قصاصات من سينما أسماء البكري
بدأت علاقتها بالسينما كممثلة بديلة «دوبليرة» وليس كمخرجة، في فيلم «بيت من رمال» وفي مشهد تقوم فيه بتمثيل الغرق في البحر. وعن هذه الحادثة تقول أسماء «كانوا عايزين حد يغرق في البحر مكان بوسي، وفي عز الشتا.. وعملته». المخرجة المصرية أسماء البكري، قد لا يعرفها الكثيرون، ربما لقلة أعمالها السينمائية التي انحصرت في ثلاثة أفلام فقط هي «شحاتين ونبلاء»، و«كونشرتو في درب سعادة»، و«العنف والسخرية». ربما أصبح من قبيل الكليشية أن نقوم بسرد السيرة الذاتية لدي الكتابة عن شخصية ما، سيما وإن كانت غير معروفة بالقدر الكافي، في حين أن القارئ الكريم يمكنه الرجوع لأي من محركات البحث ومطالعة كل تلك المعلومات الجافة التي قد ينقلها له الكاتب كتواريخ الميلاد والممات وظروف النشأة وغيرها. ولكن ما يهمنا هنا هو التقديم لأسماء البكري المخرجة التي تركت بصمتها الخاصة في السينما المصرية من خلال عدد ضئيل جدا من الأعمال.استقت أسماء البكري فن الإخراج من روافد متنوعة، فعملت كمساعدة مخرج مع عدد من المخرجين المصريين والأجانب، مع يوسف شاهين في فلمي «عودة الابن الضال» و«وداعا بونابرت»، ومع خيري بشارة في «الأقدار الدامية» كما عملت مع المخرج الأمريكي «جون جيلرمن» في فيلم «جريمة علي النيل». وعلي قدر أهمية هذه الروافد إلا أنها لم تكن وحدها المسئولة عن تكوين شخصية أسماء البكري السينمائية، فإلي جانب ذلك كان هناك ولعها الشديد بالتاريخ والآثار المصرية القديمة، ذلك الولع الذي جسدته في عدد من الأفلام التسجيلية تجاوز الأربعة عشر فيلما، وكان هناك أيضا رؤيتها النافذة للشخصية المصرية والذي انعكس جليا في سيناريو أفلامها السينمائية الثلاثة، وفي تكوين الشخصيات حتي الثانوية منها، وفي الحوار الأصيل والبديع الذي تكتمل به تحفتها الفنية.
ذكية – كونشرتو في درب سعادة
«يا عزوز الأكل هيبرد» قالتها محاولة الانفلات من قبضة استمدت قوتها من رغبة تشتعل بدماء صاحبها. تمنعت وقد انتقلت حمي الرغبة إليها هي الأخرى «يا راجل استني بس». وفي الأخير استسلمت تحت وطأة وثقل الرغبة وصاحبها فقالت «طب استني أما أقفل الشباك.. يوه أوعي». انتقلت معها الكاميرا نحو الشباك المفتوح الذي يطل علي حارة ضيقة، ثم جاء صوت ذكية تزعق في أحد أبنائها علي مرمي الشباك المفتوح الذي لقف كلماتها «العواف يا مبروكة»اعتدل «عزوز» في جلسته لدي نقل مبروكة للخبر «دي ذكية جاية علي هنا» ونفض سترته في ضيق وحنق بينما تدخل ذكية جارة في ذيلها طفلين لا يكف أحدهما عن البكاء. زفر عزوز في تأفف «يا ابني بطل زن بقي»، وافترشت ذكية الأرض بينما جذبت مبروكة أحد حبات البرتقال من الكيس القابع علي المنضدة وناولتها للطفل الباكي، فصاحت ذكية وكأنما بهتت بفعل مبروكة «يوه، والله واكلين في البيت، قول لأبلتك متشكرين يا وله» ثم مدت يدها إلي طفلها الثاني ببضع حبات أخرى جذبتها من الكيس «وانت كمان قول لأبلتك متشكرين». وبعد وصلة معتبرة من التبجيل في «سي عزوز» والثناء عليه كشفت ذكية النقاب عن سر زيارتها غير المتوقعة وقالت وهي تناوله ظرفا صغيرا «بالك أبو بلبل ميعرفش الألف من كوز الدرة».فض عزوز الظرف وأخذ يقرأ ما بداخله، ولم يفت ذكية أن تردف كل جملة بتعليق لائق، فيقول عزوز «هذا جواب من عبد الحميد حرفوش» لتزعق ذكية في استهانة «قطيعة، ده جوز السيدة الباتعة» وتتناول كوب الشاي من مبروكة بينما يتابع عزوز «نعلمك أن حماتك حتيجي تقضي عندكم كام يوم قبل مولد النبي عشان تغير هوا» لم تتمالك ذكية نفسها لدي سماع الخبر، فأشاحت بكوب الشاي في انفعال كاد أن يسقطه أرضا، وقالت بعد أن انفردت بالكادر كله وحدها «جتها هوا لما يبقي ينفخها، الولية دي مش ناوية تموت بقي» تعاتبها مبروكة عتابا زائفا«يا ولية حرام عليكي»، فترد عليها ذكية وهي ما زالت علي انفعالها «ياختي حرمت عليها عيشتها، هي الأوضة فيها خرم إبره علشان تيجي تبرش هي كمان بقفتها» يتابع عزوز قراءة أخر كلمات الرسالة «والسلام ختام» لتتابع ذكية هي الأخري تهكمها المنفعل «جته نيلة عبد الحميد حرفوش في مراسيله، ده العيال نايمة ع الأرض فوق بعضيها»
الشحاذ – شحاتين ونبلاء
