القهوة: كيف يغيرنا هذا المشروب السحري؟

لم يمر على القهوة وقت ما لم تكن فيه مادة جدل محتدم بين استحسانها والتحذير منها. منذ أن شقت القهوة طريقها للجزيرة العربية- اليمن- من إثيوبيا في القرن السادس عشر، وإلى أوروبا من تركيا في القرن السابع عشر ومنذ أن أغرقت أمريكا الجنوبية الأسواق بها، وعلاقة القهوة بالإنسان مثار للشد والجذب.

فيما حرمها بعض الأئمة لأنها أفرغت مساجدهم من المصلين حسب ظنهم وأصبحت كما الخمر في فتاواهم، فقد تبناها مشايخ آخرون خاصة الصوفيون منهم – لتأثيرها ذاته. وبعد مرور قرون من الاستهلاك والدراسة، أوضحت الأبحاث أن القهوة «مفيدة» في التقليل من احتمالية الإصابة بالأمراض ذاتها التي كانت تتهم بالتسبب فيها في الماضي. هذا بالطبع إذا تم استهلاكها بالجرعة الآمنة التي تتراوح بين 400-300 مللي جرام، أو 3 أكواب يوميًا.

بالطبع يمكن لأي مادة يتم استهلاكها بكميات مبالغ فيه أن تصبح مصدر أذى، لكن الحقيقة أن الكميات المؤذية من القهوة عادة ما تكون أعلى من قدرة الإنسان على الشرب، ليس من السهل أبدًا أن تتناول أكثر من 75 كوب قهوة في أقل من 30 دقيقة. علاوة على ذلك؛ للقهوة تاريخ طويل من الأبحاث ذات الأخطاء العلمية والإجرائية يصاحبه واقع معقد زاده تعقيدًا ميل شاربيها لاستهلاك مواد أخرى أكثر ضررًا كالسجائر. تسبب هذا كله في رسم صورة مبهمة للقهوة، المنشط الأكثر انتشارًا في العالم.

الكافيين في الجسم

يطلق قاموس أكسفورد على أي مادة ذات خواص فسيولوجية اسم «عقار – Drug». بهذا التعريف يمكننا فهم وصف القهوة بهذه الكلمة في الأبحاث، لكنها تستوي في ذلك مع مختلف المواد الطبيعية التي تتداخل وتؤثر على الجسم، طبيعية كانت أو صناعية، قانونية أو غير قانونية. إلا أنها أيضًا تتشابه في بعض تأثيراتها مع مواد سمعتها أكثر سوءًا، أهمها الكوكايين، ولو بدرجة أقل بكثير.

ينتمي جزيء الكافيين إلى عائلة «الزانثينات – Xanthine» ذات التأثير المنشط للقشرة الدماغية ونشاط القلب والموسع للقصبة الهوائية. يستطيع الكافيين الذوبان في الماء والدهون مما يعطيه القدرة على عبور «الحاجز الدموي الدماغي – BBB» التي يمتلكها الكحول مثلاً. ولأن الجسم لا يتخلص منه مباشرة عن طريق الكلى، فإن الكافيين يظل معلقًا في الجسم بينما يخضع للهدم إلى البارازانثين والثيوفيلين المستخدم في علاج الربو أحيانًا، والثيوبرومين المادة الفعالة الشهيرة في الشيكولاتة.

يظهر تأثير الكافيين كنتيجة لتداخله مع عمل عدة نواقل عصبية ومستقبلاتها. يؤثر الكافيين على إفراز الدوبامين وعلى السيروتونين، إلا أن الفعالية الأساسية للكافيين تأتي من ارتباطه بمستقبلات الأدينوسين في الجسم.

