ترى الكاتبة «نيكى رابانا – Niki Rabana» أن «الرؤية الجماعانية»، هي الرؤية المتوقعة لنظام عالمي جديد بحلول عام 2020. ولكن علينا أن نوضح أولاً مفهوم الجماعانية، ما هي؟ وكيف ظهرت؟ وكيف أصبح يراها البعض بديلاً قويًا للنموذج الليبرالي؟

مصطلح الجماعانية

هناك جدل قائم في ترجمة مصطلح communitarianism، فهناك من يترجمه «جماعاتية» وهناك من يترجمه «جماعانية»، وبالتالي يتم استخدام المعنيين لترجمة نفس المصطلح، وإن كنا سنستخدم هنا كلمة جماعانية.

والجماعانية في اللغة العربية «اسم مؤنث منسوب إلى جماعة على غير قياس، وهو أيضًا مصدر صناعي من جماعة على غير قياس»، وتعني نزعة تميل إلى الاهتمام بالجماعات ومصالحها العامة على حساب الأفراد والمصالح الشخصية[1]، وتجدر الإشارة إلى أن الجماعانية تختلف عن الجماعية collectivism، فالجماعية هي اتجاه يرى أن النشاط الاقتصادي يجب ضبطه ومراقبته عن طريق فعل جمعي، ويشير المصطلح إلى مجموعة المعتقدات والأهداف والأساليب المطلوبة للسيطرة الشاملة على الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، فالجماعية تدعو إلى إلغاء الملكية الفردية وإقامة الملكية الجماعية.[2]

وحتى لا يختلط أمر مصطلح «جماعاني» بغيره من المصطلحات التي ترتبط بالجماعة أو النزعة الجماعانية أو ما هو جمعي، ومن أجل تمييز هذا المصطلح الجديد «جماعانية – communitarianism» عن مصطلح collectivist، فإنه تم خروج على القياس اللغوي المعتاد من أجل تمييز هذا المصطلح الجديد، الذي ظهر في الثمانينيات بصورة مختلفة الدلالة والمعنى، ولذا جاء مصطلح جماعاني أو جماعانية للتأكيد على أنه مصطلح مفارق للجماعية أو ما هو جمعي. مثال: كلمة جزائر هي جمع لمفرد جزيرة، لكنها حينما تُنسب إلى بلد تكون له دلالته ومعناه المخالف لجمع جزيرة، حيث إننا لا ننسب إلى الجزيرة فنقول جزيري، لكن نقول جزائري، لتمييزها كمفردة عن جمع له معنى آخر.

الجماعانية في مواجهة الليبرالية

يقول الكاتب الأمريكي «فريد زكريا»:

إن أرسطو هو من بدأ كل شيء عندما قال عبارته المشهورة إن الإنسان حيوان سياسي، مما يعني أن البشر هم جزء من المجموعات السياسية والاجتماعية وليسوا أشخاصًا منعزلين يجلسون في المنازل أمام شاشات التلفاز.[3]

فالرؤية الليبرالية حاليًا في الولايات المتحدة هي رؤية إجرائية، تسعى لتحديد أولية العدل بغض النظر عن الغايات، وتنتصر للحقوق الفردية مع عدم الأخذ بعين الاعتبار الصالح العام، فالأهم لديها هو عدالة الإجراءات ولا يهم الهدف ولا الغاية المرجوة من تبرير الحقوق، وقد تم نقد التشديد الليبرالي على مكانة الحقوق الفردية في العديد من النقاشات في النظرية السياسية الجماعانية في الثمانينيات والتسعينيات.

فالجماعانية على طرفي نقيض مع الليبرالية فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية والمسئولية الاجتماعية والديمقراطية التشاورية، الأمر الذي يشير إلى طرح معاصر للجماعانية ينطلق من الجماعة إلى الفرد، ففي الرد على انهيار النسيج الأخلاقي للمجتمع الذي نتج عن الفردية المفرطة، وكرد فعل على كتاب جون رولز «نظرية فى العدالة» الذي صدر عام 1971، بدأ المفكرون الجماعانيون أمثال «اميتاي اتزيوني» و«وليام جالستون» في تنظيم لقاءات عمل للتفكير من خلال النهج المجتمعي في القضايا الرئيسية في المجتمع، فالحركة الجماعانية الجديدة كان لها تأثير على العامة والقادة المنتخبين من مختلف الانتماءات في عدد من البلدان الغربية.

