جزر القمر: حين تناساها العرب وتذكرها آيات الله
هي إحدى أصغر دول العالم، وثالث أصغر دول أفريقيا من حيث المساحة 1.862 كم2، لكنها بعدد سكانها البالغ نحو 800 ألف تعد من أكبر الدول من حيث الكثافة السكانية. وبالنظر إلى محدودية مواردها رغم موقعها المتميز، وافتقارها للهياكل المؤسسيةالقوية نظرًا للوضع السياسي غير المستقر الذي ساد البلاد بعد الاستقلال وحتى بداية القرن الحالي، فإن أكثر سكانها يعيشون تحت خط الفقر. تتمتع الجزر بموقع جغرافي إستراتيجي، فهي تقع بالقرب من الساحل الشرقي لأفريقيا، في الجهة الشمالية لمضيق موزمبيق بين سواحل موزمبيق وجزيرة مدغشقر.
فرنسا وجزر القمر: نصف استقلال
الجزر هي عبارة عن أرخبيل مكون من ثلاث جزر هي نجازيجاو – وتقع فيها العاصمة موروني- وموالي وأنزواني، نالت استقلالها من الحكم الكولونيالي الفرنسي في عام 1975، فيما رفضت جزيرة مايوت -وهي الجزيرة الرابعة ضمن الأرخبيل القمري- الانفصال عن فرنسا، وتمسك سكانها في استفتاءات متعاقبة بالارتباط بباريس، التي تمسكت بدورها بالجزيرة الصغيرة، ورفضت المطالبات القمرية والعربية والأممية بالتخلي عنها. وفي عام 2009 وبعد استفتاء مثير للجدل، أعاد بموجبه أغلبية سكان مايوت التأكيد على ارتباطهم بالفرنسيين، قررت باريس اعتبار الجزيرة إدارة فرنسية عبر البحار “overseas department”، وهو ما رفضته الجزر القمرية واعتبرته “إعلان حرب”، وإن بقي الرفض في إطاره الدبلوماسي ولم يؤثر على العلاقات السياسية والتجارية بين البلدين.
نبعت الرغبة الفرنسية أساسًا في الاحتفاظ بالجزيرة من عوامل عدة، إذ شهدت فترة السبعينات اضطرابات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أثار التخوفات حول قدرة قناة السويس على الاستمرار كممر آمن للملاحة الدولية؛ ما ضاعف من أهمية طريق رأس الرجاء الصالح كممر بديل، فأعاد ذلك تسليط الضوء على الأهمية الإستراتيجية للجزيرة التي تقع في مضيق موزمبيق، كما أن المنطقة كانت تشهد ازدهار الحركات الماركسية في البلدان المجاورة كمدغشقر وموزمبيق وتنزانيا فضلًا عن جزر القمر نفسها في خضم الحرب الباردة، وهو ما زاد الإصرار الفرنسي على التمسك بموطئ قدم لها في الجزيرة رغم الانتقادات، فيما كان سكانها ينظرون إلى الحواضر والمدن االفرنسية بعين الإعجاب، ورغبوا في أن يبقوا جزءًا من فرنسا، ولعل ذلك قد انعكس لاحقًا في الفروق الاقتصادية بين مايوت “الغنية ” والجزر القمرية الثلاثة الأخرى، تولد تلك الفروق حركة هجرة إلى مايوت من باقي الجزر، تصفها فرنسا بالهجرة غير الشرعية، فيما يستغرب القمريون – شعبيًّا ورسميًّا – هذا الوصف، ويرون أنه من الغريب أن تحول فواصل اصطناعية بين الجزر التي يرتبط الكثير من أبنائها براوبط قرابة وتاريخ.
