كليوباترا سمراء: «الحوسة المصرية» من شكسبير إلى سترابو
حينما كتبت الروائية «أهداف سويف» مقال «لحظة ظمأ» في مجلة «فصول» للنقد الأدبي عام 1998، تعرّضت لإشكاليات عيش العربي حياته خارج بلاده ضمن ما أسمته «الحوسة الدائمة».
حكت أهداف أن العربي في الخارج يعيش حالة دفاع وتبرير مستمر، تقول «الأسئلة تُطرح علينا، لماذا ترفض مصر التطبيع مع «إسرائيل»؟ هل الإسلام دين يميل بطبعه إلى التعصب؟ هل كانت كليوباترا بيضاء أم سوداء؟».
قبل هذا المقال بعام نشرت جريدة «المجد» الأردنية خبرًا صغيرًا عن طرح قناة «بي بي سي» فيلمًا وثائقيًا تعرّض في أحداثه إلى لون بشرة الملكة المصرية، معتبرة إياها قضية لطالما أثارت الجدل في الغرب.
هذه واحدة من الإشارات القديمة لذلك الجدل الذي استمرّ طويلاً حول لون بشرة الملكة المصرية/البطلمية الشهيرة كليوباترا. جدلٌ لم يحتل بؤرة اهتمامات المصريين في أغلب الأحوال لاقتصار نقاشات على بعض قواعد النُخب أو وسائل الإعلام العالمية الناطقة بالإنجليزية.
«نتفلكيس» والمركزية الأفريقية
هذه المرة تغيّر الأمر، بعدما أصدرت شبكة «نتفليكس» مقطعًا دعائيًّا للموسم الجديد من سلسلة وثائقية عن «الملكات الأفريقيات»، تعرضت فيها لجانب من حياة كليوباترا، جرى اختيار الممثلة أديل جيمس «adele james» (سمراء البشرة) لتجسيد مشاهدها.
وهو ما يتناقض مع «الصورة الفنية» التي اعتادت الشاشات تقديمها لكليوباترا باعتبارها ملكة فاتنة بيضاء منذ أن طُرح أول عمل تناول سيرتها عام 1899، وهو الفيلم الفرنسي «مقبرة كليوباترا» للمخرج جورج ميلييه وكان من بطولة جين دالسي (Jehanne d’Alcy). بعدها قامت عديد الممثلات بدورها مثل فيفان لي وكلوديت كولبير (Claudette Colbert) لكن إليزابيث تيلور كانت أشهرهن جميعًا.
المشاهد القليلة في فيلم «نتفليكس» خلقت عاصفة من الجدل، بعدما ربط المتابعون بينها وبين دعاوى «المركزية الأفريقية»، التي يتنباها عددٌ من مشاهير السود في الغرب وتدّعي أن الفراعنة كانوا قومًا من الأفارقة السود، وأن المصريين الحاليين لا يمتّوk لها بصلة، وإنما هم نتيجة دخول أجناس أخرى إلى مصر كاليونانيين والفرس والعرب.
وهو ما دفع بعالم الآثار المصري «زاهي حواس»، وزير الآثار السابق، إلى الدعوة لاتخاذ موقف ما من «نتفليكس».
مصر السمراء
تحتلُّ الحضارة المصرية ركنًا أساسيًا عند مؤرخي «أفريقيا المركزية»، لذا فإنها تستأثر بأكثر الجدل خلال سعيهم لإثبات أن السود هم أقدم البشر صناعة للحضارة على وجه الأرض.
لا تكتفي هذه الحركة بما يؤكده التاريخ أن الفراعنة ذوو البشرة السمراء لم يحكموا مصر إلا في عهد الأسرة الكوشية، الذين ترعرعوا في مملكة كوش الواقعة حاليًا في السودان، وحكموا مصر خلال الفترة 747 إلى 656 ق.م، وعُرفوا بالأسرة الخامسة والعشرين، وإنما يسعون لإضفاء مسحة سمراء على التاريخ المصري القديم كله من البداية حتى النهاية.
