حفل «Coldplay» أو حينما صنعنا زلزالًا حقيقيًّا
العاشرة والنصف مساءً، الثاني عشر من يوليو 2022، رجل ألماني يستلقي في سريره في شقته بحي شارلوتنبورج بعد يوم عمل طويل وشاق، فجأة يهتز البيت بشكل عنيف، بكل ما فيه، تستمر الهزة خمس دقائق تقريبًا، يقفز الرجل مفزوعًا ويكتب على موقع تويتر «البيت يهتز بعنف، هل يحدث زلزال في برلين؟». اليوم هو الثلاثاء، حيث لا يحدث شيء عادة، الجميع ينام مبكرًا ليصحو مبكرًا ليوم عمل قادم.
تأتي الإجابة من حساب يحمل اسم «Erdbeben Deutschland»، وهو الحساب الخاص بتتبع الزلازل في كل أنحاء ألمانيا، يؤكد الحساب ما شعر به هذا المواطن الألماني. بالفعل حدثت هزة أرضية في هذا التوقيت في برلين، زلزال يبلغ قوته 1.5 على مقياس الزلازل، هذه الهزة الأرضية، هذا الزلزال الصغير مركزه هو الاستاد الأوليمبي في برلين، لم يشهد اليوم نهائي كأس العالم أو دوري أبطال أوروبا، لم يهتز العالم بسبب هدف في الدقيقة تسعين، لكنه شهد حفل فريق «Coldplay»، الذي قرر، وبشكل مخطط له، أن يتسبب هو وجماهيره في زلزال، شاركت شخصيًّا في هذا، وهنا أنقل لكم الحكاية.
من «إي تي» إلى «كولد بلاي»
لكل حفل كبير مجموعة من الأداءات الموسيقية التي تمهد للحدث الكبير في الليلة، قبل دخول كولد بلاي صعدت للمسرح المغنية والممثلة الألمانية «ألي نويمان» وقدمت أغانيها لمدة ساعة، موسيقى راقصة ألمانية تحاول قدر الإمكان أن تكون خفيفة الظل، ثم الأمريكية الشهيرة «.H.E.R» والتي قدمت أغاني وعزفًا لمدة تجاوزت الساعة. صوت قوي ومهارة مبهرة في عزف الإليكتريك جيتار، برغم شهرتها الحالية فإنها تمتلك موهبة قد تجعلها أهم وأكبر بكثير في المستقبل. H.E.R. لديها ملايين المتابعين على يوتيوب وسبوتيفاي، لكننا لسنا هنا اليوم من أجلها.
لنعُد ثلاث ساعات للوراء، الساعة الآن الخامسة والنصف عصرًا، بوابات استاد برلين الأوليمبي ممتلئة عن آخرها، طوابير تمتد لمئات الأمتار، شيء قد لا يصدقه من عاش في مصر -وحاول دخول استادات مصرية- أن هذا العدد سوف يصبح بالكامل خلال نصف ساعة تقريبًا داخل الاستاد. البوابات إلكترونية والتفتيش بسيط تمامًا ولمرة واحدة، الجميع في الداخل، جمهور أغلبه من الشباب، بألوان مختلفة، أعراق وأجناس مختلفة، شيء ربما لا يسعد من بنوا هذا الاستاد في الأصل لأولمبياد عام 1936، أو كما يعرفها البعض باسم أولمبياد النازية.
الجميع يتسلم أساور بيضاء، مكتوب عليها أنها من أصل نباتي ويمكن تحللها، ليست من البلاستيك الضار للكوكب، الجميع في مزاج جيد، الكل يبحث عن مكانه. بعد ساعتين ونصف يبدأ التجهيز لدخول الفريق الذي ينتظره الجميع، كولد بلاي.
