كولن: لباس الدعوة وقفاز العمالة
كان انتصار الأتراك في حرب الاستقلال رسالة دعم معنوية لعموم المناطق الخاضعة تحت سلطان الإنجليز؛ ما حدا الحلفاء للتدخل سريعًا لتأطير هذا الانتصار ضمن حدود ما يُرسم للعالم أعقاب الحرب العالمية الأولى؛ إذ من غير المسموح به أن تخرج تجربة عن السيطرة بما قد يهدد العالم الجديد.
كما كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران أواخر السبعينيات رسالة دعم معنوي لعموم الحركات الإسلامية في العالم العربي، الخاضعة لسلطان دول صنعت بعناية على أعين المخابرات الإنجليزية والأمريكية، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ بما يحافظ أيضًا على توازن العالم وفق الرؤية الجديدة التي رسم عليها آنذاك؛ ما دق جرس الإنذار لدى اللاعبين الأساسيين في العالم لئلا يفتح الباب على مصراعيه أمام ثورات مشابهة.
عنصر جديد يضاف على معطيات اللعبة وهو الحاجة لبعد ديني عقدي في الحرب الباردة مع أهم عدو للنظام العالمي آنذاك؛ الشيوعية.
يمكننا افتراض أن هذه المعطيات السابقة هي التي رسمت شكل العالم الإسلامي منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومع تضارب المصادر وصعوبة التحقق من شيء أو القطع به، فلندع هذه المعطيات الآن علّنا نحتاجها لاحقًا.
الفترة بين كتابتي للمقال الأول من هذه السلسلة وهذا المقال تقترب من أسبوعين، اجتهدت فيهما أن أطالع ما كتب عن جماعة الخدمة من وجهة نظر الداعين لها، مما نشرته دور النشر التابعة بشكل ما للجماعة باللغة العربية، إذ يفترض أن تكون هذه هي المصادر الأقرب التي تعرض رؤية الجماعة ومذهبهم الفكري.
في البداية أحب أن أقول إن ظهور الجماعات الفكرية ذات المشاريع السياسية قديم ومألوف في المشرق الإسلامي وليس بغريب عنه، بل ربما أراه من سمات المجتمع الشرقي المتممة لطبيعته. وإذا كانت العلاقات الاجتماعية في المشرق قبلية في معظمها، فإنه منذ ظهر صراع سياسي في المشرق وتمايزت الفرق على أسس «فكرية / عقدية»، فالدافع لتشكل هذه الجماعات قد ظهر، ثم تطورا وتطورت يومًا بعد يوم.
لذا، لا يمكننا قراءة الجماعات في المشرق بأدوات علم الاجتماع الغربي؛ إذ يختلف تعريف الجماعات وأهدافها ودوافع ظهورها عند علماء الاجتماع الحديث عنها في عالمنا الشرقي.
وربما مثّل هذا الاختلاف نقطة الضعف في أغلب الدراسات الأوروبية للحركات الإسلامية، بل وانعكس بعد ذلك على هذه الحركات نفسها، والتي تعاملت مع «نفسها» وفق الرؤية الأوروبية للمجتمعات وللجماعات بشكل عام ولأنفسها بشكل خاص.
جاءت القراءة الأوروبية للجماعات الإسلامية الشرقية كلها مختزلة في اعتبارها رد فعل للتحديث الذي يستهدف مقاربة العالم القديم بالعالم الحديث للحفاظ على اتزانه، وبالتالي فهي حركات تقليدية محافظة بالضرورة، وهي أيضًا تعبيرية شعاراتية، ثم هي حركات «صدامية، انقلابية».
نحن الآن أمام عنصر هام في تشكيل وعي جماعة الخدمة، وباعتبار أننا نحيّد عنصر التبعية ونفترض أنها حركة «ذاتية» انطلقت في المجتمع التركي المسلم، في الظرف الذي سبق وأشرنا له باختصار، وباعتبارها أحد التجليات العملية للفكر النورسي، وبدأت خطوطها الخاصة تتشكل في أعقاب انقلاب 1980.
