عداء المجتمع: اضطراب عقلي — نفسي وأكثر انتشارًا مما نظن

فيما هو أقرب إلى حبكة درامية تلفزيونية،اكتشف «جيمس فالون»، عالم الأعصاب والوراثة الأمريكي، بالصدفة البحتة أنه مريض نفسي ومصاب باضطراب يسمى «اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع»، في العام 2005 أثناء عمله على بحث عن الزهايمر، اعتمد فيه على فحوصات الدماغ لأفراد عائلته الأصحاء، بينما كان يراجع الرنين المغناطيسي الوظيفي لبعض المرضى النفسيين الذين ارتكبوا جرائم قتل لبحث آخر.

فالون وجد أن التشريح الدماغي لأحد أفراد عائلته مماثل تقريبًا للتشريح الدماغي للمرضى النفسيين، وبعد تتبع هوية صاحب هذا التشريح وجد أنه يعود إليه شخصيًا. ولم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد، بل ما أدهشه أكثر أن المحيطين به لم يتفاجأوا على الإطلاق من هذه النتيجة، وأخبروه أنهم لطالما قالوا له إنه سيكوباتي، وبدأ رحلته الشخصية لاكتشاف مرضه والتي كتب عنها في مؤلفه «رحلة شخصية في علم الأعصاب للبحث عن الجانب المظلم من الدماغ».

ربما تقودنا هذه القصة العجيبة للتساؤل عن طبيعة هذا المرض، ومدى انتشاره، وكيف لم يتمكن عالم قضى جل حياته في البحث في مثل هذه الاضطرابات النفسية من اكتشاف إصابته به، وربما تدفعنا في الوقت نفسه للبحث –سريعًا- عن طبيب نفسي للتأكد من أننا لسنا مصابين أيضًا به.

ما هو «اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع»؟

بحسب مجلة «علم نفس اليوم»، فإن «اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع» Anti-social personality disorder أو ASPD هو واحد من 10 اضطرابات شخصية، و يُشخَّص لدى الأفراد الذين يميلون لتجاهل أو انتهاك حقوق الآخرين من حولهم، ولا يُشخَّص لدى الأفراد أقل من 18 عامًا، إلا إذا ظهرت عليهم بعض اضطرابات السلوك قبل سن 15.

وجادل بعض علماء النفس للتمييز بين نوعين من المصابين بهذا المرض؛ أولهما Sociopathy أو الشخص المعتل اجتماعيًا؛ وهو الدرجة الأقل حدة ويوصف بأنه «شخص يعاني من نظرة سلبية وخاطئة جدًا عن المجتمع في داخله». وثانيهما psychopathy وهو أكثر تطرفًا إذ يتصف بانعدام الضمير التام والمسئولية والشعور تجاه الآخرين، حتى أطلق عليهم بعض الخبراء «الأحجار الباردة»، وحاليًا أصبح شائعًا استخدام لفظ «سيكوباتي» للإشارة إلى جميع المصابين بهذا الاضطراب بنوعيه.

ورغم أن أعراض المرض تختلف بشكل ملحوظ في شدتها من شخص لآخر، إلا أن الشخص السيكوباتي بشكل عام يتسم ويميل إلى؛ ارتكاب الأفعال المؤذية والفاضحة، وأحيانًا الإجرامية، وكذلك تجاهل وانتهاك قوانين المجتمع، وانتهاك الحقوق الجسدية والعاطفية للآخرين، ويعاني من عدم الاستقرار العائلي أو المهني، والتهيج المستمر والميل إلى العدوانية، وعدم الندم، وعدم تحمل المسئولية، والتهور والاندفاع، والخداع والتلاعب، والبحث الدائم عن الإثارة، والاغتراب، والفشل في الاحتفاظ بالعلاقات لفترات طويلة، وقد يحب لكن المقربين منه فقط.

وتؤكد الإحصاءات أن الرجال أكثر عرضة للإصابة بهذا المرض مقارنة بالإناث- 3% من الرجال مقابل1% من النساء مصابات به-، كما يوصي الأطباء عند ظهور هذه الأعراض بضرورة الخضوع لفحص طبي نفسي؛ حتى يتم استبعاد اضطرابات الشخصية الأخرى التي قد تتقاطع بعض أعراضها، وذلك قبل تأكيد التشخيص بهذا الاضطراب، الذي يوصف بأنه «أخطر اضطرابات الشخصية».