لم يصعدوا من فتحة في أرضية المسرح، لم يقفزوا من السماء، لكنهم خرجوا من ممر وسط الجمهور، تتابعهم الكاميرا وهم يتبادلون التحية مع الجمهور، وتصاحبهم موسيقى فيلم إي تي، تيمة الطيران، التي صاحبت طيران الطفل إليوت والكائن الفضائي إي تي على متن دراجة، كولد بلاي (كريس مارتن، ويل شامبيون، جاي بيريمان وجوني باكلاند) قريبون جدًّا لجمهورهم، وهو ما يخبرنا الكثير عنهم وعن تلك الحفلة.
عالم مليء بالألوان
كريس مارتن يتحرك يمنة ويسرة على خشبة المسرح التي تمتد وسط الجمهور، يشير بيده لتضيء الأساور البيضاء في يد الجمهور مع كل حركة في كل اتجاه مختلف، كيف يتحكم صناع الحفل في إضاءة الأساور في يد كل مجموعة من الجماهير في كل مدرج على حدة؟ لا أعرف، ولكن التأثير مبهج للغاية.
ليست الأساور هي ما يضيء فحسب، كل شيء في هذا العالم ملون، المسرح، دراجات هوائية داخل أرض الاستاد، طواحين هوائية داخل الاستاد على أبراج صغيرة، أسطح مطاطية بحواف مضيئة مجهزة لقفز الجماهير، بلالين ملونة ضخمة، وحينما تغيب الشمس ألعاب نارية تضيء الليل، الأمر الذي يجب التنويه إليه أنه وبحسب الفريق فكل الطاقة المولدة لهذا المهرجان الضخم هي طاقة نظيفة، مولدة بالرياح والخلايا الشمسية وحتى طاقة الحركة من تلك الدراجات وتلك الأسطح الراقصة المطاطية.
موسيقى الأزمنة والمدارات
كولدبلاي يهتمون بجمهورهم، يحاول كريس مارتن ولمرات متعددة أن يسأل إذا كان كل شيء على ما يرام، توقفت الحفلة مرة لأنه رأى أحد عربات الإسعاف تتحرك، ثم استكلمها حينما تأكد أن كل الجماهير على أفضل حال، شكر كريس مارتن الجمهور أكثر من مرة على حضوره، تحدث بشكل مباشر للجمهور في كل أرجاء الاستاد، أخبر الجماهير في الصفوف الأخيرة أنه يرى ضوءهم من فوق خشبة المسرح، وأنه ممتن لحضورهم في يوم عمل شاق، حاول كريس كذلك التحدث بالألمانية، شكر الألمان وحاول أن يغني أغنية بالألمانية، تحركت الفرقة بأكملها أكثر من مرة لتصبح أقرب للجماهير في مختلف الاتجاهات.
العلاقة الخاصة مع الجمهور كذلك جعلت كولدبلاي يؤدون أغاني من أزمنة مختلفة، بدءًا من أغنية مثل «Yellow» التي صدرت منذ 22 عامًا وصولًا لأحدث أغانيهم التي صدرت العام الماضي، كل ما تريد أن تسمعه منهم قد غنوه تقريبًا، لم يصرخ أحدهم كما فعل مغنٍّ مصري حينما طالبه الجمهور بغناء أغانيه القديمة، يعرف كريس مارتن كيف يربت على كتف محبّيه، وهو يفعل ذلك بشكل أصيل للغاية.
هذه الأغنية بالأخص لها ذكريات لا تُنسى، معي – وتمامًا كما تقول إحدى الشخصيات في المسلسل المصري (ريفو) للكاتب محمد ناير – فإن الجميع يبحث عن آلة الزمن، لكن الأغاني في حقيقة الأمر هي آلات الزمن التي تمكننا في بعض الأحيان من زيارة الماضي والعودة للحظات عشناها من قبل بكل ما فيها.