لقد قام الفكر التركي الحديث منذ عهد أتاتورك على التخلي بسهولة وسرعة عن كل ما يعيق عملية الاندماج التركي مع العالم الجديد، ومنذ أطلعه عصمت اينونو موفده في لوزان على تعثر المفاوضات، وأن السبب «هو ما ندين به؛ إذ إن المفاوضين قرروا بشأن بلغاريا أسرع مما قرروا في شأننا رغم تشابه ظروفنا معهم»، والنظرة للإسلام أخذت منحاها الذي نعرفه.
تأسست حركة كولن وفق تصريحات عديدة لمؤسسها على التماثل التام مع مواقف الحكومة التركية في زمانها، فحسبما يرى لا يمكن أن تقوم جماعة في دولة، وهي تعادي / تغاير معتقدات رئاستها ووزارة خارجيتها. وبالتالي فإن النسخة الدينية التي ستقدمها الجماعة، ينبغي من الناحية النظرية ألا تخرج عن الإطار الرسمي للدين التركي / للرؤية الأوروبية للدين.
مثلت الجماعة في شكلها نمطًا مختلفًا للجماعات الإسلامية المعاصرة، فلم تظهر في الفئات الاجتماعية الدنيا، ولم تظهر متصادمة مع الهوية الحديثة للدولة أو معتقداتها، كما لم تظهر منعزلة شعوريًا عن محيطها الاجتماعي تشعر بغربتها عنه، ولم تظهر أيضًا حاملة أيديولوجيا خاصة، بل ظهرت كمحاولة للمزج بين هذه الدولة الحديثة وبين عصر النبوية الذي اعتبرته عصر السعادة والمثال النموذجي الذي ينبغي استلهامه.
استلهام عصر السعادة عند كولن لا يعني الرجوع إلى الوراء بل تقديم نسخة حديثة للإسلام تستلهم القيم الصافية التي قام عليها.
كان النظام الرسمي للدولة قائمًا على الإكراه الذي قتل روح المبادرة لدى أفراد الشعب التركي، ثم جاءت الجماعة تعلي قيمة الخدمة والبذل، وتفتح الباب بوعظ يجد طريقه للقلوب أمام النفوس التي فقدت تلقائيتها من ثقل يد الدولة والحزب الواحد، ومن ثقل يد المؤسسة العسكرية التي أجهضت تجربتين في عقدين من الزمان.
رأى كولن أن الصراع بين الدين والعلم في أوروبا صراع محدود بفترة تاريخية، وأنه لم يكن موجودًا مثلًا في الحياة اليونانية ولا المصرية القديمة، بل يرى أيضًا أن حدة الصراع خفتت قليلاً مع ديكارت وسبينوزا، حيث قدم ديكارت فلسفته حول الثنائية، فاختص العلم الساحة الطبيعية واختص الدين بالنواحي الروحية والأخروية.
يرى كولن أن أول ما انتقده القرآن هو الظن والتخمين والتقليد والشعارات الجامدة: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا».
لا يتسع المجال بالطبع هنا لتتبع قراءة جولن للدين وللحياة، وهذه الرؤية موزعة في كتاباته المنشورة بالعديد من اللغات ومنها العربية تقوم عليها كما أسلفنا دور نشر تابعة للجماعة.
بعد ما سبق، لا يظهر في مسار الجماعة نقطة تمهد للصراع الحالي، فالجماعة في ظاهرها متسقة مع رؤية الدولة التركية وتوجهها، متصالحة مع ثقافة المجتمع ومتماهية معه على حساب مظاهر التدين أحيانًا.
لكن ألا يصح أن تكون هذه النقطة في ذاتها تستدعي التوقف؟، فالدولة التركية التي كانت الجماعة متسقة معها في سنواتها الأولى اختلفت تمامًا مع توجهات العدالة والتنمية، التي قد تبدو وفق رؤية الجماعة مشابهة للجماعات الإسلامية الراديكالية التي – ووفق الرؤية الغربية التي أسلفناها – يخشى منها على النظام العالمي، وتظل الكتابات الاجتماعية الغربية رافضة لهذا النمط من الجماعات لأسباب ربما فصلناها في مقال آخر.
إن قراءة الجماعة لا يصح أن تقف عند حدود نصوصها السابقة المنشورة في كتابات بامتداد سنوات عمرها، بل بوضع موافقها السياسية في السنوات الأخيرة على ميزان القياس.
لنعد إذن إلى مدينة التأسيس؛ «أزمير».