تبقى أسباب المرض غير محددة بشكل دقيق حتى الآن، وإن كان الخبراء يميلون لاعتبار العامل الوراثي سببًا مباشرًا له؛ فالأشخاص ذوو التاريخ العائلي مع المرض أكثر عرضة للإصابة به، كما يعتبر آخرون العوامل البيئية والأسباب المحيطة عاملاً مؤثرًا في إصابة البعض بهذا الاضطراب، فنجده أكثر انتشارًا بين نزلاء السجون مثلاً.

وبحسب مقال آخر لمجلة علم النفس اليوم، فإن اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع –الذي لا يوجد له علاج حتى الآن- أكثر انتشارًا مما قد نتخيل، ويشير أحد المقالات أن 23% من الأفلام الحائزة على جوائز عالمية جسّد أبطالها أدوارًا لشخصيات سيكوباتية، كالشخصية التي جسدها Marlon Brando في الجزء الأول من The Godfather، وكذلك دور Robert De Niro في The Godfather Part II، ودور Anthony Hopkins في Silence of the Lambs، وشخصية Daniel Day-Lewis في There Will Be Blood، والدور الذي جسده Javier Bardem في فيلم No Country for Old Men.

التشخيص أهم من العلاج

ربما تصور لنا الأعراض المذكورة أعلاه، كيف يعيش المصابون بهذا المرض «وحوشًا» على الأرض، غير عابئين بما يحدث للآخرين من كوارث ومآسٍ أو حتى ما يسببونه هم شخصيًا لهؤلاء المحيطين، مهما كانت الصلة التي تربطهم بهم، لكن مهلاً ألا ينبغي أن نتذكر أنهم «مرضى»، ويعانون أيضًا بسبب المرض وإن كانوا غير مدركين لذلك؟

قصتان لشخصين استطاعا أن يتعايشا مع المرض ربما تعرفنا الكثير؛ القصة الأولى رواها جون (اسم مستعار)لموقع Business Insider، والثانية لآندي (33 عامًا).

حيث اكتشف والدا جون أن تصرفاته لم تكن ملائمة لرفاقه منذ طفولته المبكرة لعزوفه عن تكوين الصداقات وعدم ولائه لهم وعنفه تجاه الجميع.أما آندي فقد عانى منذ الصغر بسبب أسرته المفككة، وتنقله بين دور الرعاية وهو في أشهره الأولى من العمر، قبل أن تتبناه «أسرة مُحِبة»، لكن تعرضه للاغتصاب من قبل شقيق أحد أصدقائه تسبب في تأزم حالته، ورغم أنه ظن مرضه ناتجًا عن الاعتداء الجنسي، إلا أن الأطباء يعتقدون أنه كان يمتلك الأسباب «الوراثية» الكافية ليصبح مضطربًا نفسيًا أو معتلاً اجتماعيًا.

اتفق آندي وجون أنهما استطاعا التعايش مع المرض و«الظهور بهيئة إنسان سوي أمام الجميع»، وأن تجربتهما «المغايرة لما هو شائع» عن الاضطراب تطلبت فقط «حافزًا حقيقيًا وقويًا» للتغلب عليه.

بالنسبة لجون حدث التحول عندما أدخله والداه «مؤسسة تأهيلية»، حيث فهم طبيعة مرضه وكيفية التعامل معه بشكل مثالي، كما تعلم كيف يبدي المشاعر المفترض الإحساس بها رغم عدم شعوره بها فعليًا.

أما آندي فقرر طلب العلاج بعد دخوله السجن عقابًا على جريمة سرقة ارتكبها، وقتها ذهب للطبيب ظنًا بأنه يعاني من «اضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه»، بسبب الأعراض التي عانى منها مثل الاندفاع السلوكي والبحث عن الإثارة من خلال ارتكاب الجرائم، لكن تشخيصه باضطراب الشخصية السيكوباتية جعله يفهم مشاكله، ويسعى لإيجاد طرق تعلم بها كيف أصبح رب أسرة «طبيعي»، وشريكًا جيدًا وأبًا مسئولاً.

