كليم صديقي ونظرية الثورة
تحلّ هذا الشهر، أبريل 2016م؛ الذكرى العشرون لوفاة المفكِّر والمنظِّر المسلم، الهندي الأصل والبريطاني الجنسية؛ الدكتور كليم صديقي. وهي كذلك توافِق ذكرى نشر كتابه الأخير، والأشهر على الإطلاق؛ «مراحل الثورة الإسلامية Stages of Islamic Revolution»، والذي انتهيت من ترجمته قبل عدّة أعوام في إطار مشروع ترجمة ونشر اﻵثار الكاملة للدكتور صديقي، ولكن حال الظرف السياسي في مصر دون نشره، لكني قد عزمت، بحول الله؛ على نشره في الخارِج قبل نهاية العام الجاري، وذلك تحت عنوان: «نظرية الثورة الإسلامية».
في هذا الكتاب المهم، أو الشهادة الأخيرة كما أطلق عليه مؤلفه؛ والذي نشر بعد وفاة الدكتور صديقي بعدَّة أيام، يسعى المؤلف لتجريد «نظرية ثورية إسلامية» من نموذج الثورة الإسلامية في إيران، وهو النموذج الذي ترك أعمق الأثر في كتابات جيل بأكمله من الإسلاميين، بل وكان إيذانًا تحوّل أكثرهم من اليسار إلى الإسلام، كما في حالة الأستاذ منير شفيق والكتيبة الطلابية لحركة فتح.
وبرغم أن الكتاب حافل بالتحليلات والملاحظات شديدة العمق والذكاء، إلا أنه يطوي كذلك اعتسافًا نظريًا للواقع؛ ليوافِق نظرية مُسبقة يبدو فيها تأثر أستاذنا الدكتور صديقي بالأدبيات الغربية في التنظير للثورة، كأداة وحيدة للتغيير الاجتماعي؛ وخصوصًا الأدبيات الماركسية، وعلى رأسها كتاب لينين الأشهر: «الدولة والثورة». لكنه على كل حالٍ ليس تأثُّرًا سطحيًا يُمكن تتبُّعه بسهولة، وإنما هو أثرٌ كامنٌ يتجلى على الخصوص في تعامُله مع الثورة بوصفها محض سُلَّمٍ للدولة التي يعتبرها «إسلامية»، وهو ما سنُفيضُ فيه في تصديرنا للترجمة وتعليقنا عليها إن شاء الله.
ويمكن تقسيم حياة الدكتور صدّيقي إلى مراحلٍ ثلاث: مرحلة الناشط السياسي في الهند وباكستان، ثم مرحلة ما أسماه كاتب سيرته وتلميذه ورفيقه (ظفر بنغش) التحرُّر من الأوهام بالغرق في البحث والدراسة النظريّة في لندن، والتي يمكن اعتبارها مرحلة تمهيدية أو مرحلة تهيئة للمرحلة الثالثة والمحورية في حياة الدكتور صديقي، وهي مرحلة اضطرام وجدانه بالعمل النظري والحركي جنبًا إلى جنب في خدمة ما اعتبره «حركة إسلامية عالمية».
لقد كان رفض الدكتور صدّيقي لأطروحة الحزب السياسي ومنهجه في «التغيير» وراء أكثر كتاباته، وأشهرها الورقة التي عنوَنَها: «ما بعد الدول القومية المسلمة»، والتي أنجزها في المرحلة الثالثة من حياته؛ فكتبها نقدًا لمقاربة بعض المسلمين «الحداثيين»، ورفضًا لبنية الدولة القوميّة الحديثة، باعتبارها بنية غريبة وشاذة على المنظومة القيمية الإسلامية ورؤيتها التوحيدية للأمة. وقد نشرت ترجمتنا لهذه الورقة في سلسلة مراصد التي تُصدرها مكتبة الإسكندرية قبل سنوات ثلاث.
ولد كليم صديقي في الهند «البريطانية» عام 1931م، وتوفي في جنوب أفريقيا عام 1996م. وإذا كان القول باستحالة فهم تلك الحقبة بغير الرجوع لكتابات الدكتور صديقي ينطوي على مبالغة واضحة، فما من أحدٍ فوق التاريخ؛ فإن دراسة حياة الرجل وأعماله تفتح لنا بابًا فريدًا وزاوية مُتجدِّدة لفهم تلك المرحلة. إذ كان الرجل نتاجًا لتلك الحقبة كما كان دارسًا لها. فقد عاشها ودرسها وحللها واستوعبها بكل وجدانه، وذلك كما شارك في تشكيلها جنبًا إلى جنب مع أبناء جيله. فجمع الجهد النظري إلى الحركي، وهي حالة نادرة في أوساط المثقفين المسلمين في الدول ما بعد الكولونيالية. ومن ثم؛ فلا يُمكن فهم أعماله وإنزالها منزلتها، بغير إفراط ولا تفريط؛ إلا في هذا السياق التاريخي.