في الحالة الطبيعية، تستهلك الخلايا مركب «الأدينوسين ثلاثي الفوسفات – ATP» من أجل الطاقة. يتراكم الأدينوسين مع الاستمرار في استخدام العضلات – بما فيها القلب – ويبدأ في الارتباط بمستقبلات الأدينوسين. في المخ، يؤدي ذلك إلى إشارة بالإرهاق ووجوب النوم. يؤدي ارتباط الأدينوسين بالمستقبل الخاص به على الخلية العصبية إلى إبطاء عملها وتخفيف تفاعلها مع الإشارات ونقلها.

بالتالي، ماذا يحدث إذا اعترض الكافيين هذه العملية؟

من منظور الخلية العصبية، فإن جزيء الكافيين يشبه إلى حد كبير جزيء الأدينوسين، لهذا يسهل على الكافيين خداعها والارتباط بمستقبلات الأدينوسين واحتلال مكانه. على عكس الأدينوسين، فإن الكافيين يقوم بتنشيط الخلية العصبية وزيادة معدل إطلاقها.

ولأنه يمنع الشعور بتراكم الأدينوسين، فإن الشعور بالإرهاق والرغبة في النوم يبدأ في التلاشي. هذا بالإضافة إلى خداع الغدة النخامية لتقوم بإفراز المزيد من الأدرينالين. التأثير الذي نطارده جميعًا بأكواب القهوة المتتالية طيلة اليوم.

قبل الانتقال للنقطة التالية علينا التحذير من أن بعض الأشخاص الحساسين للزانثينات سيكونون معرضين لزيادة التسارع القلبي «Tachycardia» والشعور بالتوتر والقلق بسبب الكافيين. كذلك فإن السيدات الحوامل قد يتعرضن لأعراض جانبية جراء استهلاك كميات من الكافيين.

جِيني أم سلوكي؟

يختلف البشر عن بعضهم البعض في معالجة أجسادهم لجرعات الكافيين المختلفة. يطلق على هذا التذبذب اسم حساسية الكافيين، لكن كلمة حساسية هنا تؤدي لمأزق. تختلف حالة «الحساسية – Allergy» عن مقدار «حساسية الجسم – Sensitivity» للكافيين. فبينما يتسبب الجهاز المناعي في الحالة الأولى، فإن الثانية تعبر عن طريقة تعامل الجسم مع مقادير القهوة بشكل عام دون تدخل الجهاز المناعي. تعتمد حساسية الجسم نحو الكافيين في الأغلب على الجينات.

ذكرنا أن الكبد يقوم بهدم جزيئات الكافيين. يعتمد الكبد في ذلك على جين يقوم بتنظيم إفراز إنزيم «CYP1A2». ما يحدث هو أن كفاءة إفراز الإنزيم ترتفع عن الطبيعي في حوالي 10% من البشر مؤدية بهم لمعدلات أعلى من استهلاك الكافيين. إضافة إلى ذلك فإن جين «AHR» الذي يتحكم في تنشيط الجين المسئول عن «CYP1A2» يختلف أيضًا من شخص لآخر، ناهيك عن اختلاف مستويات مستقبلات الأدينوسين من مخ إلى آخر. تؤدي هذه العوامل إلى كون البعض ثقبًا أسود يبتلع كوب القهوة تلو الآخر دون تأثير يذكر.

على الجانب الآخر من حساسية الجسم للكافيين المعتمدة على الجينات، نجد الاحتمال التدريجي «Tolerance» الذي يكتسبه الجسم ضد الكافيين. هذا الاحتمال الذي يجعل المرء يحتاج كوبين من القهوة للوصول لنفس تأثير الكوب الواحد سابقًا ثم ثلاثة ثم أكثر وأكثر. بعد فترة من الاستهلاك، يعتاد الجسم الكافيين وتختفي التأثيرات الشهيرة المرتبطة بالقهوة، لا نشاط ولا تركيز مرتفع.

عند هذه المرحلة يصبح كل طموح المرء منا هو الوصول لحالة “الطبيعية” والحفاظ عليها. اختلفت التفسيرات وراء هذا الاحتمال لكن الأكثر احتمالاً هو تعويض الجسم لمستقبلات الأدينوسين المشغولة باستمرار، لكن الميكانيكية الواضحة ما زالت تحت البحث.