مثلت أزمير درة المدن الأتاتوركية باعتبارها المدينة الوحيدة التي حررها مصطفى كمال بنفسه بعد حرب سقاريا، إحدى أهم معارك حرب الاستقلال، وتزوج من هذه المدينة سيدة، من عائلة أرستقراطية عثمانية، تربت على النمط الحديث «الأوروبي» الشائع في تلك الفترة.
كانت أزمير مدينة ساحلية، وقد اكتسبت المدن الساحلية في أواخر العهد العثماني أهمية خاصة أكبر من مدن الداخل، وكانت سرعة التحديث فيها أكبر بكثير من سواها؛ نظرًا لطبيعة سكانها وطبيعة الوافدين إليها.
ربما كان وجود كولن في الأناضول الإسلامي بطبعه، أو إسطنبول العامرة بعلمائها وبإرثها الإسلامي مبررًا ومنطقيًا. أما وجوده في أزمير وفق ما بيّنا من طبيعة المدينة فيمثل سؤالاً هامًا يبحث عن إجابة، خصوصًا إذا أضفنا كون نشاط الجماعة يزدهر في أوقات منع الدولة للمشاريع الإسلامية. ومن المألوف في تركيا في أعقاب الانقلابات أن تتزايد راديكالية النظام في محاولة لضبط الأمور التي انفلتت في فترة ما قبل الانقلاب بحسب تقدير الدولة، إلا إذا افترضنا اختيار مكان يخلو من منافسة كبيرة لعلماء آخرين، ولبعد المدينة عن الاحتكاك المباشر بالحركات الإسلامية التقليدية!.
يقودنا هذا الكلام إلى سؤال هام؛ عن إمكانية عمالة التيارات الفكرية وعدم صفاء تبعيتها أو انتمائها لمجتمعها، وعن إمكانية اختراقها والنفاذ إلى «المحرك الفعلي» لعقلها، خصوصًا إذا استدعينا تجارب أخرى لحركات إسلامية كانت نتائج أفعالها تصب في عكس المصلحة العامة للمجتمع بشكل عام، وهو السؤال البديهي المطروح من بداية الصراع، وربما كان السؤال الأسهل أيضًا والقادر على تفسير بعض المشهد إلا أنه لن يكون قادرًا على تفسيره كاملًا.
من قديم لعبت المخابرات الإنجليزية على دعم فرق دينية على حساب التيار الديني العام؛ إضعافًا للتيار العام، وامتلاكًا لخيول يمكنها اللعب بها في صراعها على الاستحواذ على ما بأيديها من بلاد، وربما تظهر الهند نموذجًا مثاليًا لذلك يستحق الدراسة.
ما يعني أنه ليس هناك ما يمنع نظريًا من تحقق ذلك، كما أنه ليس هناك ما يؤكده، وليس لنا إلا محاولة التفسير على ألا نتوقف عن البحث.
أما العداوة المبالغ فيها للتيار واجتثاثه بالشكل الذي يظهر به، فلعلّي أقرؤها في إطار صناعة العدو والانتصار عليه؛ في محاولة للعبور إلى دولة جديدة تحاول أن تجد لها موطأ قدم في عالم سيتغير شكله في السنوات القادمة ولن يعود كما كان. وحيث أن استعداء ميراث أتاتورك مستحيل، رغم أنه مثّل في مراحل هامة من تاريخ تركيا حجر العثرة الحقيقية، فلعل هذه العداوة تجمع الأمة التركية حول ذئب جديد يعبر بها الوادي إلى مراع أوسع وأكبر.
كل هذا يجعلنا معنيين في الحقيقة لا بالحكم على تيار أو غيره، بل بإعادة قراءة مجتمعنا الشرقي وفق الحال التي وصل إليها، ووفق أسس بنائه وتغيراته، كما يجعلنا معنيين بقراءة أدق لتاريخ الأفكار وتطورها / تبدلها، فلم تعد أسئلة القرن الماضي التي انطلقت منها الحركات الإسلامية التقليدية مناسبة أو قادرة على التفسير، ولم تعد عداوات القرن الماضي قادرة على جلب نصر؛ أي نصر. اختلف الإنسان، وتغيرت أسئلته، فلولا نفرَ من كل فرقة منهم طائفة «ليتفقهوا» في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.