لجنة محلب: فصل جديد في قصة الأوقاف
نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الجمهورية رقم 300 في عددها رقم 28 الصادر بتاريخ 14 يوليو 2016م. وينص هذا القرار على تشكيل لجنة برئاسة المهندس إبراهيم محلب للقيام بعدة مهام منها، وربما أهمها: «حصر ممتلكات هيئة الأوقاف من الأراضي والمباني والمشروعات والمساهمات في شركات». ولمعرفة أبعاد هذا الموضوع سنبدؤه بالإجابة على سؤالٍ أوليٍ وبسيط: ما هو الوقف؟ وما قصته في علاقته بالمجتمع والدولة بصفة عامة، وماذا جرى له في مصر منذ الخمسينيات من القرن الماضي بصفة خاصة. ثم نعود بعد ذلك للنظر في قرار تشكيل «لجنة محلب»، وما يثيره من إشكاليات مختلفة.
«الوقف» واحد من النظم الشرعية الإسلامية التي يعود تاريخها إلى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أول من أنشأ وقفًا للفقراء وذوي الحاجة، وهو صلى الله عليه وسلم أول من دلَّ الناس في عهده ومن بعده على أبواب الخير، ومنها الصدقة الجارية، في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم في صحيحه). وتبع النبيَّ في ذلك صحابته الكرام وتابعوهم والصلحاء على مر الزمن فأنشأوا الأوقاف لخدمة المجتمع وطلبًا للثواب من الله سبحانه وتعالى. ونما الوقف وتعددت مصارفه، وتطورت إدارته، وتشابكت علاقاته ووظائفه مع مختلف جوانب الحضارة الإسلامية.
وقد عرف الفقهاء الوقف بأنه «حبس الأصل وتسبيل الثمرة»؛ أي منع التصرفات الناقلة للملكية في أصل من أصول الإنتاج مثل: أرض زراعية، أو عقار مبني، أو منقول له منفعة، والتصدق بما ينتج عن هذا الأصل أو ذاك من منافع وعوائد وصرفها في وجوه البر والخيرات والمنافع العامة؛ لتكون هذه الخدمات متاحة بالمجان أو بأسعار أقل من تكلفتها؛ كتمويل إنشاء المدارس، والمستشفيات، والمساجد، ودور الأيتام، وبيوت العجزة، وأسبلة مياه الشرب، ومنازل للغضابى من النساء، ومضايف للغرباء وعابري السبيل، وأربطة وجسور وقلاع وأسوار للأمن والدفاع وفك الأسرى.
وتفرعت وجوه صرف إيرادات الأوقاف بمرور الزمن وبفعل تقدم المدنية حتى شملت الإنفاق على: إطعام الطيور المهاجرة، والكلاب الضالة في الطرقات، والقطط العمياء، وتوفير عصي وعكازات للعميان يتوكئون عليه، وتوظيف أناس يقومون بإزالة الأحجار من الطرقات وردم الحفر حتى لا يتعثر المارة بها (يسمى وقف «العناصيص» في شرق الجزيرة العربية)، وبعضهم خصص ريع وقفه للإنفاق على خدمة الحرمين الشريفين وحجاج البيت الحرام، وإنشاء متاحف للفنون الجميلة وتعلمها (متحف الفن الإسلامي، ومدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة في مطلع القرن العشرين)، وبعضهم خصص وقفه لدعم حركات التحرر الوطني من الاستعمار الأجنبي والأمثلة كثيرة وممتدة من إندونيسيا والهند شرقًا مرورًا بمصر وصولاً إلى بلدان المغرب العربي غربًا، وكذلك بلدان آسيا الوسطى والصغرى ومنطقة الرومللي وبلدان البلقان وخاصة كوسوفو ومقدونيا والبوسنة والهرسك، وفلسطين، وبخاصة مدينة القدس وما حولها.