الشعور الأسوأ والعودة بالزمن

يمكن وصف الجسم وهو يعمل تحت تأثير الكافيين كآلة سلسلة الأداء. بالكاد يشعر المخ بوجود الأدينوسين، الكثير من الدوبامين وكمية وفيرة من الأدرينالين تجري كلها في جسدك لتشعرك بأنك على ما يرام. ماذا يحدث إذا اختفت فجأة جزيئات الكافيين وعادت مستقبلات الأدينوسين (التي زادت بشكل ملحوظ بسبب التعويض) فارغة؟

يصعب أن يجد المرء وصفًا لمدى الإجهاد والتخبط الحادث نتيجة طوفان الأدينوسين العائد إلى المخ حينها. كان الكافيين قد ارتبط بمستقبلات الأدينوسين فقام بزيادة تنشيطها وتنبيهها على عكس الأدينوسين الأصلي. ما إن يختفي الكافيين حتى ينعكس التأثير مرة أخرى، ولكن مضاعفًا لأن الجسم قد صنع مستقبلات إضافية.

الإجهاد والشعور بالإعياء، الأرق، الصداع القوي، ألم العضلات، الغثيان، الاهتياج، فقدان التركيز، الإمساك، كلها من الأعراض الشهيرة لانسحاب الكافيين وهي أعراض شديدة في أحيان كثيرة ويتطلب تخفيفها اهتمامًا طبيًا ليتمكن المرء من الإقلاع عن القهوة فعلاً. مثل كل العقاقير الإدمانية، على التوقف أن يكون تدريجيًا ومصحوبًا بالكثير من شرب الماء والنشاط الرياضي، وقد يتطلب المتابعة مع طبيب.

هكذا فإن القهوة مادة ذات تأثير نفسي Psychoactive وقابلة للإدمان بشدة وللتوقف عن استهلاكها أعراض جانبية غير مريحة إطلاقًا. من هنا فإن التقليل من استهلاكها لمدة أسبوعين قد يمكنك من استعادة الحالة الأصلية التي كنت تحصل عليها من القهوة قبل «ظهور الاحتمال – Tolerance reset».

طريقة أخرى لتخفيف استهلاكك للقهوة يتمثل في تغيير نوعية القهوة التي تستهلكها. بشكل عام، تحتوي قهوة سلالة «الروبستا – Robusta» كمية أعلى من الكافيين عن قهوة «أرابيكا – Arabica» (الأمر الذي يزيد من مرارتها بشكل واضح مع انخفاض مستوى السكر في الروبستا عن الأرابيكا أيضًا). كذلك فإن البن الأفتح لونًا يحتوي على كافيين أعلى من البن الأغمق. بإمكانك أخذ هذه المعايير في حسبانك عند قيامك بعمل كوب من القهوة السريعة أو جرعة إسبريسو (وهما من نوع الروبستا) إذا كنت تحاول تخفيف اعتمادك على الكافيين.

واقعيًا، يصعب أن تحقق القهوة هذه الشعبية دون أن تحاول الأبحاث والدراسات فهم تأثيرها ثم محاولة إلصاق مختلف الاتهامات بها. مع الوقت، اتضح أن القهوة لا تؤدي لولادة بشر –أو فئران- بأصابع قدم مفقودة، وأنها لا تؤدي للتسبب في أزمات قلبية أو حتى سرطان.

ملاحظة هامة للغاية: القهوة التركية هي «طريقة» لإعداد القهوة وليست نوعًا من القهوة. يصدق أنه في معظم الأحيان تكون القهوة المصنوعة على هذا النمط من نوع أرابيكا، إلا أن عدة أنواع من القهوة من مختلف سلالات القهوة التي تتعدى المائة يمكن إعدادها بنفس الطريقة.