سماء مليئة بالنجوم – حينما صنعنا الزلزال
بعد مرور ساعتين من الأداء الحي للغاية لكولدبلاي، أتت لحظة «Sky Full of Stars»، الأغنية التي يصحبها الصخب الأكبر على الإطلاق في حفلات الفريق الذي قد يكون هو الأنجح في القرن 21 على مستوى العالم، بعد غناء الجزء الأول من الأغنية الذي صاحبه صخب هائل من الجمهور، أتت لحظة النقلة الموسيقية التي تتحول معها الموسيقى لرتم أعلى وأسرع، هنا توقفت الفرقة فجأة، وقرر كريس مارتن أن يخاطب الجمهور لما يقارب الدقيقتين، شكرهم مرة أخرى على حضورهم وسط الوباء والحرب والغلاء وكل المصاعب اليومية البسيطة أيضًا، وطلب منهم أن يستمتعوا بالدقائق الأربعة القادمة بشكل مختلف، بلا هواتف أو كاميرات أو أي آلات يحملونها، فقط ليحاولوا أن ينسوا همومهم لتلك الدقائق وأن يحظوا بوقت جيد مع الجميع.
أصدق تمامًا أن على الأقل 95% من السبعين ألف متفرج قد توقفوا عن التصوير في تلك اللحظة. قبل أن تبدأ الفرقة في عزف الأغنية مرة أخرى، أخبرنا كريس وبشكل واضح للغاية أن الحفلة في الليلة الماضية، وفي لحظة شبيهة قد قاربت من تسجيل زلزال حقيقي في برلين.
بعد خمس دقائق كان الجميع يشعر بأن الأرض والمدرجات لا زالت تهتز حتى بعد أن توقف الجميع عن القفز، على بعد كيلومترات كان مقياس الزلازل لا يزال يشير لمعدل 1.5، بعد ثوانٍ هدأت المدرجات وسكن الجميع وتوقفت الأرض عن الاهتزاز، تسبب هذا الحفل بالفعل في زلزال حقيقي، بعد يوم غرد الحساب المسئول عن قياس الزلازل في ألمانيا قائلًا: «ربما من الأفضل أن أتوقف عن قياس الزلازل التي تحدث قرب حفلات كولدبلاي، لا أحد يعلم كيف يمكن لهذا أن ينتهي في يومٍ ما».
الفيديو أعلاه من هذه الحفلة، من صوّره كان من القلائل الذين احتفظوا بهواتفهم، يمكنك الشعور بالزلزال بوضوح. الأكيد أن زلزال بمقياس 1.5 لن يمكنه إحداث ضرر بالمباني، وبالتالي بحياة البشر، لكن الشاهد هنا أن هناك مجموعة من البشر قد احتفلت لدقائق وكما نقول بالعامية المصرية «كسّروا الدنيا» وهو بالمناسبة مصطلح يُقال بنفس المعنى «lass es krachen» بالألمانية.
بعد Sky Full of Stars والتي اعتقد البعض أنها آخر أغاني الحفل، وبعد شكر الفرقة للجمهور بلغات مختلفة، وبعد اختفائهم كما يفعل معظم النجوم فجأة خلف الستار، استمر الجمهور في الغناء، وعادت فرقة كولدبلاي للغناء لساعة أخرى إضافية، غنوا «Fix You» كما تمنى الجميع في الختام، وغادروا كما بدأوا مع أضواء مفتوحة من خلال مرور على أرض الاستاد وسط الجمهور، تبادلوا التحية معهم على مهل، وغادروا بعد أن حاولوا قدر الإمكان أن يثبتوا أنهم هنا ليشاركوا مستمعيهم لحظات لطيفة، كأصدقاء حفل وليس كنجوم فوق المسرح ينظرون لجمهورهم من أعلى.
منذ 10 سنوات كتبت أن العالم يبدو للحظات على ما يرام حينما يغني كريس مارتن لجمهوره في حفلات كولدبلاي ويسألهم «هل الجميع بخير؟ – ?Everybody Ok»، في اللحظات التي رأيناها في برلين، يمكنني أن أؤكد ذلك.