في كادر متسع لممر بأحد حارات القاهرة القديمة، حيث المعمار المملوكي يكسو الخلفية جلس البعض يدخنون النارجيلة، بينما المارة يروحون ويجيئون من حولهم. وقف الأستاذ جوهر الذي توسط الكادر، ببذلته التي سري بها الاهتراء، وطربوش أحمر لا يخلو من الغبار، وعصا يتكأ عليها لا لحاجة وإنما لاستكمال مظاهر زائفة للوجاهة. نظر إلي الأمام وقد بدا عليه وكأنه تعرف علي شخص ما، ثم تتنقل الكاميرا إلي الشحاذ الجالس بجوار الحائط المقابل، نراه يتناول صدقة من أحد المارة ويمررها علي فمه قبل أن يقول «المليم ده فالصو يا ناس، أفنديات أخر زمن، والله لابلغ البوليس»تتحرك الكاميرا لتتغير زاوية التصوير بينما «الشحاذ» لا يزال ينفرد بالكادر ثم تدخل قدمان تصحبهما عصا ونسمع صوت الأستاذ جوهر يلقي عليه تحية الصباح، يرد الشحاذ التحية وقد تهللت أساريره لدي رؤية الأستاذ جوهر، ويبادر بسؤاله «سمعت يا سيدي أخبار الانتخابات؟» فيجيب الأستاذ جوهر بالنفي، فتظهر الحماسة علي وجه الشحاذ وهو يقول «تصور لما جم يفتحوا صناديق الانتخابات في أبو داود لقوا فيها إيه؟ كل البطاقات مكتوب فيها برغوت» يتراجع صوت الشحاذ إلي الخلفية بينما الشاشة تنقلنا إلي قرية أبو داود حيث يتم فرز الأصوات، ونري الموظف يقوم بفتح البطاقات التي حملت كلها اسم «برغوت».يتابع صوت الشحاذ السرد «لا العمدة، ولا شيخ البلد، ولا أي مخلوق يعرفه، ولا هو علي قايمة أي حزب» بينما نري علي الشاشة مسئولي الحكومة يجوبون البلدة ويسألون الفلاحين عن هذا البرغوت. وبعد ضحكة عالية تخللتها الكثير من الحشرجات من حنجرة اعتادت التدخين قال الشحاذ «طلع إيه بقي؟ طلع الحمار بتاع السقا» وصلة أخري من الضحك المختلط بالحشرجة ثم يقول «أهو ده بقي اللي اختاروه الناس علشان يمثلهم في البرلمان» تنتقل الكاميرا إلي وجه الأستاذ جوهر الذي بدي عليه الاندهاش وأخذ يسأل عن بقية الحكاية، فجيبه الشحاذ «طبعا برغوت سقط في الانتخابات، لأن الجماعة اللي فوق عاوزين حمار برجلين اتنين مش بأربعة».
واقعية تجاوزت الزمان والمكان
تركت لنا أسماء البكري أربعة عشر فيلما تسجيلا منها فيلم «دهشة» والذي يتناول ظاهرة مراكب النيل الخشبية والتي توشك علي الانقراض وتحل محلها المراكب الحديدية التي تتحرك بالوقود، وفيلم «الرخام» الذي يدور حول تاريخ صناعة الرخام في مصر، وهي قضايا تمس قلب المجتمع بشكل أو بأخر. وأفلام أخري مثل «الضاهر» و«الفاطميون» و«بيت الهراوي» تناولت فيها مصر الفاطمية والمملوكية، التي كانت قديما منازل علية المجتمع، ثم سكنها البسطاء من بعدهم. ومن هذا الخليط الساحر خرجت واقعية أسماء البكري التي طبعت أفلامها السينمائية الطويلة.ومن بين هذه الأفلام الثلاثة لن تجد سوي نسختين رديئتي الصوت والصورة من «كونشرتو في درب سعادة» (1998) و«شحاتين ونبلاء» (1991)، وإذا ما تجاوزت أزمة رداءة هاتين النسختين واستطعت مشاهدتهما فلن تعدم مظاهر المتعة البصرية والسمعية فيهما. وستلمس فيهما مدي احتفاء المخرجة بالمكان وكيف أن المزج بينه وبين شخصيات شديدة البعد عن سكانه الأوائل بدا وكأنهم قد سافروا عبر الزمن، وجاءوا بأسماء وحلل مغايرة وإن بقي واقعهم المصري الخالص علي حاله دون تغيير.انتقدت سينما أسماء البكري علي النحو الذي انتقد به يوسف شاهين، ووصفت أفلامها بغير المفهومة علي الرغم من إمعانها في الواقعية. وفي حين أن يوسف شاهين استطاع أن يتجاوز تلك العقبة ويتدبر أمر الانتاج سواء من خلال أفلام الإنتاج المشترك، أو بعد ذلك عن طريق شركته الخاصة، إلا أن أسماء البكري التي لم تستطع إلي ذلك سبيلا، عانت من أزمة السينما المصرية التليدة، وربما كان هذا هو السبب وراء قلة أعمالها السينمائية، ففليمها الأخير «العنف والسخرية» الذي خرج بعد تعثر شديد في الإنتاج ما دفع البكري إلي الاعتماد علي طاقم عمل من الشباب والوجوه الجديد بالإضافة إلي زكي فطين عبد الوهاب، وعائشة الكيلاني، وعن هذه الأزمة تقول البكري «لقد اعتمدت على وجوه جديدة بعد تخلي اصدقائي النجوم عني ممن عرضت عليهم العمل ورفضوا»أسماء البكري التي مرت علي السينما المصرية في صمت أبلغ من الكلام، رحلت عن دنيانا في صمت مماثل تاركة وراءها ثلاثة أعمال سينمائية، وأربعة عشر عملا تسجيليا، وقدرا كبير من العشق لهذا البلد وأهله.