الباحث: ناصر ضميرية

نادراً ما يعتمد البحث الغربي على المصادر العربية في التأريخ لمراحل الصراع بين العرب والغرب، وخاصة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. إذ تُشكل المصادر الكولونيالية التي تقدمها الوثائق والتقارير الغربية، إضافةً إلى الأرشيف الإسرائيلي، المَعين الأول للباحثين الغربيين لاستقاء معلوماتهم ووجهات النظر المتعلقة بتاريخ منطقة الشرق الأوسط.

ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب – «القائد فوزي القاوقجي والقتال في سبيل استقلال العرب 1914-1948»، للكاتبة ليلي بارسونس- الذي اعتمد بشكل شبه كامل على المصادر العربية في إعادة تقديم أهم الأحداث التاريخية التي مرَّ بها الشرق الأوسط منذ نهاية الدولة العثمانية، مروراً بالتدخلات الغربية الاستعمارية، والثورات العربية التي قامت في سبيل الاستقلال، وصولاً إلى المرحلة الحاسمة في تاريخ المنطقة، حرب 1948 وإعلان تأسيس دولة إسرائيل.

من خلال تتبع سيرة فوزي القاوقجي الحافلة، وحضوره في معظم الأحداث الكبرى في منطقة الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن العشرين، سعت الدكتورة ليلى بارسونس «أستاذة تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمعاصر في قسم التاريخ ومعهد الدراسات الإسلامية في جامعة مكجيل، كندا» إلي تقديم عرض واضح لأهم الأحداث التاريخية التي صاغت الشرق الأوسط، والتي لا تزال آثارها فاعلة حتى أيامنا هذه.


حياة القاوقجي كانت أشبه بالمغامرة المستمرة، وقد يبدو تواجده المستمر في معظم اللحظات التاريخية المهمة في تاريخ الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن العشرين ضرباً من الخيال. فقد بدأ بدراسته العسكرية في استنبول، وبعدها شارك في القتال ضد الإنجليز والفرنسيين في بلاد الشام خلال فترة الحرب العالمية الأولى كضابطٍ في الجيش العثماني. ومع دخول قوات الثورة العربية إلى دمشق انضم لجيش الملك فيصل، وبعدها غدا ضابطاً في الجيش الفرنسي، ليثور لاحقاً ضد الاستعمار الفرنسي ويساهم بشكل فاعل في معظم الثورات السورية.

ونتيجة لملاحقته اضطر للهرب إلى الحجاز، حيث عمل على تنظيم جيش عبد العزيز بن سعود، وبعدها عاد إلى العراق للمساهمة في الثورة ضد البريطانيين، غير أنه أصيب وتم نقله إلى برلين للعلاج وامتدت إقامته هناك، فقد كان من المستحيل عودته خلال فترة الاستعمار، إذ كان مطلوباً لكلٍ من الفرنسيين والبريطانيين. ومع دخول السوفييت إلى برلين تم أسره وسُجن لعدة أشهر إلى أن تمكن من الهرب إلى باريس، والعودة بعدها إلى سوريا ليساهم في أهم حدث في تاريخ المنطقة، وفي حياة القاوقجي، والمتمثل في قيادة جيش الإنقاذ العربي في فلسطين عام 1948.

فوزي القاوقجي

هذا العرض الموجز للمحطات الهامة في حياة القاوقجي شكَّلَ الإطار العام للكتاب، والذي قدمت المؤلفة من خلاله فرصة مهمة للقارئ الغربي غير المختص بأخذ فكرة عن الأحداث المصيرية في النصف الأول من القرن العشرين، والتي ساهمت في تشكيل منطقة الشرق الأوسط، ولا تزال تحكم إلى قدرٍ كبير الكثير من صراعاته.

لا يهدف هذا العرض الموجز لاستعادة تلك الوقائع، ولا العمل على تلخيص أهم أفكار الكتاب، وإنما ستتم الإشارة إلى بعض المحطات الرئيسية في حياة القاوقجي وفي تاريخ المنطقة بشكل عام، قبل تناول منهجية هذا الكتاب ومساهمته في حقل دراسات تاريخ الشرق الأوسط.

يلقي الكتاب بدايةً الضوء على تشكل الوعي القومي العربي في بداياته من خلال حياة القاوقجي في الكلية الحربية في استنبول أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. حيث يشير إلى نمو النزعة القومية التركية بين الضباط وبروزها من خلال تحديد هويتهم كأتراك ينتسبون إلى طوران، بدلاً من الإنتماء الشامل للدولة العثمانية. هذه النزعة التركية تم مواجتها بحالة من الشعور بالفخر العربي من قبل الجنود العرب، والذين بدأوا ينظرون لهويتهم من منظار القومية العربية. وعلى الرغم من أن النزعة القومية العربية كانت محدودة في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنها تعاظمت بعد سنة 1908، عندما برزت النزعة التركية بشكل كبير مع حركة تركيا الفتاة.

