فيلم «Cold War»: بافليكوفسكي وجماليات الحد الأدني
قصة حب عاطفية بين مؤلف موسيقي ومغنية، يجتمعان ليفترقا، ثم يدفعهما الحب لمعاودة اللقاء، وتتكرر الكرة على مدار ما يزيد على عشر سنوات، من نهايات الأربعينيات إلى بدايات الستينيات، وإبان تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. يتداول العاشقان اللقاءات ما بين وارسو، وموسكو، وباريس، كل ذلك على خلفية موسيقى الفولكلور التي ﻻ تكاد تبارح شريط الصوت طوال الفيلم، من الألحان التقليدية لسكان الجبال، إلى ترانيم العهد السوفيتي، ومن الأغاني الريفية، إلى القطع الكلاسيكية.
«حرب باردة Cold War» هو أحدث أفلام المخرج البولندي «بافل بافليكوفسكي»، بعد عمله الأبرز والأهم «Ida»، الحائز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية لعام 2015، فضلًا عن عشرات الجوائز المرموقة الأخرى. يشارك فيلم «Cold War» في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي في دورته الثانية والمنعقدة في الفترة من 20 إلى 28 سبتمبر الجاري. كان الفيلم قد رشح للسعفة الذهبية، كما فاز بجائزة الإخراج من مهرجان كان.
يمتلك بافليكوفسكي أسلوبًا سينمائيًا خاصًا بدأت ملامحه تتضح مع فيلم Ida، وترسخت بشكل كبير في «Cold War»، في هذا التقرير نحاول الوقوف على أبرز ملامح هذا الأسلوب.
التكوين البصري
يمكننا أن نتلمس عددًا من القواسم المشتركة التي تجمع بين فيلمي Cold War، وIda على مستوى التكوين البصري، منها استخدام الشكل التقليدي للنسبة الباعية Aspect Ratio، وتبلغ 4:3 والتي تكون فيها أبعاد الصورة أقرب إلى الشكل المربع، وأضيق من أبعاد «سينما سكوب» الأكثر انتشارًا في الوقت الحالي. وكذلك الاستغناء عن الألوان ليخرج الفيلم في شكل تقليدي أيضًا باللونين الأبيض والأسود.
يمكننا أن نرى أن هناك ميلًا واضحًا لتقديم صورة ذات طراز قديم تنتمي إلى منتصف القرن العشرين، وهو زمن الأحداث في الفيلمين، سواء من خلال النسبة الباعية والتي يطلق عليها «نسبة الأكاديمية» -في إشارة إلى أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة المانحة لجائزة الأوسكار- وهي النسبة التي شاع استخدامها فيما بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن العشرين، أو من خلال التصوير بالألوان التقليدية (الأبيض والأسود) والحفاظ على درجات التباين الشديدة من خلال التوظيف الفني للإضاءة والظلال. غير أن الأمر ﻻ يتوقف عند فكرة المحاكاة البسيطة لطراز قديم ينتمي إلى السياق الزمني للفيلم، بل يتجاوزه إلى التوظيف الفني والتعبيري للتكوين البصري.
اقرأ أيضا: فيلم Ida: عن معني الحياة، وعن الحياة بلا معني
في فيلم Ida تخرج «آنا» من عالمها الصغير في الدير المعزول إلى العالم الأوسع الذي ﻻ تعرفه، فتحاصرها حيرتها الوجودية، وأسئلتها عن ذاتها، وعن أهلها، وعن الإله وعن مآلات الحياة. أما في Cold War ينجح فيكتور في مشروعه لإعادة إحياء التراث الشعبي، وتجمعه علاقة عاطفية سرية بزولا، تلك العلاقة التي ﻻ تجد حريتها إلا في المناطق النائية وسط الطبيعة، غير أنه يجد نفسه محاصرًا بالسياق السياسي الذي تعيشه بولندا في ظل الحرب الباردة، ليتم إبعاده عن مشروعه، وتنقطع السبل بينه وبين زولا. أبطال الفيلمين محاصرون داخليًا وخارجيًا، ولهذا كان اختيار بافليكوفسكي لأبعاد 4:3 التي تبدو معها الشخصيات حبيسة ذلك الصندوق/الكادر الضيق.
في Cold War يواصل بافليكوفسكي تعاونه مع مدير التصوير البولندي «لوكاسز زال»، الذي يحقق الفيلم بالألوان التقليدية (الأبيض والأسود)، وكما أشرنا أن الأمر لم يقتصر على محاكاة السياق الزمني، إذ برع «زال» في توظيف الإضاءة واستغلال التباين والظلال بشكل فني يؤكد على محورية قصة الحب بين فيكتور وزولا. بافليكوفسكي هنا ﻻ يسعى إلى تقديم حالة من النوستاليجيا وإضفاء الطابع الرومانسي على زمن أقدم، ولكنه بالأحرى يقدم قصة حب في سياق تاريخي محدد ﻻ يعدو كونه خلفية بورتريه فني جميل.
مستويات المجال
«المجال Field»، هو الحيز الذي تحده العدسة، وهو ما تتم رؤيته على الشاشة، و«عمق المجال Depth of Field» هو المنطقة التي تقع بين الأشياء المعروضة الأكثر قربًا والأكثر بعدًا.[1] أما كل ما هو خارج المعروض على الشاشة في الامتداد الطبيعي للمجال فيطلق عليه «خارج المجال».