جزر القمر والاضطرابات السياسية
منذ الاستقلال وحتى العام 2006، شهدت البلاد نحو عشرين انقلابًا أو محاولة انقلابية، كان بعضها بهندسة جنرال سابق ومرتزق فرنسي شهير يدعى بوب دينار. وكنتيجة للاضطرابات السياسية، وانتشار أجواء عدم الثقة بين الجزر الثلاثة، فضلًا عن الفشل في صياغة هوية قومية تجمع أبناء الجزر الثلاثة تحت راية واحدة، اندلعت احتجاجات في جزيرتي أنزواتي وموالي اللتين أعلنتا استقلالهما عن جزيرة نجازيجاو، حيث اشتكت الجزيرتان من التهميش وطالبتا فرنسا بضمهما أسوة بمايوت، رفع المتظاهرون الأعلام الفرنسية وطالبوا الفرنسيين “بالاستماع إلى صرخات شعوب الجزر” المقهورة، صمّت باريس آذانها عن تلك الصرخات، وبوساطة من منظمة الوحدة الإفريقية، توصلت الجزر الثلاثة إلى دستور جديد في 2001، دستور شبه فيدرالي، يعطي لكل جزيرة حق انتخاب رئيس وبرلمان خاص بها، ويكون للبلاد رئيس وبرلمان اتحادي، على أن يتم تدوير منصب الرئيس بين الجزر الثلاث، كل جزيرة ترشح رئيسًا لدورة مدتها أربع سنوات، وقد تولى الرئيس عبد الله سامبي وهو من جزيرة أنزواني المنصب عام 2006.
بدا للوهلة الأولى أن الدستور الجديد بقضائه على المركزية المطلقة واستئثار إحدى الجزر بالسلطة سيؤدي إلى استقرار محقق، لكنه أثار مشكلات عدة سيّما فيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات بين سلطات الجزر والسلطات الاتحادية. في عام 2007، رفض حاكم جزيرة أنزوان عقيد الشرطة السابق باكار التنازل عن منصبه بعد انتهاء مدة ولايته، ونجحت قواته في صد محاولات الحكومة الاتحادية للسيطرة على الجزيرة، اضطر الرئيس عبد الله سامبي إلى الاستعانة بقوات أفريقية لاستعادة السيطرة على الجزيرة وطرد باكار منها، سميت العملية باسم “الديمقراطية Operation Democracy”، وشاركت فيها قوات من تنزانيا والسودان، فيما دعمتها ليبيا والسنغال وفرنسا والولايات المتحدة، وعارضتها جنوب أفريقيا التي تمتعت بنفوذ تاريخي في جزر القمر. ومن الملاحظ أن مواقف الأطراف المختلفة من تلك العملية تعطي صورة مصغرة عن طبيعة علاقاتها الخارجية أو موقفها من عمليات عسكرية مشابهة، كان لدى كل من تنزانيا والسودان تمردات داخلية مشابهة ورغبتا من خلال المشاركة في تلك الحملة التأصيل لموقف موحد تتدخل فيه القوات الأفريقية إلى جانب الحكومات، فيما كان نظام معمر القذافي يسعى للتوسع وكسب النفوذ في المحيط الأفريقي، بينما كانت لدى جنوب أفريقيا – في مرحلة مانديلا وما بعده – حساسية من التدخلات العسكرية الأجنبية. وعلى العموم، فقد أعادت هذه العملية تسليط الضوء على المناخ السياسي الهش لجزر القمر، والمهدد بالانفجار في أي لحظة.
العلاقات الخارجية: الباب مفتوح للجميع، الإيرانيون يدخلون أولًا
حتى العام 2006، كان لدى الجمهورية الصغيرة عدد قليل من الأصدقاء والأعداء على حد سواء، كما يليق الأمر ببلد متناهي الصغر محدود الموارد. احتفظ المستعمرون السابقون -أي فرنسا- بنفوذ تقليدي في البلاد، فضلًا عن علاقاتها بالجارة تنزانيا واللاعب الإقليمي البارز جنوب أفريقيا.
