفظية والمكانية – فمثلًا الأشخاص الذين يملكون القدرة على التذكر يملكون القدرة أيضًا على جميع الصور الأخرى للذكاء. ويعتقد البعض من الناس في كثير من الأحيان أنهم جيدون في الأدب أو جيدون في الفيزياء مثلًا؛ لكن في واقع الأمر إنهم جيدون في كليهما مع وجود استثناءات.
لذلك يُشار إلى الذكاء دائمًا بأنه قدرة معرفية عامة، وتشمل اختبارات الذكاء نحو عشرة اختبارات لفظية وغير لفظية، يمكن اختصارها جميعًا في مصطلح Intelligence Quotentent (IQ). ويمكننا تعريف مفهوم الذكاء على أنه القدرة على التخطيط وحل المشكلات، والتفكير المُجرد، والقدرة على فهم الأفكار المُعقدة، والقدرة على التعلم بسرعة، والتعلم من التجربة. فالذكاء بمثابة المرآة التي تعكس الطريقة التي يعمل بها الدماغ، ليس كمكونات فسيولوجية، ولكن كعمليات تعمل بتناغم بعضها مع بعض لحل المشكلات. والذكاء مهم اجتماعيًّا لكونه أحد أفضل المُتنبئات بالتحصيل الدراسي والمكانة الوظيفية أيضًا.
وخلال الخمسة العقود الماضية، كانت الأبحاث الوراثية حول الذكاء تعاني من عاصفة من النقص، وكان النقاش حولها مدفوعًا بمخاوف في غير محلها، وكانت هذه المخاوف متعلقة بشأن الحتمية البيولوجية وتحسين النسل والعنصرية، وغيرها من القضايا التي واجهت العلم في العقود الماضية.
لكن بتقدم علم الوراثة وتقنياته العلمية الحديثة وظهور طرق جديدة لدراسة الجينات، مثل تقنيات المعلوماتية الحيوية، تراكمت لدينا الأدلة بصورة ثابتة ومستمرة، وأظهرت أن الاختلافات الوراثية بين الناس مسئولة عن نحو نصف الاختلافات بينهم من اختبارات الذكاء.
وفي العام 2010 ظهرت مجموعة كبيرة من الدراسات أجريت على التوائم تحديدًا، 11 ألف زوج من التوائم من أربعة بلدان مختلفة. وقد وجدت هذه الدراسات أن توريث الذكاء كان يزداد بصورة واضحة وكبيرة من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب من 40% إلى 55% إلى 65%.
وفي العام 2013 أجريت تحليلات على الدراسات التي اهتمت بدراسة الذكاء في التوائم، وأكدت نتائج هذه التحليلات أن الذكاء يخضع أيضًا لعمليات الوراثة التطورية، وركزت هذه الدراسات على دراسة التطور في مرحلة البلوغ المبكر، لأن هذا هو عمر معظم العينات المستخدمة في إجراء الأبحاث الوراثية السلوكية.
والدراسات القليلة اللاحقة التي نملكها الآن أشارت إلى أن ازدياد التوريث يستمر طوال فترة البلوغ، ليصل نحو 80% في سن الخامسة والستين. ودرجة 50% هي متوسط توريث الذكاء في الحياة بأكملها في كل الدراسات، وتتميز الزيادة الكبيرة في التوريث في 20% من مرحلة الرضاع إلى 40% من مرحلة الطفولة ثم إلى 60% من مرحلة البلوغ، عنها بالنسبة للسمات الأخرى التي لا تُظهر تغيرًا تطوريًّا كبيرًا في التوريث، خصوصًا في مجالي الشخصية والإنجاز الدراسي.
بهذا السياق ربما يعتقد البعض أن الذكاء والإنجاز الدراسي لدى الأفراد متلازمان، وربما يتوقع المرء أن يُظهر الإنجاز الوراثي نمطًا مشابهًا من ازدياد ارتفاع درجة التوريث؛ لكن في الواقع درجة التوريث والإنجاز الدراسي هي نحو 60% طوال سنوات الدراسة التي يتعلمها الفرد، وهي في الغالب أعلى من درجة توريث الذكاء، التي تتراوح حول 40%، وهنا ربما يتساءل البعض كيف يحدث هذا؟
أحد التفسيرات الممكنة لهذه العملية هي أن التعليم الذي يتلقاه الفرد في مرحلته العمرية المبكرة من المهارات الأساسية مثل القراءة والحساب يمحو إلى حد بعيد جزءًا كبيرًا من أثر البيئة على نفسه، وهو ما يترك الوراثة بوصفها السبب الرئيسي للاختلافات بين الأطفال في هذه المهارات؛ وتزداد درجة توريث الذكاء وتأصيله خلال سنوات المدرسة، بحيث إنها تلحق بدرجة توريث الإنجاز الدراسي في المرحلة الثانوية.