بعد تخرج القاوقجي من الكلية الحربية تم تعيينه في الموصل، وبدلاً من أن يسلك الطريق المعتاد عبر حلب ودير الزور، قرر أن يرحل عبر وسط الأناضول ليتعرف على المنطقة وأهلها وعاداتها. هذه الرحلة عززت من نزعته القومية العربية من خلال الاختلافات التي لاحظها عندما دخل إلى المناطق العربية، وما رافق ذلك من لقاءات بالقبائل العربية والترحيب الذي تلقاه بلسانٍ عربي، وعادات عربية.

تجدر الإشارة إلى أن رشيد رضا اقترح أن تكون الموصل هي عاصمة الخلافة الإسلامية الجديدة بعد سقوط الخلافة العثمانية. القاوقجي ورضا، وكلاهما من طرابلس، لم يكونا يجدان تناقضاً بين فكرة القومية العربية والخلافة الإسلامية، إذ كيف يمكن النظر إلى الأقطار العربية دون الأخذ بعين الاعتبار ثقافتها وعاداتها الإسلامية. وهو ما شكل اختلافاً عن مفهوم القومية العربية لدى الأقليات الدينية الأخرى في المنطقة العربية، والتي ترى الأيديولوجيا القومية بوصفها أيديوجيا علمانية حديثة تقوم على اللغة والتراث الثقافي المشترك.

بعد وصول القاوقجي إلى الموصل بعامين كانت القوات البريطانية تحتل البصرة وجنوب العراق، ما شكل بداية الحرب العالمية الأولى في فكر القاوقجي. من هنا، يعيد الكتاب تعريف القارئ الغربي على جانبٍ من الحرب العالمية الأولى من وجهة نظر عربية، وبالأخص الجنود العرب في الجيش العثماني. إذ غالباً ما كانت تُقدم وجهة النظر المرتبطة بثورة الشريف حسين المدعومة من بريطانيا في 1916، بما في ذلك مغامرات لورانس العرب وبطولاته.

قاتل القاوقجي ضمن صفوف الجيش العثماني في فلسطين وبقي في وحدته حتى أواخر الحرب، حيث عاد إلى بلدته طرابلس في أواخر عام 1918 بعد أن دخلت قوات الشريف حسين إلى دمشق. لاحقاً رحب فيصل وجيشه بالجنود العرب الذين كانوا يخدمون في الجيش العثماني، والتقى فيصل بالقاوقجي خلال زيارته لطرابلس ودعاه للانضمام إلى الجيش العربي في سوريا، وهذا ما شكل بداية علاقة جديدة بينهما.

الملك فيصل ويظهر خلفه من اليمين تحسين قدري وادوارد لورنس ونوري السعيد ورستم حيدر

وقد انضم القاوقجي إلى مكتب وزير الدفاع ياسين الهاشمي، والذي كان بدوره جندياً في الجيش العثماني وبقي مخلصاً له حتى نهاية الحرب، بل وجُرح في قتاله ضد جيش فيصل. ومن الصعب معرفة مشاعر القاوقجي تجاه الملك فيصل، فقد اعتبر الخروج على الدولة العثمانية خيانة في بداية حياته، غير أنه كتب في أوائل السبعينيات (عندما كانت القومية العربية في ذروتها، وكان ينظر إلى فيصل والثورة العربية على أنها كانت تمثل ميلاد القومية العربية.-

بعد فشل مفاوضات فيصل والفرنسيين وانسحابه من دمشق ودخول الفرنسيين، انضم القاوقجي في عام 1922 للفيلق السوري، والذي كان رسمياً تحت القيادة الفرنسية، وقد تم تعيينه في حماه. وعلى الرغم من معارضة القاوقجي لتقسيم سوريا، غير أنه لم يحدد ما يقصده بوحدة سوريا.

في عام 1925 راسل القاوقجي أعيان حماة وقادة الثورات في المناطق الأخرى، وخاصة هنانو والأطرش في سبيل التخطيط لانطلاق ثورة ضد الفرنسيين في حماة. اتفق الثوار على ترك مسألة شكل الدولة السورية لبعد إزاحة فرنسا حتى لا يفتح الباب للخلاف والجدال. السياسيون المؤيدون للثورة مثل الشهبندر والريس كان لديهم تصور قائم على فكرة حكومة دستورية، وحتى خلال فترة حكم الملك فيصل القصيرة، كان البرلمان يناقش مسألة إقرار دستور للبلاد. كانت المقاومة السورية قد بدأت مع إبراهيم هنانو وصالح العلي ورمضان شلاش.

