ليس مجرد فقاعة: أحمد قنصوة كما يعرفه فيسبوك منذ 8 سنوات
من صفحته الشخصية على «فيسبوك»، أطل العقيد دكتور مهندس استشاري «أحمد قنصوة» بزيه العسكري، مساء الأربعاء 29 نوفمبر/تشرين الثاني،معلنًا اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.أثار الإعلان حالة من الدهشة والحوار على منصات التواصل الاجتماعي، ليس فقط لأن عسكريًا تجرأ على إعلان ترشحه أمام رئيس عسكري في أجواء غير مشجعة ديمقراطيًا، ولا أن «قنصوة» أطل بإعلانه مرتديًا زيه العسكري، لكن لأن خطابه الثوري المتزن الذي بلغ طوله 22 دقيقة تميّز – على غير المعهود – بلغة سلسة بليغة خالية تقريبًا من الأخطاء اللغوية.
بدأنا التنقيب عن المعلومات عن «قنصوة» بتتبع نشاطه الرقمي، ولما سألنا محركات البحث مثل «جوجل» عنه، لم تجد علينا إلا بخبرين، يفيد أولهما بقيام «قنصوة»برفع دعوى قضائية في سبتمبر/أيلول2015 للمطالبة بحقه في الترشح للانتخابات البرلمانية، وأنه استقال قبل عام ولم تُقبل استقالته، وأنه كان حينها لا يزال برتبة «مقدم».
الخبر الثاني في أبريل/ نيسان 2016، ويفيد بشروعه بمقاضاة الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي»، على خلفية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، التي مُنحت الأخيرة بموجبها السيادة على جزيرتي «تيران وصنافير».
ملاذنا الثاني والأخير كان صفحته الشخصية على فيسبوك، والتي كانت كنزًا معلوماتيًا عندما أجرينا عليها تحليلاً ومعالجة للبيانات الموجودة بها، باستخدام أدوات فيسبوك للبحث، وبعض تقنيات تحليل البيانات.إليكم أهم ما أخبرنا به فيسبوك عن «قنصوة»، وننوه بأنه قبيل الشروع في كتابة هذا التقرير، أُغلقت صفحته ولم نستطع أرشفة إلا 153 صورة تفاعل معها قنصوة على فيسبوك، ومنشور واحد كتبه على صفحته.
أول ما تحصلنا عليه هو أن بداية النشاط على الصفحة يعود لعام 2010، وهذا يضفي مصداقية على حسابه باعتباره حسابًا حقيقيًا فاعلًا، يظهر فيه اهتمام صاحبه باهتمامات عديدة، ابتداءً من وظيفته كمهندس، مرورًا بكونه عسكريًا ينتشر في مجتمع يغلب عليه العسكريون، وصولاً إلى اهتماماته الثقافية وآرائه السياسية.
الهندسة فوق الرتبة العسكرية
أول ما يمكن استنباطه عن اهتمامات «قنصوة» على فيسبوك هو أنه مهندس عقيد وليس عقيدًا مهندسًا، ويتجلى ذلك في أن قرابة 50% من الصفحات التي يتابعها ويتفاعل معها هي صفحات هندسية، معظمها عالمي، يظهر فيها حرصه على متابعة الجديد والتطوير الدائم من قدراته الهندسية.
يظهر كذلك حرصه على الانتشار في دائرة أصدقاء معظمهم مهندسون من خارج المؤسسة العسكرية، والباقي معظمهم مهندسون عسكريون، وقبل ذلك كله الخلفية المعمارية التي اختارها لخطابه.
عندما قدّم قنصوة استقالته كان برتبة «مقدم»، ثم ترقى إلى رتبة «عقيد» ولم يحتف بذلك، ربما لرغبته في دور مختلف في حياة مدنية، لكن مع ذلك فالحقيقة المثبتة في نشاطه الرقمي على فيسبوك هي أنه شديد الاحتفاء والفخر بالجيش المصري كمؤسسة لها تاريخ مشرّف ودور وطني لا يسعه إنكاره، ولا يبدو أن ما ذكره في خطابه من حرص على عدم تفكيك الجيش «تقية» أو خوفًا من بطش المتنفّذين.
توجهاته السياسية
لا نعرف عن «قنصوة» قبل عام 2010 إلا ما حكاه عن نفسه بأنه كان مؤيدًا للإصلاح السياسي، ومتفائلًا بدور الأحزاب المعارضة في التغيير، ابتداءً من النخبة الليبرالية وصولًا إلى الإخوان المسلمين.
جرت العادة أن أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن استقالات أو انشقاقات أو اضطرابات داخل الجيش المصري، أن يكون صاحبها عسكريًا بخلفية إسلامية حتى يثبت العكس، لكن العكس هنا هو الصحيح.حاولنا تنميط شخصية قنصوة لتركيبها في أحد القوالب السياسية المصرية، فلم نجد قالبًا حزبيًا يستوعبه، فلا يبدو على الرجل – في خلال 8 سنوات عرفه فيها فيسبوك – أي انتماء أو اهتمام حزبي بالمعنى التنظيمي، غير أن له ارتباطًا فكريًا وثيقًا بمشروع التغيير الذي أتى به الدكتور «محمد البرادعي» إلى مصر ابتداءً من «الجمعية الوطنية للتغيير» وصولًا إلى أحداث 30 يونيو/حزيران 2013.