وإنما سعى المؤرخون الأمريكيون الأفارقة منذ أوائل القرن العشرين في إطار مساعيهم لإثبات أحقيتهم بنيل مزيد من الحقوق المدينة والاجتماعية لأنهم سبق وأن صنعوا حضارة عظيمة، بدليل أن كليوباترا كانت سمراء! وفي هذا استغلال واضح للاستغلال التجاري المتنامي في الولايات المتحدة لكليوباترا باعتبارها نموذجًا لجمال المرأة البيضاء.
هنا يُمكن تفهّم حرص عددٍ من المؤرخين على تبنّى نظرية «كليوباترا السمراء»، منهم جون هنريك كلارك (john henrik clarke)، وهو مؤرخ أمريكي من أصل أفريقي، أعدّ كتابًا عن حياة كليوباترا، قال في أحد فصوله:
ويضيف هنريك:
أدلة سُمرة/ عدم سُمرة كليوباترا
يستند المؤرخون الأفارقة في ادعاءتهم إلى عددٍ من الأدلة الظرفية غير المؤكدة، منها مشهد ورد في مسرحية شكسبير «أنطوني وكليوباترا»، كتب فيه شكسبير على لسان ملكة مصر بأن «إله الشمس نفسه يعشقها، وإلا لما جعل قرصاته تحوّل بشرتها إلى الإسمرار».
وهو دليل لا يُمكن التعويل عليه إطلاقًا، ففضلاً على أن العمل الأدبي لا يُمكن اعتباره مرجعًا تاريخيًا، فإن ألف عام تفصل بين شكسبير وكليوباترا تجعل الاعتماد على اعتقاده في لون بشرتها ضربًا من ضروب المستحيل.
في المقابل، فإن الصور التي بقيت لنا لكليوباترا محفورة على العملات، وإن كانت لم توضّح لها لونًا إلا أنها لم تُظهر امتلاكها أيًا من سمات العرق الأفريقي، وإنما حملت صفات مقدونية خالصة (أنف كبير، شفاه ضيقة، ذقن حاد، شعر ناعم نسبيًا).
وهي ذات السمات التي تجلّت لنا في كافة التماثيل التي جسّدت وجه كليوباترا بواسطة النحّاتين اليونانيين.
أما في النقوش المصرية فلم تقدّم بشكل مقدوني صِرف مثلما جرى مع العملات، لكن «شكلها الفرعوني» لم يحمل شيئًا من الملامح الأفريقية أيضًا.
الدليل الآخر هو عثور العلماء على بقايا الأميرة أرسينوي، أخت كليوباترا، داخل قبرٍ في تركيا، أثبتت التحاليل أن والدة هذه الأميرة كانت تمتلك «هيكلاً عظميًا أفريقيًا».
حتى هذا الاكتشاف لا يخرج من دائرة الضبابية العلمية، فلا يوجد دليل قاطع يؤكد أن هذه البقايا منسوبة لأرسينوي بشكلٍ قاطع، وإذا ما افترضنا صحة ذلك فلا يوجد دليل على أن كليوباترا وأرسينوي من أم واحد، لذا فإن الإعلان الرسمي لهذا الاكتشاف اقتصر على أن هذه التحليلات الجينية بحثت مصير الأم «المحتملة» لملكة مصر.
رحلة البحث عن كليوباترا.. وأمها
إذا أردنا تفحص شيء من سيرة كليوباترا فالضباب سيحيط بنا من كل جانب؛ فنحن لا نعلم شيئًا يقينيًا عن هوية والدة كليوباترا، فرغم شيوع أن والدتها هي الملكة كليوباترا السادسة، فإن باحثين كثيرين شكّكوا في هذه الفرضية.
فقط نعلم أن والدها هو بطليموس الثاني عشر، الذي ورّث عرشه كليوباترا ولشقيقها بطليموس الثالث عشر.
هنا تدخّل المؤرخون الأفارقة المركزيون على الخط، وادّعوا أن كليوباترا هي ابنة علاقة غير شرعية جمعت بين والدها وإحدى خادماته الأفارقة.