ولكن عندما استولت الدولة الحديثة في مجتمعات الأمة على هذا النظام العريق بإرثه الهائل من الممتلكات والمؤسسات الخدمية والإنتاجية والدفاعية المتنوعة، لم تتحمل سلطاتها كونه نظامًامستقلًا ومستقرًا ومستمرًا؛ يعمل في بناء مجال تعاوني مشترك بين «المجتمع وسلطته العامة». وشرعت هذه الدولة الحديثة في احتوائه والسيطرة علي إدارته تارة، وتوظيفه في خدمتها وإدماجه في بيروقراطيتها الحكومية تارة، وتصفيته تارة، والاستيلاء على إرثه الاقتصادي والمؤسسي تارة أخرى؛ ليس فحسب؛ بل وعمدت إلى تشويه فكرته ونواته المعنوية الصلبة وهي «الصدقة الجارية» التي نشأ عليها. واستخدمت في ذلك كل صور التشويه: الفني، والمسرحي، والسينمائي، والإعلامي؛ حتى تم ربط هذه الفكرة «مؤخرًا» بما يسمونه «الإرهاب».
وفي دراساتنا السابقة شرحنا كيف كان نظام الوقف الفاعل يسهم في دعم الحريات العامة والاستقلال النسبي للمجتمع، وكيف كان يحد من تغول سلطة الدولة ولا يعاديها في الوقت نفسه. وبيَّنَّا أيضاً كيف أنه كان قاعدة معنوية ومادية صلبة لنشأة ما يسمى بلغة العصر «المجتمع المدني»، وكيف كان إطاراً لضبط العلاقة بين المجتمع والسلطة، وميداناً أصيلاً لممارسة الحرية بأوسع معانيها الملتزمة في إطار ما سميناه «السياسة المدنية» في تاريخ الحضارة الإسلامية. وأثبتنا كذلك أن هذا الإرث رفضته الدولة القومية التي وفدت إلى مجتمعاتنا في الأزمنة الحديثة.
وفي مصر كانت الخمسينيات والستينيات هي أحلك الفترات التي مر بها نظام الوقف. والحكاية من أولها هي: أن الضباط الأحرار استلمواغداة نجاحهم في الإطاحة بالنظام الملكي في سنة 1952م مساحة 582.950 فدانًا من الأراضي الزراعية الموقوفة، إضافة إلى 130 ألف فدان أخرى هي جملة الأراضي الوقفية التي كان يديرها ديوان الأوقاف الملكية، إلى جانب ثروة كبيرة من العقارات والمباني والفيلات الفاخرة في أرقى الأحياء السكنية،ومئات المنشآت الصناعية والحرفية التي لم نعثر على إحصاء شامل بها في سجلات الأوقاف التي تحتفظ بها الدولة في خزائنها. وهناك أيضًا عديد من المؤسسات الوقفية التي كانت تعمل في قطاعات: التعليم (مدارس ومعاهد)، والصحة (عيادات ومستشفيات وصيدليات)، والرعاية الاجتماعية (ملاجئ ومضايف وتكايا ودور أيتام)، والثقافية (مكتبات عامة، ومتاحف). إلى جانب آلاف الجوامع والمساجد وملحقاتها، وعشرات الآلاف من الزوايا.
لقد كانت الأراضي الزراعية والعقارات المبنية والأراضي الفضاء هي الركيزة الاقتصادية لتمويل مؤسسات الأوقاف التي أشرنا إليها. وقد قام نظام يوليو الثوري الجديد بتصفية كل هذه التركة بطريقة منهجية منظمة. وانتهى الأمر إلى تجريد نظام الوقف من جميع ممتلكاته ومؤسساته مع حلول نهاية الستينيات وأمست «وزارة الأوقاف بلا أوقاف».
ولعل أهم ما تحتويه «لفائف الخمسينيات السوداء» – على حد وصف الشيخ عبد المنعم النمر وزير الأوقاف في سنة 1980م – بشأن الأوقاف هو ما اكتشفناه من أن ما يقرب من نصف إجمالي الأراضي التي تم توزيعها تطبيقًا لقانون الإصلاح الزراعي هي أراضي أوقاف، وأن النصف الآخر فقط هو من أراضي كبار الملاك والإقطاعيين. وموجز ما حدث هو أن ثورة يوليو لم تلبث بعد قيامها إلا قليلًا حتى أصدرت في 14 سبتمبر 1952، المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1952، الذي قضى بالإبقاء فقط على الوقف الخيري المحض، ومنع إنشاء أوقاف جديدة على غير الخيرات، وحل الوقف الأهلي، وقسَّم أعيانه على المستحقين فيه وورثة الواقف.