إن كان يشيع بين «شباب الثورة» أن «وائل غنيم»، الناشط السياسي المصري، هو أبرز المؤمنين بالبرادعي وذراعه اليمنى ومدير حساباته على منصات التواصل الاجتماعي في مرحلة من المراحل، فما يبدو من نشاط قنصوة على صفحته هو أنه قد يكون الثاني بعد غنيم، وربما كان ليصبح الأول إن أتيحت له الفرصة.
البرادعي هو أكثر شخصية سياسية أيدها قنصوة على صفحته من خلال منشوراته وتفاعلاته مع الصفحات التي تنقل أخباره أو أفكاره أو تصريحاته.قبل الثورة أيد قنصوة «الجمعية الوطنية للتغيير»، وتضامن مع «خالد سعيد»، الشاب الذي أشعل قتله على يد الشرطة شرارة الثورة المصرية في 25 يناير/كانون الثاني 2011، وانتقد سياسات الرئيس المخلوع «محمد حسني مبارك»، بالإعجاب الصامت للمنشورات المنتقدة له، دون توجيه نقد مباشر في منشوراته. اشتعلت الثورة وكان مبتعثًا خارج البلاد، فأعلن انتماءه لها وإيمانه المطلق بمبادئها.
في 2011، عارض «استفتاء مارس»، واحتج لقتل المصريين في «أحداث ماسبيرو»، واحتج للاعتداء على الشبان المحتجين في «أحداث مجلس الوزراء»، وكان مشهد سحل جنود من القوات المسلحة للشابة، التي اشتهرت في أوساط الثوار بـ «ست البنات»، أكثر المشاهد التي عبّر فيها عن غضبه في صفحته، لدرجة أنه قال إنه «محا من حياته» كل من أيد هذا الفعل.
في 2012، احتج على الدستور المصري الجديد، وعارض وصول الإخوان المسلمين لرأس السلطة في الانتخابات الرئاسية، ولم يُبد غضبًا تجاه شخصية على صفحته بقدر الرئيس المعزول «محمد مرسي»، واعتبره أسوأ تجربة مرت على مصر.في 2013، أعلن تأييده لأحداث 30 يونيو/حزيران واعتبارها ثورة، ابتداءً من الاحتشاد الجماهيري في الميادين مرورًا ببيان الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز، وصولاً إلى التأييد المطلق حد التشفي لفض القوات المسلحة والشرطة اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة العسكرية المفرطة، في 14 أغسطس/آب.
قنصوة والمؤسسة العسكرية والإسلاميون
يعتبر تأييد قنصوة المطلق لأحداث 30 يونيو نقطة شاذة يصعب حسم مبرراتها الحقيقية بعقلية الرجل، التي كانت تناقش قضايا الثورة بمنتهى الدقة والعمق والإنسانية استنادًا لأخبار وتحليلات من الصحافة العالمية قبل هذا التاريخ.على مستوى الأحداث، قفز جميع مؤيديها من مركبها الغارق وفي مقدمتهم الدكتور «محمد البرادعي»، وتدهور الحال ونكّل النظام الحاكم بالجميع، ابتداءً من الإخوان المسلمين، ثم الأفراد والأحزاب والتكتلات المحسوبة على الثورة، وصولًا إلى منافسي النظام داخل النظام نفسه وفي مقدمتهم الفريق «أحمد شفيق»، المرشح الرئاسي السابق، ومؤيدوه أيضًا.
لا يُعرف بالتحديد سبب هذا التحول، لكن قد يكون هناك عدة مبررات، أولها أنه شديد الإيمان بمؤسسات الدولة وشديد الاعتزاز تحديدًا بمؤسسة القوات المسلحة، وتجلى ذلك في عدة مواقف أبرزها اعتراضه على زملائه الضباط الذين احتجوا علانية بزيهم العسكري على أحداث ماسبيرو، وتأييده لقرار قصف سلاح الجو المصري مدينة درنة الليبية في فبراير/شباط 2015، رغم سقوط قتلى مدنيين بينهم أطفال، كما أثبتت منظمة العفو الدولية.وربما هي عقدة الأيديولوجيا باعتبار أن قنصوة يُظهر كثيرًا في منشوراته وتفاعلاته على الصفحات الأخرى عداءً أيديولوجيًا صارمًا للإسلاميين، وبالأخص الإخوان المسلمين ومنتجاتهم من «محمد مرسي» في مصر وصولاً إلى «رجب طيب أردوغان» في تركيا. هذه العقدة بارزة في نشاطه الرقمي على مدى السنوات الثماني.