معاناة المرضى

اتفق جون وآندي على أن «الوصمة» التي تلحق بكل من يعاني من هذا المرض على أنه سفاح أو قاتل متسلسل ليست حقيقية، ولا يمتلك كل المصابين بهذا الاضطراب نزعات انتقامية أو إجرامية، أو حتى ميل دائم لانتهاك القانون، كما أن زعم انعدام المشاعر ليس دقيقًا في تعميه، إذ يمكن للسيكوباتي أن يحب المقربين منه وبشدة.

وبحسب جون فإن شعور الاغتراب له تأثير خطير على ضحايا هذا المرض، فهو برأيه «السبب الرئيسي في جنوح بعض المرضى لانتهاك القانون أو إيذاء الآخرين، والشعور الوحيد الواضح الذي يختبرونه»، مشيرًا إلى أن «الاندماج في المؤسسات المجتمعية يساعد في تقليص مشاعر الاغتراب الموحشة ومواجهتها».

هي أبرز مشكلات المرض، وقلة قليلة للغاية من المرضى يقصدون العلاج،هذا ما يقوله آندي، ويردف: «فالصورة النمطية عنه وصمة ولعنة تُقرن مرضاه بالقتلة والمجرمين، مما يُصعّب على أي شخص الحصول على عمل أو تكوين صداقات إذا ما كشفت حقيقة إصابته به».

وهذا ما حدث مع جون، بعد أن وضع أحد جيرانه اسمه وعنوانه ذات مرة على أحد مواقع الإنترنت، مصنفًا إياه كشخص يمثل «خطرًا» على المجتمع، ما سبّب له الكثير من التهديدات، اضطر على إثرها لترك وظيفته ومنزله، وانتقل لمكان جديد وظل لفترة غير قادر على التكيف مع الآخرين.

ورغم أن آندي يعترف بأن تعايشه مع المرض وتحوله لشخص «عادي» لم يكن سهلاً، إلا أنه يؤكد أن كفاحه للتخلص من شعور الملل والضيق كان أصعب ما واجهه؛ حيث كان جسده وذهنه بحاجة دائمًا للمزيد من «الإثارة»، واستطاع في النهاية أن يُعوّض هذا الشعور من خلال ممارسة الرياضة والقراءة وحل الألغاز.

وأوضح أن كثيرًا من الأفكار والنظريات الشائعة حول المرض «مغلوطة»، لأن غالبية الدراسات التي أجريت حوله ربما اعتمدت على عينات من نزلاء السجون الذين ينتشر الاضطراب بينهم.

وبينما يعتبر جون نفسه، الآن، عضوًا فاعلاً قادرًا على التعايش بسلام في المجتمع، يؤكد آندي أنه «لن يعود إلى عالم الجريمة مرة ثانية، وأن أي شخص يتعامل معه لا يمكن أن يتصور أنه كان مصابًا بهذا المرض من قبل».

وراثة أم ظروف محيطة؟

ويضيف: «كان يمكن أن أصبح أحد زعماء العصابات أو المافيا بالنظر إلى سلوكي في الصغر، حيث منع بعض الآباء أطفالهم من التسامر معي… لكني كنت محميًا ومحظوظًا، لأنني وُلدت في أسرة متعلمة من الطبقة المتوسطة العليا، أفرادها داعمون جدًا، فتخطيت سلوكياتي العنيفة في الطفولة والمراهقة وعبرت بسلام لأصبح شخصًا ناجحًا وغير ضار للآخرين… والآن ربما لا أهتم للآخرين، لكني لا أؤذيهم».

وفي محاولته للتغلب على المرض، راقب فالون تصرفاته مع الجميع، وتحقق من أنه لم يكن يتعامل بشكل ملائم خاصة مع المقربين منه (أمه وأخته وزوجته)، تعامل مع الجميع كغرباء، «وهذا مؤلم ومخيب للآمال» كما يقول فالون. ثم عاد فأكد:

تلخيصًا، ينبغي أن نعي أن اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، كسائر الاضطرابات النفسية، تختلف حدته من شخص لآخر، ويصعب تعميم النظريات «الثابتة» على كافة المصابين به، نظرًا لاختلاف الظروف والعوامل المحيطة، لكنه بالنهاية يتطلب مزيدًا من الوعي الذاتي والتفهم من المحيطين.