عند بافليكوفسكي يتعاظم دور «خارج المجال» في عملية التلقي، إذ إنه يجبر المشاهد على استكمال الصورة واستحضار ما غاب منها عن الشاشة. في أحد المشاهد يستلقي فيكتور على السرير، يملأ الضوء صفحة وجهه من مصباح جانبي ﻻ يراه المشاهد (خارج المجال)، يمد يده إلى المصباح، ويُسمع صوت مفتاح كهربائي يجرى إغلاقه، فينطفئ الضوء.
في أحد مشاهد فيلم Ida، تجلس «الخالة واندا» في حانة، تشير إلى النادل أن يأتيها بكأس جديدة، وتشير إلى الخلف وتقول: «وكأس أخرى لهذا الرجل». ﻻ يرى المُشاهد الرجل المقصود، فهو خارج المجال، لكنه يستطيع أن يستكمل الصورة بخياله.
يميل بافليكوفسكي إلى الاقتصاد واستخدام الحد الأدنى من أدواته التعبيرية، أو ما يطلق عليه بالإنجليزية «Minimalist». حركة الكاميرا في حدها الأدنى، والقطعات المونتاجية كذلك، ففي مشهد الخالة واندا مثلًا، يكتفي بإشارتها إلى الرجل الجالس خلفها، ﻻ حاجة لحركة الكاميرا لدخول هذا الرجل إلى المجال، وبالطبع لا حاجة إلى القطع المونتاجي.
كذلك الأمر بالنسبة للإضاءة، فمن النادر أن يلجأ بافليكوفسكي إلى الإضاءة الخارجية، فكل مصادر الضوء هي مصادر أصيلة في المجال، سواء داخله أو خارجه. في أحد أجمل المشاهد بفيلم Cold War يصطحب فيكتور زوﻻ في جولة ليلة في باريس، يعتمد مدير التصوير لوكاسز زال على الإضاءة الطبيعية للمكان، وﻻ يحاول التدخل للتقليل من حدة العتمة التي يكثفها تباين الأبيض والأسود، ليخرج المشهد أكثر شاعرية، وأكثر قدرة على التعبير عن طبيعة العلاقة بين البطلين ولقاءاتهما النادرة التي غلفتها السرية.
أما أقصى درجات الحد الأدني فتظهر جلية في شريط الصوت، إذ يستغنى بافليكوفسكي بشكل كامل عن الموسيقى التصويرية، ويستبدلها بالموسيقى الداخلية ذات الأصل الواضح في المجال. في فيلم Ida تستمع الخالة واندا إلى المقطوعات الكلاسيكية على مشغل للأسطوانات، أو يكون المصدر هو مذياع السيارة، أو تكون الموسيقى حية تعزفها فرقة موسيقية. أما في فيلم Cold War الذي يعج بألوان الموسيقى الفولكلورية، فكانت الموسيقى حية في الغالبية العظمي من المشاهد، سواء من خلال اختبارات الأداء في الفصل الأول من الفيلم، أو من خلال العروض الجماعية للفرقة، أو عروض زوﻻ الفردية، أو حتى من خلال عبور عربة محملة بالعمال يصيحون بإحدى الأغنيات.
استخدام المؤثرات الصوتية يكون أيضًا في الحدود الدنيا، فقد تستخدم كإرهاصة لما هو خارج المجال، كأن نسمع صوت الباب يفتح ثم يدخل مدير الفرقة إلى المجال لملاقاة فيكتور، ﻻ حاجة هنا لحركة الكاميرا، وﻻ لقطع مونتاجي، فقط الاستخدام المقتصد للمؤثر الصوتي سيفي بالغرض ويساعد المشاهد على استحضار ما غاب عنه خارج المجال. وقد تستخدم المؤثرات للفت الانتباه لعمق المجال، خاصة وإن كان خارج التركيز «Out of Focus»، في مشاهد اختبارات الأداء التي تعج بأصحاب المواهب، في إحدى اللقطات تظهر «زوﻻ» في مقدمة المجال، بينما نرى في عمقه شابًا صغيرًا يؤدي حركات راقصة خارج التركيز، وفي شريط الصوت نسمع مؤثرًا صوتيًا لحركة أقدام الشاب الراقصة.
يعتمد بافليكوفسكي على مستويات متعددة للمجال من خلال التوظيف الذكي والمعبر لكل ما هو خارج المجال، ومن خلال النزعة إلى الاقتصاد والاعتماد على الحد الأدنى، وهي من أهم السمات المميزة لأسلوبه الذي بدأ يتشكل وتترسخ ملامحه مع فيلم Ida، ومن بعده فيلمه الأحدث Cold War. الفيلم هو أحد أشرس المتنافسين في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة، ومن أكثر الأفلام المنتظرة في موسم الجوائز لهذا العام، ومن المتوقع أن يكون أحد المرشحين لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية.
- دومينيك فيلان، الكادراج السينمائي، ترجمة :شحات صادق، أكادمية الفنون وحدة أصدارات السينما، القاهرة 1998، ص223.