كتاب «العلاج المعرفي»: إلى الواقفين على عتبات المرض النفسي
حينما اكُتشفت الطباعة، أصبح من الممكن أن يؤثر شخص في آخر من دون أن يكونا قد تقابلا أو عاشا في نفس المكان، أو حتى في نفس العصر. الآن، في عصر شبكات التواصل وفضاء المعلومات، تلاشت الحواجز الزمانية والمكانية من عالم المعلومات، يستطيع المراهق في الهند– اليوم- معرفة الأخبار في الولايات المتحدة بعد حدوثها بثوانٍ.
ولكن الأمر لا يقتصر على الأخبار، بل الفلسفات، والأفكار، والمؤامرات، والحروب، والمآسي، والخراب والدمار. لقد انفتح الإنسان فجأة على طوفان من المُدخلات التي لا تكتفي بعرض نفسها أمامه في هدوء لينتقي منها بإرادته وحسب طاقته، بل إنها لتفرض نفسها عليه فرضًا، وتُجبِره على تجرعها إجبارًا، الأمر الذي ازدادت له نفس الإنسان أنينًا فوق الأنين، وازدادت حاجته لصيانة نفسه وفهمها وعلاجها.
وقد جاء العلاج المعرفي ليرتقي بفاعلية العلاج النفسي لدرجة فاقت كل مدارس العلاج النفسي الأخرى، بما في ذلك مدرسة التحليل النفسي الشهيرة لمؤسِّسها «سيجموند فرويد»، بعد سنين من تفردها بالصدارة. والكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو أحد أهم الكتب في العلاج المعرفي، وهو «العلاج المعرفي: الأسس والأبعاد».
الكاتبة
الأمريكية «جوديث بيك»، الابنة والتلميذة النجيبة لـ«آرون بيك»، مؤسس العلاج المعرفي، وقد قدم آرون بيك الكتاب بنفسه، لما رآه فيه من أهمية لا غنى عنها في تعريف المُعالِج بمدرسة العلاج النفسي، وبناء الأساس المتين الذي يُمكنه من الإحاطة بالنموذج المعرفي، والتمكن من أدواته لتحقيق أقصى نجاح في علاج الحالات المختلفة، من العصابات والذهانات والاضطرابات الشخصية، بل وبعض الأمراض العضوية.
منْ سيهتم بهذا الكتاب؟
كما قال مُترجِم هذا الكتاب، طلعت مطر، وهو معالج نفسي، إن هذا كتاب عظيم الفائدة لأي مُعالِج نفسي، لدرجة أوجبت عليه ترجمة الكتاب للعربية.
وتؤمن مدرسة العلاج المعرفي، أن دور المعالج لا يقتصر فقط على علاج المريض، وإنما يتضمن أيضًا تعليم المريض النموذج المعرفي، وتدريبه عليه، حتى يصير المريض قادرًا على استكمال علاجه بنفسه في النهاية، وتفادي أي انتكاسات مستقبلية، الأمر الذي يضم كل منْ يعاني من قلق أو اكتئاب، أو مرض عصبي، أو اضطراب سلوكي أو شخصي لدائرة المهتمين بالكتاب.
أضف إلى ذلك الواقفين على عتبات المرض النفسي، والمهتمين بالقراءة في علم النفس وفهم الجانب النفسي للإنسان، والمهتمين ببناء الشخصيات الخيالية، ككُتّاب الروايات والقصص والسيناريو.
النموذج المعرفي بين الشرح والحوار
مُستخدِمًا العربية في السرد، والعامية المصرية في الحوار، ينقل لنا المترجم، شرح «جوديث بيك» الواضح والمُرتَّب للنموذج المعرفي، والطرق العلاجية، وذلك بلغة سلسة واضحة، خالية من منغصات الترجمات الرديئة، حيث يفهم القارئ كل موضوع بوضوح، ثم يتشرّبه تمامًا بمثال حواري بين المريضة «سالي» ومُعالِجها.
الحوار الذي يضع القارئ مباشرةً في غرفة تُحاكي تمامًا غرفة مُعالِج حقيقي، يُعالج حالة مرضية واقعية، ويخرج القارئ- فضلًا عن فهمه للنموذج المعرفي وطرق العلاج المعرفي- بصورة تفصيلية للجلسات العلاجية التي تحدث في الحقيقة.
الموقف والأفكار التلقائية والمشاعر والسلوك
يهتم العلاج المعرفي في المقام الأول بتكوين مفهوم وتصور عن المريض، باستخدام النموذج المعرفي، ويبدأ النموذج المعرفي بنمذجة تفاعل المريض مع مشاكله، عن طريق عدة عناصر: فهناك «موقف» ما يحدث للمريض، وحين يدركه المريض فإنه يشعر بـ«مشاعر» معينة، ويسلك «سلوكًا» ما.
مثلًا، يمكن أن يكون «الموقف» أن تعرف مريضتنا سالي أن امتحان الاقتصاد قد اقترب، فيُصِيبها هذا بـ«مشاعر» قلق أو حزن، فيجعلها تسلك «سلوكًا» ما، وهو أن تبكي.
بين «الموقف»، وما نتج عنه من «مشاعر» و«سلوك»، عنصر خفي، ألا وهو «الأفكار التلقائية»، وهي ومضات عقلية تومض بسرعة في العقل، من دون أن يلاحظها الإنسان، وتتسبب فيما يشعر به ويسلكه من مشاعر وسلوك.
ويحاول الطبيب أن يجعل سالي تُفتِّش وتعلن عن أفكارها التلقائية حيال المواقف التي أدت لتغير سلبي في مشاعرها وسلوكها، وفي مثالنا هذا كانت الفكرة التلقائية لسالي: «لن أستطيع النجاح في الامتحان».