فرضية لم تثبت صحتها أبدًا، ولم يستعملها أعتى خصوم كليوباترا خلال احتدام خلافاتهم معها. اشتهر الخطيب الرومان شييشرون باستخفافه بكليوباترا وخاض ضدّها أوكتافيوس حربًا ضروسًا انتهت بهزيمتها وانتحارها مع زوجها أنطونيوس. لم يتّهمها أيٌّ منهما أبدًا بأنها «غير شرعية»، اتهمها أوكتافيوس بأشنع الصفات الممكنة بعدما أوعز للمؤرخين بشيطنة كليوباترا وتقديمها باعتبارها عاهرة لعوبًا أوقعت بينه وبين صديقه مارك أنتوني ودفعتهما إلى قتال بعضهما، لكنه لم يقل عنها أبدًا أنها ابنة محظية أتت من علاقة آثمة.
وحتى إذا استسلمنا إلى فرضية أن والدة كليوباترا هي إحدى محظيات والدها، فإنه من المستبعد أن تكون مصرية سمراء أو أفريقية بسبب العنصرية التي اعتنقها البطالمة تجاه أهل البلاد التي يحكمونها، وإصرارهم على التناسل في ما بينهم وبعضهم حتى لا يختلط دمهم المقدّس بالآخرين حتى لو استدعى ذلك زواج الملوك بأخواتهم.
إذن لا يوجد أي دليل موثوق به حول كونها تحمل أصولاً أفريقية قد تكون نقلتها أمها المجهولة إلى ابنتها التي قُدِّر لها حُكم مصر لاحقًا.
وهي النقطة التي علّق عليها، فرانك سنودن، أستاذ التاريخ الحاصل على دكتوراه من جامعة أكسفورد بأنه «لا يبدو أن البطالمة كانوا على صلة بالمصريين، ولا يوجد دليل يثبت أن عشيقة بطليموس كانت أفريقية أو غير أفريقية».
المؤرخ دوان دبليو رولر، عالم الآثار اليونانية، نقل رواية الجغرافي سترابو، الذي عاصر كليوباترا، وأكد أن زوجات والد كليوباترا كنَّ من «النساء ذوات المكانة المهمة»، وهو ما يستبعد فرضية المحظية الأفريقية تمامًا ويحصر هوية الوالدة فقط في نساء مقدونيات أو إحدى بنات أفراد النخبة الدينية المصرية في أقل الأحوال.
في مقالته رفض رولر أي احتمالية لامتلاك كليوباترا دمًا أفريقيًا ووصفه بـ«الادعاء السخيف».
بشكلٍ عام فإن المؤرخين القدامى لم يسهبوا في وصف محاسن كليوباترا كما نفعل حاليًا، فالفيلسوف اليوناني بلوتارخ، وُلد عام 45م، يقول عنها: «جمالها الحقيقي لم يكن رائعًا لدرجة أنه لا يُمكن مقارنتها به، ولكن ملامسة وجودها كان لا يُقاوم، الشخصية التي فعلت كل ما فعلته كانت ساحرة».
وحتى مثل هذه المقولة فلا يُمكن تفسيرها بسهولة، لأن مقاييس الجمال متغيرة، وبالتالي فإن حُكم بلوتارخ على كليوباترا بـ«عدم الروعة» لن يكون سهلاً علينا إلا بعد التعرّف على مقاييس الجمال التي اعتمد عليها في ذلك العصر
ولو علمنا أن اليونانيين بشكلٍ عام، اعتبروا أن البدانة والشعر الأشقر من علامات الجمال، فأقصى ما يمكننا ترجيحه هنا، وليس التأكيد بشكلٍ قاطع، هو أن كليوباترا لم تتمتّع بكلتا الميزتين، لكنها لن تدفعها أبدًا إلى السمات الأنثوية الأفريقية، لكنه لن يُحسم أبدًا لأن أهدافه السياسية أكبر بكثير من أهدافه المعرفية.