سينما الأخوين «كوين»: عالم بلا قانون
في عوالم الأخوين «كوين» تبدو الحياة عبثية بلا قوانين، تداعٍ حر من الأحداث الهادرة يبدو فيه الإنسان مدفوعًا بقوة برانية لا حول له ولا قوة. لذا سخر الأخوان السينما الخاصة بهما لسرد الحكاية كما يريانها، ليست حكاية مثالية بين الخير والشر، وليست كارما ينال فيها كل فاعل جزاء فعله، بل كرة ثلج تبدأ بحدث صغير وقد تبتلع أبطالها في النهاية.
أبطال سينما كوين ضد القوانين
No Country For Old Men
صنع الأخوان شخوصًا تعبر عن رؤيتهما للقوانين وللعدالة، شخوصًا تسير حسب إيقاعها الخاص، تسخر وتكسر كل قانون وضع لكبحها، نجد صنف الأبطال ذاك في الأداء العبقري الذي قام به «خافيير بارديم» في دور القاتل «أنطوان تشيجير» حيث يدخل متجرا وبعد حوار مشوب بالتوتر، يقايض صاحب المتجر المرتبك حول حياته بعملة نقدية ويتركه بعد أن يختار الاختيار الصحيح. طوال الفيلم لا تدرك متي يطلق «أنطوان» النار، ومتي يعفو عن قاتليه. يخبر «وودي هارلسون» في برود؛ «ما دامت القوانين التي تتبعها جلبتك هنا لحتفك ففيم أفادتك القوانين؟» ثم يطلق عليه النار بغتة ليفجر أحشاءه ويفجر معها كل ظن عند إنسان أن القوانين التي يكبل بها الفرد نفسه قادرة على ضمان حمايته أو حتى نجاته، فالأمر كله متعلق بعملة ربع دولار يضعها بجيبه فيقول للضحية الأخيرة باسمًا لما رفضت أن ترهن حياتها برمية العملة «لقد جئنا للعالم بنفس طريقة تلك العملة».
في عوالم «كوين» نجد القتلة مدركين تمامًا لعبثية القوانين فيسيروا حسب غرائزهم الخاصة و يتباهوا بحدسهم، يضعهم الأخوان في قلب الأحداث ليبرزوا التضاد بينهم وبين العوام المطمئنين للقوانين رغم هشاشة عالمهم. كذلك نجد الصورة الهزلية للبطل العدمي الهازئ بالقوانين في صورة «الدوود ليباوسكي»، وهو الرجل البوهيمي الهزلي الذي لا يقاتل لأجل فكرة ولا يعبأ بالعالم، إنما يوضع عنوة في قلب الأحداث وهو غير عابئ إلا بسجادته و كوكتيل الخمر الخاص به، نجده لا مباليًا تجاه أطراف تتجاذبه لمعاني متطرفة عن الحياة، فرفيقه المختل الذي خربت حرب فيتنام عقله، ويبحث عن التقدير في مجتمع لا يعبأ بالحرب وتضحياته، ورفيقه الآخر «بوسكيمي» الذي لا يعبأ أحد برأيه ولا يقول جملة إلا وتتم مقاطعتها ويموت هلعًا في النهاية بنوبة قلبية كرجل عادي على الهامش.
وفي حين يقابل «ليباوسكي» العدميين والفيمنست، والثري الكادح، والإباحيين، ولا يعبأ برؤاهم عن الحياة ربما لأن واقعه أكثر عدمية من هؤلاء العدميين، فهو لا مبالٍ أكثر منهم ولا يؤمن إلا بالوايت روشان وكرة البولينج المصقولة، وكذلك يسخر من الإباحيين لكنه لا يجد غضاضة أن تستأجر «مود ليباوسكي» جسده لتلقيحها، فهو بوهيمي في الوسط العدمي بين من اختاروا الإيمان المريح أن للعالم قوانين وسعادة، ومن اختاروا أن يسيروا كنبات شارد تذروه الرياح كما بدأ كادر الفيلم الافتتاحي.
هوليوود المثالية التي يحتقرها الأخوان
Hail Caesar
يكره الأخوان السينما التي تمنطق الأحداث وتسرد لك الحكايات حول عالم عادل تتصاعد فيه الصراعات بحدة حتي ينتصر قانون الخير، فنجد نظرتهم السلبية القوية تجاه هوليوود أولاً في فيلم Barton Fink، حيث البطل المعذب بالكمال وتقديم فن يعبر عن العوام المهمشين، تتحطم أحلامه علي يد أثرياء هوليوود الذين يخبرونه ألا قيمة لصراع البطل مع ذاته فكل المطلوب هو قصة هزلية من الدرجة الثانية عن مصارع يحارب ويفوز.