وفي الثمانينيات انتقد كل من «تشارلز تايلور» و«مايكل ساندل» و«مايكل والزر» و«روبرت بيلاه» الفردية المفرطة لـ الليبرالية الكلاسيكية التي تجسدت في الولايات المتحدة في عهد رونالد ريجين وفي المملكة المتحدة في عهد مارجريت تاتشر، ويشير مايكل ساندل إلى أن الفلسفة السياسية المعاصرة هي صيغة محددة للنظرية السياسية الليبرالية، إذ إن الفكرة الرئيسية عندها هي أن الحكومة يجب أن تكون محايدة تجاه المعتقدات الأخلاقية والدينية التي يتبناها المواطنون، وأن الحكومة لا يجب أن تحدد في القانون أي رؤية خاصة للحياة الصالحة لأن الناس يختلفون حول أفضل طريقة للعيش، وبدلاً من ذلك يجب عليها أن توفر إطارًا محايد من الحقوق التي تحترم الأشخاص كأحرار ومستقلين قادرين على اختيار غاياتهم لأنفسهم، ويرى ساندل أن هذه الرؤية الليبرالية غير قادرة على التعامل مع اثنين من المخاوف التي تحدد القلق في السياسة الأمريكية المعاصرة وهما: الخوف من فقدان السيطرة على القوى التي تحكم حياتهم، والخوف من تآكل النسيج الأخلاقي للمجتمع.

ويؤكد الجماعانيون أن «الليبراليين فشلوا في الاعتراف بأنه لا يوجد هناك مجتمع ديمقراطي حديث يمكنه أن يقوم بدون المواطنة والتضامن»، وأكد روبرت بيلاه وآخرون أن لغة الليبرالية الفردية لا تفهم بشكل كافٍ توجهات المواطنين نحو الصالح العام، والنتيجة هي إفقار في استخدام المواد المفاهيمية لوصف أنفسهم في حياتهم الاجتماعية.[4]

الفن المفقود للمناظرة الديمقراطية

يتحدث مايكل ساندل المُصنف جماعانيًا عما يسميه «الفن المفقود للمناظرة الديمقراطية»، فيقول: «إننا بحاجة لإعادة اكتشاف هذا الفن المفقود، وأن الطريق الأفضل للاحترام المتبادل هو الدخول مباشرة في نقاش عام حول القناعات الأخلاقية التي يجلبها المواطنون إلى الحياة العامة، بدلاً من أن نطلب منهم ترك قناعاتهم الأخلاقية العميقة خارج أي نقاش عام».[5] ويقول أيضًا في كتابه «سخط الديمقراطية» أن «الليبرالية تزعم أننا يجب أن نضع جانبًا التزامنا الأخلاقي والديني عندما ندخل إلى المجال العام، وذلك عندما نتناقش بخصوص القانون والسياسة، إلا أن في ذلك إصرارًا على فصل هويتنا كمواطنين عن هويتنا كأشخاص، ويؤدي ذلك إلى تحدٍ واضح، حيث إنه لماذا لا يجب على هويتنا السياسية أن تعبر عن القناعات الدينية والأخلاقية التي نؤكد عليها فى حياتنا الشخصية؟ لماذا يجب علينا أثناء تشاورنا بخصوص العدالة والحقوق أن نضع جانبًا الأحكام الاخلاقية؟»[6]

وفي تصوري لا يجوز لـ الليبرالية أن تطلب من بعض المواطنين تبرير قناعاتهم السياسية بشكل مستقل عن قناعاتهم الدينية، لأن ذلك من شأنه أن ينتهك حقوقهم التي تدّعي الليبرالية حمايتها، حيث إن النمط التشاوري لتشكيل الإرادة يتطلب مشاركة جميع المواطنين على قدم المساواة، وتصبح مطالبة المواطنين المتدينين بأن يقدموا أسبابًا علمانية لآرائهم من شأنه أن ينتهك المساواة ويقود إلى نتائج غير مشروعة.

وتجدر الإشارة إلى أن الجماعانية قد أثرت بشكل واضح في السياسة الأمريكية المعاصرة، بدليل أن الرئيس السابق باراك أوباما كان جماعاني النزعة، إذ إنه كان يُؤثِر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فأوباما يراه السياسيون الأمريكيون أنه معتدل وجماعاني براجماتي، وقد تشكّل تفكيره في الثمانينيات وبداية التسعينيات عندما تم إعادة تنشيط النقاشات حول الليبرالية في مقابل الجماعانية، ويشير هؤلاء الساسة إلى أن أوباما يميل إلى التفكير الجماعاني ويلتزم دائمًا بالتركيز الجماعاني على التوازن بين الحقوق والمسئوليات.