وبرأي الباحثة فإن هذه الثورات يجب أن تُفهم في السياق التركي أكثر مما هي في السياق القومي العربي، وخاصة أن النموذج الذي كانت تقتفيه هو حرب مصطفى كمال أتاتورك الناجحة لوقف تمدد الفرنسيين في الأناضول، وهذا ما شكل حافزاً للعديد من الحركات العربية الرافضة للوجود الفرنسي والبريطاني، وأعاد لهؤلاء الثوار الثقة بإمكانية الانتصار على الفرنسيين. مع ذلك ، لم تكن ثورة أتاتورك هي المحفز الوحيد للقاوقجي، وإنما أيضاً الأخبار الواردة من المغرب والمتعلقة بثورة الريف وانتصاراتها بقيادة عبدالكريم الخطابي، وقد تكرر ذكر الخطابي ووصفه بالبطل عدة مرات في مذكرات القوقجي.

في الثورة السورية (1925-1927) قاتل القاوقجي من أجل استقلال سوريا عن فرنسا، وشكلت هذه الثورة نقطة تحول أساسية في حياته، إذ انتقل من حياة ضابط رسمي في جيش نظامي، إلى قائد ثورة، ومن ثم منفي وملاحق في الكثير من مراحل حياته.

بعد فشل الثورة السورية تم نفيه إلى الحجاز حيث عمل على محاولة تنظيم قوات عبدالعزيز بن سعود في شكل جيش نظامي. غير أنه نتيجة شك الملك عبدالعزيز، وخوفه من تمرد قبائل الحجاز بدعم من الشريف حسين في الأردن، تم اعتقال العديد من زعماء القبائل المشكوك بولائهم، إضافة للعديد من التجار والقادة العسكرين، وكان من بين المعتقلين القاوقجي. وعلى الرغم من أن التحقيق معه في الحجاز ولاحقاً في الرياض لم يستمر طويلاً، وطلب منه لاحقاً البقاء في السعودية، إلا أنه شعر بأن حياته في خطر، وفضّل المغادرة إلى العراق حيث ظن أن علاقته السابقة بالملك فيصل في دمشق قد تساعده في تأمين مستقبله.


وصل إلى العراق في عام 1932، وبقي هناك حتى عام 1936 عندما انطلقت الثورة الفلسطينية لتبدأ مرحلة جديدة من حياته. فقد تم تعيين القاوقجي قائداً للثورة في فلسطين وذلك للتأكيد على الترابط بين فلسطين وسوريا الكبرى، أي لإعطاء الثورة في فلسطين طابعاً قومياً عربياً، وليس محلياً فلسطينياً. فمشاركة القاوقجي مع قوات من العراق وسوريا وضعت الصراع في فلسطين ضمن إطار حرب الاستقلال ضد القوى الاستعمارية، والتي تهدف لجلاء المستعمر الغربي عن فلسطين. هذه الثورة أجبرت البريطانيين على التفاوض من أجل الانسحاب من فلسطين، في الوقت الذي كان السوريون يفاوضون الفرنسيين في باريس حول مستقبل سوريا.

وصل القاوقجي لفلسطين مع قوة قوامها 200-300 شخص فقط، من العراق وسوريا بشكل أساسي، بينما كانت القوات البريطانية في ذلك الوقت تقدر بحوالي 20 ألفاً. وبعد مناوشات استمرت لعدة أشهر، أجبر على الخروج من فلسطين.

في عام 1936 كان ياسين الهاشمي، وهو قومي عربي، رئيساً للحكومة العراقية ومن الداعمين للثوار الذين يريدون التوجه إلى فلسطين. غير أن انقلاباً عسكرياً قاده حكمت سليمان وبكر صدقي -وحكمت من التركمان، وبكر كردي، وكلاهما لا يميلان للروابط العربية، وإنما يفضلان التركيز على العراق وتعدديته- أوقف أي مساعدة للثورة في فلسطين. وعندما عاد القاوقجي إلى العراق، تم نفيه إلى كركوك ذات الأغلبية التركمانية، والتي غالباً لن يجد فيها مؤيدين لبرنامجه القومي.

لاحقاً عاد القاوقجي للانضمام لحركة المقاومة ضد الإنجليز والفرنسيين، إلا أنه أصيب إصابة بالغة في الطريق من الحدود العراقية إلى منطقة تدمر. تم نقله إلى حلب، ثم إلى اليونان، ومنها إلى برلين لتبدأ مرحلة جديدة من حياته استمرت منذ 1941، إلى سنة 1947. – وهو ما نتناوله في مقال لاحق- .


نُشر هذا المقال للمرة الأولي في معهد العالم للدراسات،في 23 نوفمبر/تشرين الأول،2016