مفهوم الحكم: بين التراث الفقهي والخيال السياسي الحديث
بين مفهوم «الحكم» في الاصطلاح القرآني والتراث الفقهي والتشريعي الإسلامي، وتوظيفه الفكري وحمولته الدلالية السائدة في القرن الماضي وحتى اليوم، تكمن مفارقة دلالية واصطلاحية في استخدام ذلك اللفظ بين الماضي والحاضر لا ينبغي تجاوزها؛ حيث يحل الفض بين المفهوم التراثي ودلالته الراهنة بعض الإشكالات في الجدل السياسي الإسلامي والعلماني المحتدم منذ سنوات طويلة في العالم العربي والإسلامي، ويؤطر بحد ذاته لمفاهيم جديدة في الفكر والممارسة السياسية في الفضاء الإسلامي العام.
مفاهيم قد تعيد جانباً من الطابع الأخلاقي المنتزع عن المجال السياسي من جهة، وتكسب بعض المرونة والحيوية للفكر السياسي في العالم الإسلامي لدى مختلف الفرقاء من جهة أخرى، المسألة التي أخفق فيها كل من الحداثيين الإسلاميين المعاصرين وفاقموا من تأزمها في أكثر الأحيان، خلال تناولاتهم الحديثة والمعاصرة للتراث الإسلامي.
دلالة الحكم لغويًا في القرآن الكريم
وردت لفظة الحكم ومشتقاتها في القرآن الكريم في سياقات عديدة وبدلالات متعددة، بعضها له علاقة بموضوعنا الإشكالي عن السياسة والتشريع، وبعضها الآخر، يحمل ما قد يشير إلى المعنى الأخروي أي بمعنى الفصل بين الناس في يوم القيامة، أو معنى حق تقرير القدر والقضاء في الحياة الدنيا مثل:
أما فيما يتصل بموضوع التشريع، أي دلالة الحكم بمعنى القانون والقضاء والفصل بين المنازعات ، فقد ورد ذلك المعنى في الآيات التالية:
بوجه عام يدور معني الحكم في القرآن الكريم، في هذه السياقات، ومن المتعذر ربطه بمفهوم الحكم بالمعنى السياسي، وإن شئنا استخرج اللفظ الذي ترتبط دلالته الحكم السياسي بمفهومه المعاصر في القرآن، لن نجد مصطلحًا أقرب من مصطلح «الأمر»، الذي تتسق عمومية دلالته المفرطة مع فكرة الشأن العام بشموليتها، ونجد ذلك في استخدام القرآن لمصطلح «أولي الأمر» وهم القادة والمسئولون السياسيون ومن نحوهم، وفي الآية القرآنية أيضًا «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ﴿١٥٩ آل عمران﴾، هذا علمًا باتساع دلالة «الأمر» في القرآن لمعان أخرى عديدة بطبيعة الحال، كما هو شأن لفظ «الحكم» في القرآن أيضًا.
مفهوم الحكم في الفكر السياسي الإسلامي الحديث
يمارس معظم منظري الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، بتأثير كبير من شخصيات إسلامية مؤثرة على المستوى الفكري مثل سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، مزاوجة تقليدية بين مفهوم الحاكمية التراثي والفقهي بمعنى أن الله تعالى هو الشارع، وجميع أفعال المكلفين خاضعة لأحكامه في الحل والحرمة والكراهة والندب، وبين مفهوم السيادة في الفكر السياسي الحديث.
مكمن الإشكال الرئيسي هنا في هذه المزاوجة هو أنها تتم بين مجالين مختلفين تمامًا، ألا وهما المدونة الفقهية التراثية والفكر السياسي الغربي الحديث مصدر فكرة السيادة بمفهومها القانوني والسياسي في الوقت الحاضر. أثمرت هذه المزاوجة والاستعارة من الفكر الغربي مباشرة دون مراعاة اختلاف السياق، عن تشوهات فكرية عميقة في الفكر الإسلامي السياسي المعاصر، وعن أزمة مزمنة في التعامل مع فكرة الديمقراطية، وعدم تعميق مفاهيم موازية لها في المدونة التراثية مثل فكرة الشورى، التي لم تتأصل لدى مذهب أهل السنة الجماعة كنظرية حكم، وظلت قضية محل خلاف على المستوى الفقهي حتى اليوم بين كونها ملزمة أم معلمة.