ويقول ساندل: «إن أوباما قد ابتعد عن الليبرالية لسببين؛ أحدهما هو أن الليبرالية في العقود الأخيرة قد حذّرت من النقاش الأخلاقي والروحي فى السياسة، وترى أن ذلك وصفة للتعصب والإكراه، أما أوباما فقد جادل بأن حركة إلغاء العبودية التي تعود إلى مارتن لوثر كنج قد جلبت منذ فترة طويلة المواضيع الدينية والأخلاقية إلى السياسة، وأن من الحماقة الكف عن اللغة الأخلاقية والروحية، وقد جلب أوباما لحملته الشعور المدني الذي يُذكّر بتقليد أقدم للإصلاح السياسي، وطبقًا لتقليده فإن السياسة الديمقراطية لا تتعلق فقط بالسياسة والتشريع، ولكنها تتعلق بتعبئة المواطنين للمطالبة بصوت هادف في الحكم الذاتي، أنها تتطلب التضامن بين المشاركين في علاقات الجيران، الطوائف، الاتحادات والمجالس المحلية الأخرى، وعادة ما تنطوي على صراع مع المصالح الاقتصادية الراسخة».[7]

نهوض الجماعانية

يشير أحد المعلقين السياسيين إلى أن أوباما لم يكن أبدا بطلاً للحريات المدنية، وإنما يعطي أولوية للصالح الجماعي على الفردي، وترى الفلسفة السياسية أن كل مواطن، شركة، مؤسسة، لديهم التزام للمساهمة في الصالح العام، والفلسفة التي تصنع مزيجًا من معاداة الفردانية العنيفة ومناهضة الاستبداد هي ما يسميها علماء السياسة «جماعانية».

وخلال ثمانية عشر عامًا من نهوض الجماعانية، لم يكن من المتوقع أن يرتبط أي مرشح رئاسي بهذه الفلسفة السياسية مثل فعل أوباما، الذي كان على صلة بأستاذ الفلسفة بجامعة جورج واشنطن «أميتاي اتزيوني»، وأحد مؤسسي الجماعانية المعاصرة.[8]

إذن يعيب الجماعانيون على الليبراليين اعتمادهم مقاربة فردانية ومجردة، ويقترحون كبديل مقاربة أكثر سياقية وأكثر انشغالاً بمفهوم الجماعة، وتجدر الإشارة إلى أن القضايا التى تطرحها الجماعانية والوجهات التي يُنظر منها إليها تعد جديدة وتعكس بوضوح انشغالاً معاصرًا بمفهوم الجماعة في الديمقراطيات الغربية. والجماعانية تتميز بأن لديها تصورًا جوهريًا للحياة الصالحة، وهو تصور يحدد نمط حياة الجماعة، وبدلاً من أن يتلاءم الخير المشترك مع تنوع التفضيلات الفردية، فإنه يقوم بتقييمها والحكم عليها ويتحدد الوزن الذي يمنح إلى هذا التفضيل أو ذاك بمدى توافقه أو إسهامه في تنمية الخير المشترك.

ويعتقد الجماعانيون أنه على الفلسفة السياسية أن تمنح الممارسات والتصورات المشتركة داخل المجتمع اهتمامًا أكبر، كما أنهم يجمعون على أن ذلك يقتضي إدخال تغيير على المبادئ الليبرالية المعهودة حول العدالة والحقوق، غير أنهم يختلفون حول كيفية تغيير هذه المبادئ. وقد أكدت الدكتورة Joan W. Konner، عميدة كلية الصحافة في جامعة كولومبيا، بأن الجماعانية تعد جزءًا من خطبة الكنيسة، وجزءًا من إعادة تأكيد قيم جوفاء، وأنها أيضًا جزء من حركة اجتماعية.

وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أن الأمريكيين يشعرون الآن بالإحباط من السياسة والسياسيين والأحزاب السياسية، ويرى البعض أن الليبرالية الإجرائية فشلت الآن كرؤية حاكمة في الولايات المتحدة، إذن هل تستطيع الجماعانية ملء هذا الفراغ الذي يعاني منه المواطن الأمريكي؟ هذا ما ستثبته الفترة القادمة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلد الأول، الطبعة الأولى، القاهرة، عالم الكتب، 2008، ص 395.
  2. مصلح الصالح، الشامل: قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية (إنجليزى-عربى)، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى 1999، ص99.
  3. Fareed Zakaria. “The ABcs of communitarianism”. 26 July 1996.
  4. Rainer Forst. “Context of justice, political philosophy beyond liberalism and communitarianism”. Translated by: john M. Farrell. University of California press. 2002. P 5.
  5. Michael Sandel. “The art of theory interview”. Journal Of Political Philosophy. 2013.
  6. Michael Sandel. “Democracy’s discontent: America in search of a public philosophy”. The Belknap press of Harvard University Press. Cambridge, Massachusetts, London, England. 1996. p 18-19.
  7. Michael Sandel. “Obama and civic idealism”. Journal of Ideas. Spring 2010.
  8. Gregory Ferenstein. “Why Obama was never going to be a civil liberties champion”. 30 June 2013.