المناخ يصنع التاريخ: تأثير الأزمات البيئية على البشر
لا يقع كل ما يتعلق بالمتغيرات المناخية أو الكوارث البيئية ضمن النطاق الاعتيادي لاهتمامات العامة من غير المتخصصين، ولكن جاءت حرائق الأمازون لتُغير تلك القاعدة كاستثناء نادر. فحينما تفقد حاضنة لحوالي 3 ملايين نوع من النباتات والحيوانات، ومصدر 20% من احتياجنا من الأوكسجين، فإننا يجب أن نخشى على مستقبل ومصير البشرية.
لا شك أن حرائق الأمازون قد قُتلت بحثاً وتحليلاً، ولكن ما يعنينا هنا هو ما يمكن أن يطرأ على الصلات البشرية بشكل مباشر، نتيجة التقلبات المناخية أو الحوادث البيئية الكبرى، فالمعطيات الأركيولوجية يمكن أن تنبئنا عن طبيعة أحداث تاريخية معينة، بمعنى آخر، يمكن الاستفادة من «ثمرة جوز» محفوظة في الجليد، للاستدلال على ما كان يجري في عصور سابقة.
كما أن بقايا شجرة ما، قد تُفصح عن الكثير عن الأجواء المناخية التي وقعت فيها مذبحة «سان بارتيليمي» في فرنسا عام 1572، أو شكل الأيام في إحدى معارك حرب «المائة عام»، وما إذا كان الجو حاراً أم بارداً، سطعت الشمس فوق رؤوس الجنود أم هطلت عليهم الأمطار، وبالتالي فإن حرائق الأمازون، ستكون مرجعاً بيئياً ضخماً يحوي فصول أيامنا، وما دار فيها لأجيال مستقبلية في حقب مختلفة.
المناخ والبيئة والبشر
هناك علاقة تبادلية من التأثير والتأثر بين المناخ والبيئة من ناحية، والبشر والمجتمعات من ناحية أخرى، يتخللها مفاتيح عن الصحة ووفرة الطعام والهجرة والأمن والنمو الاقتصادي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أي تغييرات مناخية في إقليم سيبريا كانت كفيلة بأن تُحسّن إنتاج الطعام والاقتصاد المحلي، وبالتالي إحداث تأثيرات إيجابية على النشاطات البشرية.
وفي المقابل تنعكس التغيرات المناخية والبيئية سلباً على المجتمعات الفقيرة، فأسرع نتائجها كان معاناة الأغلبية من الدخول المنخفضة، وتردي خدمات الصحة، وذلك رغم أن 50 دولة نامية ليست مسئولة سوى عن 1% فقط من الانبعاثات التي تسبب الاحتباس الحراري وهلاك المحاصيل وخلل التوازن البيئي.
تاريخ المناخ منذ العام 1000
ما يمكن أن يحدثه أثر التغيرات أو الحوادث البيئية والمناخية الحادة، كان صلب المجهود البحثي والفكري الذي بذله المؤرخ الفرنسي «إيمانويل ليروا لودري» في عام 1967، في كتابه «تاريخ المناخ منذ عام 1000»، ليركز تحديداً على العلاقة بين تراوح درجات حرارة المناخ والتاريخ الإنساني، حيث انطلق في كتابة «تاريخ مناخي» مُستهدفاً إعادة بناء الزمن والمناخ.
الأبحاث المضنية التي قام بها لودري، أظهرت خوفه الشديد من أن يتهمه زملاؤه بسذاجة الانسياق وراء الحتمية، فجاء متحرراً من أي اهتمام أو افتراض يضع الإنسان في المركز، وخلص فيه إلى أن هناك علاقة تأثير وتأثر بين «المناخ والتاريخ»، فكلاهما يحرك الآخر، ويترك فيه أثراً وبصمة تحدث مجموعة من التغييرات الهائلة.
وألقى لودري الضوء على علاقة تقلبات المناخ بتاريخ الأوروبيين، على مدى عشرة قرون، ليجزم بأن تقلب المعطيات المناخية ينجم عنه تغيّر جذري في نمط الحياة، من حيث تواريخ القطاف والحصاد، وعلاقة ذلك بأحوال الناس، حينما كانت تستغل الكنيسة السنوات الجيدة لتحصيل عوائد ضريبية مدونة في دفاتر وسجلات البلديات في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، فيما كانت تُنهك العامة في صلوات بالسنوات السيئة لهطول الأمطار اللازمة لنمو القمح، وبالطبع كان للسنوات الجافة ملامحها، التي تختلف على عدة أصعدة اجتماعية واقتصادية وثقافية عن السنوات المطيرة.
علم مناخ الأزمات التاريخي
ليس لودري وحده من انشغل بذلك، ولكن أستاذ الجغرافيا بجامعة كاليفورنيا «كلارنس جلاكين»، كان أبرز من دفعوا بأن تقلبات البيئة شكّلت مجرى الأحداث البشرية، وبلور ذلك في كتابه «تاريخ التفكير الجغرافي»، والذي بات اليوم من الكلاسيكيات حول تاريخ إدراك الطبيعة، ورصد التأثير الذي مارسه المناخ والتضاريس على البشر والمجتمعات.