ارتبط هذا الإجراء المبكر للثورة تجاه الأوقاف بسياسة الإصلاح الزراعي التي بدأت غداة الثورة مباشرة بصدور القانون 178 في سبتمبر سنة 1952 ، وهو القانون الذي حدد الملكية بمئتى فدان للفرد، وأجاز له أن يتصرف في مائة فدان أخرى لأولاده، وجاء قانون حل الوقف المذكور ليبين أنصبة المستحقين من الأراضي الزراعية الموقوفة، ويدخلها في حساب ملكية الشخص حتى يتحدد موقفه النهائي من أحكام قانون الإصلاح الزراعي. وكان الإصلاح الزراعي أحد أهم دعائم السياسة الاجتماعية للنظام الجديد. ونظرًا لوجود مساحة تقرب من ستمائة ألف فدان من الأراضي الزراعية كانت موقوفة وقفًا خيرًا وأهليًا – ومشتركًا – عند قيام الثورة، فإن بقاء الأوقاف، وخاصة الأوقاف الأهلية ذات المساحات الكبيرة على ما هي عليه، كان يعنى أن الإصلاح الزراعي سيتعرقل، وربما يفشل؛ طبقًا لما ورد بالمذكرة الإيضاحية لمرسوم حل الوقف.
هذا هو الهدف الأساسي من إلغاء الوقف الأهلي بذلك الإجراء المبكر – الذي جاء بعد أسبوع واحد من صدور أول قانون للإصلاح الزراعي، وبعد أقل من شهرين من قيام ثورة يوليو – أما القول بأن الإلغاء كان للتخلص من سلبيات الوقف الأهلي وسوء استغلاله وفساد نظَّاره وتدهور إدارته الأهلية؛ فلا يعدو أن يكون سببًا مساندًا ومبررًا لما حدث، وخاصة أن قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946 كان قد تكفل بمعالجة معظم تلك السلبيات والمفاسد.
لقد جاء حل الوقف الأهلي في سياق الإجراءات التي اتخذتها الثورة لتقويض الدعائم الاجتماعية والاقتصادية للنظام القديم، وللحد من سلطة كبار ملاك الأراضي الذين شكلوا القاعدة الاجتماعية والسياسية لذلك النظام، وكانوا في الوقت نفسه يمثلون المصدر الرئيسي المحتمل لمعارضة النظام الثوري الجديد، أو لمواجهته بثورة مضادة؛ ومن ثم كان لابد من إضعاف قوتهم لتأمين مستقبل النظام الجديد. وكانت سياسة الإصلاح الزراعي من أهم السياسات التي انتهجتها حكومة الثورة لتحقيق هذا الهدف.
وليس من المعروف – على وجه الدقة – الحجم الإجمالي لمساحة أراضى الوقف الأهلي الذي تم حله وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي عليه. ولا تشير الإحصاءات المتوفرة إلا إلى أراضى الأوقاف التي كانت تحت إدارة ديوان الأوقاف الملكية وكانت مساحتها تتراوح بين 120 و130 ألف فدان، كما قلنا، وكان معظمها أوقافًا لأعضاء الأسرة المالكة، وقد صادرتها الثورة ووزعتها طبقًا لأحكام قانون الإصلاح الزراعي 178 لسنة 1952، ولم تأخذ الثورة في اعتبارها أن تلك الأراضي كانت موقوفة، كما لم تلق بالًا إلى أن 75.804 أفدنة منها (خمسة وسبعون ألفًا وثمانمائة وأربعة أفدنة) كانت أوقافًا خيرية تمول منافع عامة؛ لو طبقت عليها أحكام المرسوم بقانون 180 لسنة 1952 لما تم حلها، ولكن الثورة عاملتها معاملة أراضى الإقطاع فصادرتها ووزعت جزءًا منها، واستولت على الباقي.