ونجد ذات النقد في فيلم Heil Cesar وهو نقيض Barton Fink، ففي الأول نجد الكادرات تظهر «بارتون فينك» مهزومًا منكمشًا على ذاته في هوليوود العملاقة التي تبتلعه، بينما في الفيلم الثاني نجد «إيدي مانيكس» واثقًا يحتل الكادر بالكامل، ويمتزج مع هوليوود وأستوديوهاتها، في حين يعمل كممسحة قذرة تزيل الوسخ الذي يخلفه النجوم بخلافاتهم و كوارثهم. نجده يخبر البطل في النهاية عن طبيعة السينما، وهي ذات السينما التي يحتقرها الأخوان «كوين»، أن الناس تريد أفلامًا تلطف كدح الإنسان وتملأ حياتهم المضجرة بالأمل، وأن «كلنا نخدم الفيلم» أي نخدم أكذوبة القصص السعيدة، والواقع الذي تحكمه القوانين، وفيه سيحن قلب القيصر ويركع تحت أقدام المسيح، في هذا العالم لا يشعر «إيدي مانيكس» بالأرق لأنه يدير صناعة كذب كاملة، بل يعترف للقس متألمًا فقط لأنه يدخن ويكذب على زوجته.
ربما رسالة «كوين» الأساسية هي السخرية من هذا النوع من السينما الذي يهين الواقع ويستبدل الإيمان بالحقيقة، فنجد في Fargo عبارة أن «الأحداث حقيقية» وهي جملة استفزازية للمشاهد تخبره أن كل هذا الجشع والقتل والثلوج الباردة والقاتل عديم الرحمة الذي يقتل كفعل يومي، كل هذا حقيقيًا وليس بعيدًا عن يومياتك الرتيبة.
سينما كوين وصورة الفنان المهزوم
Barton Fink
يعلم الأخوان أن الحكاية التي يقدمانها أكثر هزلية وإزعاجًا للقارئ الذي يفضل الإيمان المريح بعالم عادل، وليس الإدراك المفزع لهشاشة العالم، لكن الحكاية كما يسردها الأخوان، وإن كانت أكثر فزعًا، فهي أكثر أصالة من تيمات هوليوود الطفولية، لذا يعيد الأخوان إنتاج نفسيهما وموقعيهما من هوليوود في صورة الفنان المهزوم الذي يرفض أن يسير حسب قوانين الصناعة ويبتذل فنه، فينحاز الأخوان «لبارتون فينك» هذا الكاتب المضطرب الذي يحتقر نجاحه التجاري، ويسير خلف قصة لم تكتب بعد، قصة بلا رتوش أو زخارف عن البشر كما هم، فنجد فينك يثور عندما يعرف أن كاتبه المفضل تتولى عشيقته زخرفة قصصه وتحويلها لتيمة تجارية، لأن هذا يفسد ركن الصدق المقدس لدى الأخوان، وبينما يدفعه الجميع للانتحال وتقديم فيلم درجة ثانية يلهب الجمهور، يشتبك مصيره مع قاتل مضطرب يسير حسب قوانينه، ويبلور «فينك» قصته الحقيقية التي يتم رفضها بالطبع، فالناس لا تفضل الحقيقة عن صراعاتنا الداخلية وعن القاتل الكامن وراء قناعنا الودود.
كذلك يعيد الأخوان الاعتبار لمطرب فلكلوري لمع في الستينات كشهاب يحتضر ثم إنزوى Inside Llewin davis، يواجه البطل نفس قسوة العالم الذي يفضل الهزل عن الفن فيخبره المنتج أنه يرى محترفًا أمامه لكنه لا يرى الكثير من المال، ويضطر البطل لغناء مقطوعات هزلية يبدو امتعاضه منها وهو يؤديها. في هذا الفيلم أفرد الأخوان «كوين» مساحة كبرى للأغاني التي جاءت حزينة وعميقة كأنها مرثية الفنان لنفسه، أرادا أن يعبرا عن المعاناة خالصة في الموسيقى بدلاً من إبرازها بكليشهات لا قيمة لها.
جعل الأخوان «كوين» السينما مساحة للتعبير عن الواقع الذي نخشي تصديق وجوده، القصص والشخوص التي تهز ثقتنا السمينة النائمة في عدالة العالم، قدما قصصًا هزلية تتصاعد أحداثها ككرة ثلج تبرز هشاشة عالمنا، و تجعلنا نتساءل: هل حقا القوانين ستحمينا؟ هل حقًا حياتنا معلقة بعملة نقدية، ملك أو كتابة وقاتل مبتسم يخبرك أن كل القوانين التي تبعتها قادتك إليه؟ جعل الأخوان أفلامهما مساحة لصادقين نسيهما العالم لأنهما سارا حسب إيقاعهما الخاص، فجلس «بارتون فينك» على الشاطئ و دخل إطار هواجسه الذي ظل ينظر له طوال الفيلم، بينما بدأ «لوين دايفيس» وأنهى مرثيته بأغنيته «إشنقوني، إشنقوني، سأكون ميتًا منسيًا، لا أمانع، لكني سأرقد طويلاً في قبري».