مصادر معلومات قنصوة وإلهامه السياسي
على مستوى المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي، يعتبر «وائل غنيم» مصدر إلهام لقنصوة، ويؤمن بـ «علاء عبد الفتاح» كرمز للثورة وتجسيد لمظلوميتها، ويمثل له «جلال عامر» شغفًا في أدب العامية الساخر والثورة، وتعد صفحته من أكثر الصفحات التي لم يتوقف تفاعله معها أبدًا في حياته وبعد وفاته.صفحة «حركة شباب 6 أبريل» هي أبرز الصفحات التي تفاعل معها، يليها صفحة «كلنا خالد سعيد»، قبل أن تدخل في حالة موت سريري منذ 3 يوليو/تموز 2013.
صفحة أخرى تسمى «مهما خدتني المدن»، كان تفاعله معها ظاهر وبالأخص في عام 2013، وهي صفحة مختصة باستعراض صور ومواقف من مدن مختلفة حول العالم، لكنها في الحقيقة كانت صفحة يديرها بنفسه، وينشر فيها مشاهداته من المدن التي زارها في سفريات ابتعاثه خارج مصر.
لا يتحمس لصحف مثل «اليوم السابع» و«الوطن» كمصادر للأخبار والتحليلات على طريقة العسكريين المصريين، وتعد جريدة «الشروق» المصرية مصدر تحليلاته السياسية الأول، يليها «المصري اليوم»، وهذا يتسق مع كونهما – حتى وقت قريب – وعاءين يستوعبان كتابات النخبة الليبرالية المصرية والشباب اليساري المحسوب على الثورة، قبل أن يُغلق الأفق تمامًا ويتوجه قنصوة إلى مواقع مثل «مدى مصر» كمنبر مهني بارز، وكذلك صفحة «الموقف المصري»، التي تعد من أبرز الصفحات التي تتناول الأحداث الكبرى في مصر.
على مستوى صفحات مشاهير الصحافة المصرية، فهو يتابعهم في صمت ويكتفي في المعظم بتسجيل إعجابه على منشوراتهم دون اشتباك مباشر في التعليقات، ويعد «محمد أبو الغيط» أكثر صحفي مصري تفاعل معه قنصوة، يليه «أحمد سمير» و«تامر أبو عرب» و«أحمد صقر» و«حسام بهجت»، وبدرجة أقل «ماجد عاطف» و«وائل جمال»، ولوحظ له تفاعل بالتعليق مع «حازم حسني»، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.وفي فئة الكتاب المخضرمين، يقرأ لـ «علاء الأسواني» و«فهمي هويدي» و«أحمد عبد ربه» و«مؤمن المحمدي» و«خالد منتصر» و«هويدا طه».
اللغة والقراءة والكتابة
أول ما يمكن استنتاجه بعد وقت قليل من تحليل محتوى صفحته هو أن خطابه البليغ كتبه بنفسه، فهو يتحدث بلغة سليمة منذ بداية نشاطه الرقمي ويربطه عشق باللغة العربية، ويهتم بفنون الأدب اهتمامًا خاصًا، وعلى مستوى قوة الخطاب، فهو كاتب واسع الثقافة.
ما يبدو من حجم الاطلاع والإتقان في مقالاته القليلة (منشوراته) على صفحته هو أنه ربما لو أتيح له مجال أوسع من هذا المنبر الإجباري، لكان من بين المتصدرين في سوق الكتاب المصريين. تمتد هذه الثقافة إلى الإنجليزية التي يتعدى ارتباطه بها طلاقة في الحديث – باعتباره أمضى عدة سنوات في الولايات المتحدة – إلى شغف بالأدب والصحافة أيضًا.
ولأن كل كاتب جيد هو قارئ جيّد بالضرورة، فمن أبرز من يتابعهم قنصوة ويتفاعل معهم في هذا السياق، صفحة «غابرييل غارسيا ماركيز» الروائي والصحفي والناشط السياسي الكولومبي، وكذلك «أنطون تشيخوف»، وهو من كبار الأدباء الروس ومن أفضل كتاب القصص القصيرة في التاريخ، ويشكل «جمال حمدان» الجغرافي المصري فلسفته العروبية والمصرية، ويُعد عمادًا أساسيًا في تشكيل الكثير من قناعاته.
استندنا في التحليل على التفاعل (متابعة – تسجيل إعجاب – تعليق) أكثر من الاعتماد على المنشورات المكتوبة، والتي يمكن أن تخضع للحذف والتعديل أو إعلان مواقف معينة «تقية»، بعكس التفاعل الذي لا يمكن محوه أو توقع تتبعه بسهولة، وتوصلنا إلى تطابق المنشورات مع التفاعلات مع ما جاء في نص الخطاب.
توصلنا في الأخير إلى أن الخطاب «الانتحاري» الذي نشره قنصوة ويعرف عواقبه على ما يبدو، ليس خطابًا انتخابيًا على الإطلاق، ولا يتعدى كونه رسالة لـ «رفاق الثورة»، وهي شريحة قد يعلم قنصوة أنها لا تمثل أي وزن انتخابي بميزان الواقع السياسي المصري.