دخل على الخط علماء السياسة والمتخصصون في الاقتصاد والعلاقات الدولية بطبيعة الحال، ممن ربطوا بين المناخ والبيئة، كعالم الاقتصاد الفرنسي «جان بول ماريشال» Jean Paul Marechal ، والذي أكد أن هناك علاقة تأثير وتأثر بين المناخ والبيئة، وأن تاريخ المناخ يعد مرآة عاكسة بدقة لكل ما يجري في البيئة، حيث أكد أن «ثقب الأوزون» مرتبط بتطور التاريخ، من حيث أن ارتفاع درجات الحرارة، وثيق الصلة باختيار أنواع النار، الناتجة تحديداً عن الثورة الصناعية.
ودفع ماريشال بأن مجرد حرق الوقود المستمد من باطن الأرض من أجل توفير الطاقة، والذي زادت البشرية في استهلاكه تدريجياً في عصور النهضة الصناعية وحتى اليوم، يساهم بـ 80% من انبعاثات أهم غاز متسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري وهو ثاني أكسيد الكربون، لافتاً إلى أن ترنح اقتصاديات الدول النامية سيكون له تأثير سلبي على الثقب، لأنه سيتضاعف بسبب عدم قدرة تلك الدول على إيجاد بديل نظيف للطاقة، ليرصد هنا تدخل عوامل سياسية واقتصادية في تشكيل الظواهر المناخية.
تلك الأبحاث التي انغمس فيها علماء بارزون، أدت إلى تشعبهم في تاريخ العلوم والتاريخ الاجتماعي، والثقافي، وتتبع الحركات الاجتماعية وعلاقتها بالبيئة، حتى وصلنا إلى جيل جديد من المؤرخين، كـ «فرانز مولشجين» Franz Mauelshagen، و «سام وايت» Sam White، ممن أسسوا مجموعات فرعية من العلوم، جاءت من مجالات دقيقة مثل علم الجليد وعلم العوامل الجوية.
الآثار المباشرة للمناخ كمحرك للتاريخ
الأثر المباشر للتقلبات المناخية تجلت في أكثر من حادث تاريخي، فلم تقتصر تأثيراتها على مجرد ما تُخلّفه الفيضانات والسيول وتعطيل القوافل البرية قديماً أو الرحلات الجوية حديثاً، ولكن أحدث تاريخ المناخ تغييرات هائلة في مجرى التاريخ البشري، حيث انتصار إمبراطوريات وانهيارها، ونشوب الثورات والحركات وإخمادها.
«العواصف الرملية والربيع الجاف» الذي ضرب فرنسا بشكل غير مسبوق، ضاعف الصعوبات الاقتصادية التي تسببت فيها معاونة فرنسا للأمريكان في حربهم ضد الإنجليز، فوضعت التدخلات المناخية الفرنسيين في خضم عملية احتقان وارتفاع في أسعار المواد الغذائية بشكل سريع، مما أدى بشكل ما أو بآخر إلى أزمة في البلاد أشعلت الثورة الأشهر في التاريخ.
«رياح البروتستانت»، هو اسم معركة شهيرة جرت عام 1588، كان بطلها ملك فرنسا «فيليب الثاني» الذي جاء ليغزو إنجلترا، ولكن سلاح المناخ انقلب عليه، حينما أعاقته الرياح الحادة، وكان لها تأثير عكسي ساهمت في خسارته بشكل أساسي للمعركة، الأمر ذاته الذي تعرض له هتلر الذي قام بغزو روسيا في عملية عسكرية تسمى «باربوسا» كانت هي الأضخم في التاريخ، ولكن كان لهطول غير مسبوق للأمطار والثلوج رأي آخر، تعطل على إثرها التقدم الألماني، وشكّل نقطة تحول مصيرية في الحرب العالمية الثانية، حتى انهزم هتلر.
كما قدم المناخ خدمة جليلة إلى المدينة اليابانية «كوكورا»، والتي عرفت بالمدينة المحظوظة، حينما دخلت في أجواء ملبدة بالغيوم لفترة طويلة للغاية، حيث تسبب ذلك في عدول الجيش الأمريكي عن قصفها بالقنابل النووية، وتم تغيير القرار العسكري الأمريكي لاستهداف مدينة ناغازاكي بدلاً من كوكورا، ليتم إلقاء القنبلة عليها ويموت نحو 74 ألف شخص من سُكانها.
مؤخراً في الأمازون، هناك علاقة بين تلك الحرائق والنظم الإيكولوجية المعقدة الموجودة في غابات الأمازون، بعد تدمير أنواع بأكملها، فلذلك تأثير على الطب، لأن 25% من الأدوية التي نستخدمها في الطب الحديث مستمدة من النباتات في الأمازون، وبالإشارة إلى أنه تم بالفعل دراسة أقل من 5% من النباتات في الأمازون من قبل العلماء، سنجد أنه مع الحرائق، سيتم القضاء على إمكانات طبية هائلة غير مكتشفة إلى الآن.