في المقابل لو شئنا أن نبحث عن مفهوم دقيق عند المقارنة الموضوعية بين الفقه الإسلامي والفكر السياسي الغربي الحديث، للبحث عن مصدر السيادة سنجد أن مفهوم الخلافة كمفهوم مهيمن في القرآن الكريم، يعني أن فكرة السيادة بحكم دلالة ومعنى الاستخلاف في الأرض، وبحكم حرية الإيمان «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» في يد آحاد الناس المنتظمين بحكم الاجتماع الإنساني في جماعات كالقبائل والقرى صعودًا إلى المكونات السياسية الأعلى.
سنجد في هذا الإطار أن السيادة هي مسئولية معلقة في رقبة المجتمع والأمة كوعاء للتكاليف الجماعية وفروض الكفايات، وقضية مرتبطة بحرية الاختيار، التي لا تخضع في حسابها ومعيارها الأخلاقي لسلطة مؤسسة دنيوية، ولكن لحساب الله، عز وجل، يوم القيامة، يوم يحشر كل الناس بإمامهم في جماعات وأمم أمام الخالق، قبل أن يخضع كل إنسان بمفرده للسؤال والحساب.
الأمة في هذا الإطار هي مصدر السلطات بحكم التكليف الفردي، وبحكم ولادة الناس من بطون أمهاتهم أحرارًا، وبحكم المسئولية الأخلاقية، حيث لا مسئولية دون سلطة؛ ولذلك مفهوم السيادة للأمة هو مفهوم فطري وبديهي في إطار فكرة خلافة الإنسان ككائن حر في الأرض، مسئول أخلاقيًا عن عمل يده، سواء كان هذا الإنسان مسلمًا أم غير ذلك. هذا إذا شئنا أن نبحث عن مفهوم كوني في نظرية الحقوق السياسية ينسحب عمومًا على المسلمين وغير المسلمين.
على صعيد آخر، تمثل بعض المفاهيم كعصمة الأئمة عند الشيعة، والمفاهيم الأخرى الموازية لدى أهل السنة والجماعة كـ«الطاعة الشامية» المطلقة تجاه أولي الأمر وما نحوها، المقابل الموضوعي للنظريات السياسية الثيوقراطية المسيحية كنظرية السيفين البابوية، أو كنظرية الحق الإلهي للأسر الملكية في أوروبا القروسطية.
تقف كل هذه النظريات وما يقابلها في التاريخ الإسلامي، على النقيض ضمنيًا من المعنى المستخلص من الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
ويفهم من هذا الحديث أنه إذا كان هناك ثمة معصوم بعد انقضاء زمن النبوة، فهو إجماع الأمة وحده، وليس لفرد، أو سلالة، أو مؤسسة، أن تدعي في الإسلام حق مكتسب في هذا السياق، يخولها أن تكون مصدرًا للسلطة. ولذلك عند العودة إلى مفهوم الحكم بمعناه ودلالته السياسية المعاصرة في هذا الإطار، نجد هنا أن مفهوم «الحاكمية» في دلالته الفقهية التراثية، كان من الخطأ مرادفته بمفهوم السيادة المستعار من الفكر الغربي الحديث، وإخراجه من سياقه الخاص بالتشريع والقضاء في دلالته القرآنية.
الأمر الذي أنتج صراعاً ولا سيما في العالم العربي، تجاوز الإطار السياسي، وتحول إلى صراع اجتماعي وثقافي لعقود. صراع اختلط فيه البعدان القانوني والسياسي، في حين أن الإسلام يفترض أنه الأرضية التي يقف عليها الجميع، والمصدر الرئيسي للمواد التشريعية في النظم الدستورية المختلفة في معظم دول العالم العربي. هنا كان تفعيل تلك البنود الدستورية يحتاج إلى منهجية تقوم على البحث عن الإجماع والتوافق العام، في إطار إصلاح وإعادة توفيق الأوضاع القانونية ما بعد الاستعمارية، التي شهدت نهاية النظم القضائية المختلطة بين الوطنيين والأجانب.
وليس منهجية تقوم على الصراع والتنافس السياسي، أو تحويل مطلب الشريعة إلى أجندة سياسية للتعبئة والحشد الجماهيري، على نحو يخدم فريقاً محدداً دون الآخرين، من خلال الشعارات السياسية المعروفة في هذا السياق كشعار «الإسلام هو الحل» أو غيره.