علاوة على ذلك وحالما يتقن الأطفال مهارات القراءة والحساب يصبح بإمكانهم استخدام هذه المهارات كأدوات في التعلم بصورة عامة، وهو ما يساهم في التلازم بين النمط الوراثي والبيئة، وهو المسئول عن زيادة درجة توريث الذكاء. وقد يشكل هذا تفسيرًا عامًّا للزيادة الكبيرة في توريث الذكاء في أثناء التطور.
وعلى الرغم من أن سلسلة الـ DNA الموروثة لدينا لا تتغير بعد لحظة تشكل الجنين، فإن آثار الجينات يمكن أن تتغير بمرور الوقت؛ على سبيل المثال فإن صلع النمط الذكوري موروث بصورة كبيرة، ولكن آثار هذه الجينات لا تظهر إلا أن يحدث التغير الهرموني في منتصف العمر. وهناك مثال آخر، وهو الفصام الذي يكون العمر الوسطي للإصابة به هو البلوغ المبكر، ومن الصعب العثور على أي اختلافات في الطفولة بالنسبة للأفراد الذين يُشخصون لاحقًا بأنهم يعانون انفصامًا، ومن المُرجَّح أن الجينات التي تُساهم في التفكير غير المنظم، والهلوسات وجنون الارتياب التي تُميز الفصام لا تُحدِث آثارها إلا عندما يكون الدماغ قد تطور إلى مستوى رفيع أثناء مرحلة البلوغ المبكر.
وهناك تفسيرات محتملة لزيادة توريث الذكاء، تزعم بأن هناك عددًا أكبر من الجينات يتدخل في التأثير في الذكاء؛ ربما لأن الدماغ يصبح معقدًا بصورة متزايدة، ولكن يبدو أن هذه الفرضية المعقولة غير محتملة؛ لأن الأبحاث الوراثية العابرة للأعمار تُظهِر أن الجينات نفسها تؤثر في الذكاء من الطفولة حتى البلوغ، بمعنًى آخر، إن الجينات مسئولة بدرجة كبيرة عن الاستقرار من عمر إلى عمر، في حين أن البيئة مسئولة عن التغيير من عمر إلى عمر، وهو ما يترك السؤال مفتوحًا أمامنا بشأن إشكالية زيادة التوريث الذكاء.
ولكن هناك سؤالاً آخر؛ إذا كانت الآثار الوراثية مُستقرة بصورة كبيرة من عمر إلى عمر، فكيف يمكن لتوريث الذكاء أن يزداد بهذه الدرجة الكبيرة في أثناء التطور؟
إن الاحتمال الأكثر قابلية للتصديق هو أن التداخلات الطفيفة من الوراثة في التطور المبكر تصبح أكبر بمرور الوقت، أي إن العوامل الوراثية نفسها تُحدِث أثرًا كبيرًا في عملية تُسمى تضخم الأثر الوراثي genetic amplification.
يمكن للآثار الوراثية أن تتضخم على نحو متزايد، بحيث تدفعنا نحو اختيار البيئات التي تتلازم مع ميولنا الوراثية، ويمكننا تعديلها وتحسينها أيضًا، فمن الممكن للأفراد ذوي الميول الوراثي نحو درجة عالية من الذكاء، أن يقرأوا كتبًا ويختاروا أصدقاءً وهويات تُحفِّز تطورهم المعرفي.
وفي نهاية الأمر يمكننا القول إننا نكبر لنصبح جيناتنا، فكلما كبرنا أصبحنا من نكون وراثيًّا. ويعني هذا أننا مُجرد مرآة تنعكس فيها صورة جيناتنا التي ورثناها من آبائنا وصقلنا بها التطور.