تغيرت الأمور مع مجيء عبد الله سامبي في أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ البلاد. كان سامبي عالمًا وتاجرًا تلقى تعليمه في السودان والمملكة العربية السعودية وإيران، يطلق على سامبي في جزر القمر “آية الله”؛ ليس فقط بسبب سابق تعليمه في إيران، ولا بسبب لحيته وعمامته التي تكسبه مظهرًا شبيهًا بالقادة الدينيين في إيران، بل كذلك بسبب سياسة الانفتاح التي شهدتها سنوات ولايته تجاه إيران. اتبع سامبي سياسة الباب المفتوح فيما يتعلق بعلاقات بلاده الخارجية، لكن هذا الباب كان مفتوحًا للإيرانيين أكثر من غيرهم. أسست إيران مركزًا طبيًا تابعًا للهلال الأحمر الإيراني، ومركز التبيان الثقافي في العاصمة، ومركزًا تابعًا للسفارة الإيرانية في تنزانيا، لتعليم اللغة الفارسية، ومعهد الحقوق والعلوم الإسلامية التابع لهذا المركز، وهو يمنح شهادة في تخصصات مختلفة. وأسست معهدًا للتعليم المهني لتعليم النجارة والخياطة والكهرباء، وتنظيم دورات تدريبية للحاسوب، كما تم إلحاق 15 متدربًا قمريًّا بالمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، وتم كفالة 256 طالبًا قمريًّا في مدغشقر، بتأمين معيشتهم وسكنهم ومصاريفهم الدراسية وبعض الخدمات الاجتماعية الأخرى، علمًا أنه يوجد في مدغشقر نحو ثلاثة آلاف طالب وطالبة قمريين.
في فبراير/شباط عام 2009، زار الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، جزر القمر ضمن جولة أفريقية -وهي خطوة مهمة إذا علمت أن البلاد لم تستقبل مسؤولًا بهذا المستوى من قبل باستثناء زيارة سابقة لرئيس فرنسي، وتم التوقيع على اتفاقيات في مجال التعليم المهني، والاستثمار وتقديم مساعدات لجزر القمر. وعلى ذلك، تم افتتاح سفارة في طهران، وتبرعت الحكومة الإيرانية بتحمل كامل نفقات السفارة في طهران. وفي 2008، زار رئيس ما تسمى لجنة إمداد الإمام الخميني، حسين أنواري، جزر القمر، أكثر من سبع مرات؛ للوقوف على سير الأعمال والمشاريع الإيرانية في البلاد.
لا يخلو الأمر من اتهام لطهران بمحاولة تشييع البلاد ذات الأغلبية السنية (98% من السكان)، مستغلة ظروف البلاد الاقتصادية وانتشار الأمية والفقر بين المواطنين القمريين. تقول بعض المنظمات إن إيران تستهدف الطلاب القمريين الذين يدرسون في مدغشقر وكينيا، وتعمل على تشييعهم من خلال سفارتيها فيهما. وفي كينيا، يقوم معهد الرسول الأكرم الذي أسسه الإيرانيون باستقطاب طلاب أفارقة، ومنهم طلاب جزر القمر، مستغلة حاجتهم المالية، حتى أن سامبي نفسه واجه اتهامات بالتشيع، أنكرها بالطبع، وإن بقيت الاتهامات بفتح الباب على مصراعيه أمام الإيرانيين قائمة، حتى بعد خروج سامبي من السلطة عقب انتهاء ولايته.
هل تتغير خارطة التحالفات؟
كان الحضور العربي خافتًا في البلاد رغم كونها عضوًا في جامعة الدول العربية منذ عام 1993، غير أن تزايد النفوذ الإيراني أجبر الدول الخليجية على توجيه الأنظار لهذا البلد الصغير. بدأت الاستثمارات الخليجية في الدخول إلى البلاد لموازنة التأثير الإيراني وكسب الكفة لصالحها، ورغم أن ولاية سامبي قد انتهت في 2011، فقد استمر التخوف الخليجي من النشاط الإيراني في جزر القمر، إلا أنه وفي يناير 2016، وعلى إثر الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين إيران والمملكة السعودية بعد إعدام الأخيرة للداعية الشيعي نمر النمر واقتحام السفارة السعودية في طهران، أعلنت جزر القمر تضامنها مع الرياض، وقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الإيرانيين، وشاركت جزر القمر في مناورات رعد الشمال التي جرت في السعودية في مارس من العام نفسه.
بدا الأمر كما لو أن بوصلة التحالفات القمرية قد تغيرت، مرحليًّا على الأقل. لكن العلاقة المميزة التي جمعت جزر القمر بإيران، والتي ربما لا تزال كثير من آثارها باقية إلى اليوم تسلط الضوء على حقيقة واقعة بات يدركها اليوم كل متابع؛ آيات الله يحبون الأفارقة، ويسعون إلى أن أن يحبهم الأفارقة.