ولكن، لماذا قفزت هذه الفكرة التلقائية بالذات لسالي، مؤدية إلى «مشاعر» القلق والحزن، و«سلوك» البكاء حيال «موقف» معرفتها بالامتحان، بينما لم يحدث نفس الشيء لزميلاتها اللاتي واجهن «الموقف» نفسه. فلماذا اختلفت الفكرة التلقائية بين سالي وزميلاتها حيال نفس الموقف؟
المعتقدات الجوهرية والأفكار المتوسطة
إن ما يُكَوِّن الفكرة التلقائية في العقل، هو مكوِّن أكثر عمقًا في نفس الإنسان، وهو مكوِّن مختلف بين شخص وآخر، ألا وهو المعتقدات الجوهرية، التي ينبني تبعًا لها مجموعة من المعتقدات الوسيطة، والتي تنبني تبعًا لها الأفكار التلقائية.
وبرغم أن المعالج قد يستطيع علاج مريضه مباشرة بالعمل على تقييم أفكاره التلقائية بالطرق المعرفية المختلفة، ومن ثَمَّ التمرين على الاستجابة لها بشكل أفضل، إلا أنه في جميع الأحوال يحاول تكوين مفهوم كامل عن الشخصية، مُتضمنًا المعتقدات الوسيطة، والمعتقدات الجوهرية، وهذا المفهوم قابل للتعديل والتصويب كل جلسة، ولكن ما المعتقد الجوهري، وما المعتقدات الوسيطة؟
المعتقد الجوهري هو تصور راسخ وعميق لدى المريض، غير مرتبط بموقف بعينه كالأفكار التلقائية، وإنما هو قناعة عميقة تنبثق عنها الأفكار التلقائية الخاصة بالعديد من المواقف، وفي مثالنا هنا، فإن المعتقد الجوهري عند سالي هو «أنا غير كفء».
وكي يستطيع المريض التعايش مع هذا المعتقد الجوهري، فإنه يكون أفكارًا وسيطة وهي تشمل افتراضات مبنية على المعتقد الجوهري، وهي أيضًا عامة غير مختصة بموقف معين، بل تُنتِج الأفكار التلقائية الخاصة بمواقف عديدة. وفي مثالنا هنا، فإن معتقدات سالي الوسيطة التي ساعدتها على التعامل مع معتقدها الجوهري بأنها غير كفء، تشمل افتراضين:
- الأول: إيجابي تبنته قبل إصابتها بالاكتئاب: «يجب أن أبذل أقصى ما في وسعي حتى لا أكون فاشلة».
- الثاني: سلبي، طفا على السطح لدى إصابتها بالاكتئاب: «لو لم أبذل أقصى ما في وسعي، سأكون فاشلة».
وقد يشترك مريضان في نفس المعتقد الجوهري، ولكنهما يتبنيان أفكارًا وسيطة مختلفة للتعايش معه، فمثلًا، يمكن لمريضة غير سالي أن تتبنّى أفكارًا وسيطة مختلفة تجاه الاعتقاد القائل «أنا غير كفء»، والفكرة الوسيطة هنا يمكن أن تكون: «إن قمت بعمل شيء سهل فيمكن النجاح فيه». وسبب الاختلاف بين المريضتين هو العوامل الاجتماعية والبيئية والذاتية، التي تخلق لكل منهما تجربة معرفية مختلفة.
ويَنتُج عن المعتقدات الوسيطة «استراتيجيات تكيفية»، تكون بمثابة خطة عمل عامة للمريضة، تجعلها تتفادى سلبيات المعتقد الجوهري. ففي مثالنا تكون استراتيجيات سالي التكيفية هي: «يجب أن أعمل أكثر من المعتاد»، «يجب ألا أطلب المساعدة من أحد». إن سالي باتباع تلك الاستراتيجيات (خطط العمل) تعتقد أنها ستتخلص من «عدم كفاءتها» أو على الأقل ستُقلِّل منها.
وقد يحتاج المُعالِج، إن لم ينجح تقييم وتعديل الاستجابة للأفكار التلقائية في العلاج، أن يلجأ لتقييم وتعديل الأفكار الوسيطة، أو المعتقدات الجوهرية الكامنة. وقد لا يفلح تعديل المعتقدات الجوهرية، من دون الكشف عن جذورها التي كوّنتها أثناء الطفولة.
مواقف الطفولة
عانت سالي من انتقاد أمها الدائم لها في طفولتها، طالما قارنتها بأخيها الأكبر الأكثر مهارةً ونجاحًا، وعاتبتها على فشلها.
تستطيع سالي أن تتذكر بوضوح موقف من الطفولة أفرطت فيه الأم في انتقادها بشكل أسهم مباشرةً في تكوين معتقدها الجوهري: «أنا غير كفء»، وعلى المعالج مساعدتها على تذكر هذا الموقف، وإعادة تركيبه، وتمثيله، بما يوضح دوافع أمها في معاتبتها. ويُقيِّم صحة انتقاد الأم لسالي، ويخلص إلى أن المرارة التي شعرت بها سالي وقتها إنما هي بسبب المعالجة الخاطئة التي مارستها أمها، وليست بسبب فشل سالي وعدم كفاءتها.
لقد تسبّبت الأم بقصد أو من دون قصد لسالي في عقدة عاشت معها طوال تلك السنين، وطفت على السطح في الشهور الأخيرة مُسبِّبة هذا الاكتئاب.
إن تفنيد مواقف الطفولة التي أسّست للمعتقد الجوهري، ثم إعادة تركيبها بشكل إيجابي، له تأثير مهم في بعض الحالات على تعديل المعتقد الجوهري السلبي.