وكانت الثورة قد بادرت بوضع جميع الأوقاف الملكية تحت نظارة وزارة الأوقاف – بعد طرد الملك فاروق خارج البلاد – فضلًا عن أن مجلس قيادة الثورة كان قد أصدر المرسوم بقانون رقم 124 بتاريخ 2/8/1952 الذي نص في مادته الوحيدة على إلغاء المادة رقم 61 من قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946، وهى المادة الخاصة بأن تُستثنى أوقاف الملك، وتلك التي كان يديرها ديوان الأوقاف الملكية، من أحكام سبع وعشرين مادة من مواد قانون الوقف، ومعنى ذلك هو أنه لم يكن هناك مبرر لتجاهل صفة «الوقف» في أراضى الأسرة المالكة، خاصة أن نسبة كبيرة منها كانت للمنافع العامة ولأعمال البر والخيرات التي يستفيد منها الفقراء الذين جعلت الثورة إنصافهم أحد أهم أهدافها لتحقيق العدالة الاجتماعية.
وإذا قدَّرنا – على سبيل التقريب – أن حوالي 45000 فدان من إجمالي أراضى الوقف الأهلي المنحل طبقًا لأحكام القانون 180 لسنة 1952 تم توزيعها وفقا لقانون الإصلاح الزراعي الأول، ثم أضفنا إليها حوالي 120000 فدان (كحد أدنى) هي جملة أراضى الأوقاف الملكية التي صُودرت ووزعت كما ذكرنا وفقا لهذا القانون؛ فإن المجموع يكون 165000 فدان، وهذا المجموع نفسه يساوى حوالي 45% من جملة مساحة الأراضي المصادرة والموزعة طبقًا لأحكام قانون الإصلاح الزراعي، إذ بلغت جملتها 365147 فدانًا.
وإذا كانت سياسة الإصلاح الاجتماعي التي تبنتها حكومات يوليو – وفي القلب منها سياسة الإصلاح الزراعي – قد اقتضت حل الأوقاف الأهلية لضمان نجاحها، فإن ثمة اعتبارات أخرى قد أدت إلى إقدام تلك السلطة على إصدار قانونين آخرين هما القانون رقم 152 لسنة 1957م، والقانون رقم 44 لسنة 1962 لتقوم وزارة الأوقاف بموجبهما بتسليم جميع ما كان لديها من أراضٍ موقوفة على جهات البر العام أو الخاص إلى هيئة الإصلاح الزراعي لكي تطبَّق عليها قانوني الإصلاح: الأول الذي صدر في سنة 1952 والثاني الذي صدر في سنة1961.
وقد بلغت جملة الأراضي التي تسلمها الإصلاح الزراعي من وزارة الأوقاف 229786 فدانًا. وإذا أضفنا إلى هذه المساحة 165000 فدان (هي جملة أراضى الوقف التي خضعت لقانون الإصلاح الأول كما بينا) فإن المجموع يكون 394786 فدانًا، وهذا المجموع نفسه يساوى حوالي 48% من جملة الأراضي الزراعية التي صودرت وتلك التي تم توزيعها طبقا لقوانين الإصلاح الزراعي من سنة 1953 إلى سنة 1970، إذ بلغت جملتها «817538 فدانًا».
ومعنى هذا أن نصف مساحة أراضى الإصلاح الزراعي خلال تلك الفترة كانت من أراضى الأوقاف، وأن حوالي 28% من جملة أراضى الإصلاح التي تم تمليكها أو تأجيرها، أو احتفظت هيئة الإصلاح بإدارتها خلال الفترة نفسها كانت هي عين الأراضي الزراعية الموقوفة على البر العام والبر الخاص التي تسلمها الإصلاح من وزارة الأوقاف بموجب القانون رقم 152 لسنة 1957 والقانون رقم 44 لسنة 1962م. وتلك هي الخلفية التاريخية لقصة الأوقاف منذ ثورة يوليو؛ بما فيها من حقائق يتعين أن تأخذها لجنة المهندس محلب في اعتبارها عند القيام بأي مهمة من مهماتها المنصوص عليها في القرار الجمهوري بتشكيلها.