لقد نشأ كليم صديقي وقضى سنواته المبكرة في الهند والوجود البريطاني يلفظ أنفاسه الأخيرة. وانخرط في صفوف عدّة تنظيمات «إسلامية»، منها ما كان يسعى لإنشاء دولة إسلامية في بعض أجزاء الهند «البريطانية». وبمجرد أن ظهرت دولة باكستان للوجود؛ أدرك صديقي أليس ثم فارق حقيقي بينها وبين الحكم الكولونيالي البريطاني الذي خلَفَتهُ. فانضم لاحقًا لحركة الخلافة في كراتشي، والتي كانت تسعى لتحويل باكستان لدولة إسلامية «حقيقية». ثم أصبح محررًا لصحيفة «ذي إندبندنت ليدر The Independent Leader»، لينتقل مع بعض رفاقه في الحركة إلى لندن في بواكير عام 1950م، رغبة منه في مواصلة دراسته بما يُعزز خدمته للحركة الإسلامية. وهناك حصل على درجة جامعية في الاقتصاد، وتلاها بالدكتوراه في العلاقات الدولية عام 1972م، دارسًا ومتفحِّصًا للتطوّرات الباكستانية في عهد الدولة «المستقلة»، في ضوء محددات ومعالم ومعايير الحكم في العهد الكولونيالي، فضلًا عن تاريخ النخبة الباكستانيّة ودورها في تشكيل دولة باكستان، وأولوياتها السياسية في دولة ما بعد «الاستقلال». وقد كان نشر كتابه الأول [1] كاشفًا لطبيعة النخبة الباكستانية الحاكمة، وانبطاحها التام للغرب. وبرغم أن هذا الكتاب قد أُلِّف بعد اكتمال رسالة الدكتوراه، وتأسست أطروحته على ما بدأه في الدكتوراه؛ فإنه نشر في لندن ونيويورك عام 1972م، بينما لم تنشر الدكتوراه إلا عام 1975م.
ولعل أكثر ما يثير التساؤل بخصوص الدكتور صدّيقي هو محدوديّة انتشار كتاباته، خصوصًا في العالم العربي؛ فأقل القليل مما نُشِرَ عنه بعد وفاته قد أشار لإنتاجه الفكري إلا من لمحة عابرة. وذلك برغم أنه واحد من أهم منظري الحركة الإسلامية في الثلث الأخير من القرن العشرين، جنبًا إلى جنب مع فتحي يكن وسعيد حوى؛ إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
إذ أن أكثر من عرفوه عن قُرب قد ضخّموا نشاطه السياسي، ودعمه للثورة الإسلامية في إيران؛ والمعاهد والمؤسسات السياسية الهامة التي أسسها مثل «مسلم انستتيوت فور ريسرش آن بلاننغ Muslim Institute For Research and Planning»، عام 1977م؛ و«مسلم برلمان اوف غريت بريتان Muslim Parliament Of Great Britian»، في عام 1992م.
لقد كان هذا النشاط بالتأكيد جزءا محوريًا من حياته، لكن تظل دُرَّة أعماله هي تحليلاته الفريدة، والتي تكشف عمق استيعابه لتاريخ وحاضر للعالم الإسلامي. وهو ما طوّره وطرحه في سلسلة من الكتابات المفتاحية والمحاضرات طوال ما يزيد على 25 عامًا من حياته. وهي الكتابات التي تَصُبُّ في تجديد الحركة الإسلامية ومفاهيمها ومجال حركتها.
ونتيجة التعتيم الإعلامي الذي غذَّته الخلافات الأيديولوجية/المذهبية/الحزبيّة، لم يحتل الدكتور صدّيقي للأسف المكانة اللائقة بين منظّري الحركة الإسلامية، فظل رحمه الله مجهولًا للقاريء والمثقف المسلم الناطق بالعربيّة؛ برغم حاجة الأخير لأفكاره أكثر من غيرها. وهو عين ما حدث مع كتابات وحيد الدين خان النقدية لجماعة المودودي الإسلامية في شبه القارة الهندية.
وتتميّز أعمال صدّيقي بأسلوبٍ واضحٍ صارمٍ صادمٍ إلى حدٍ ما؛ لكنه عميق التحليل ثاقِبُ الرؤية. وهو إن كان يرفُض النظام السياسي الغربي المفروض على الأمة منذ رحيل الاستعمار العسكري المباشر، فإنه لا يُلقي الكلام على عواهِنه؛ بل يُبيّن بدقّة وحذق أستاذ العلوم السياسية، وبإخلاص المسلم؛ يُبيّن لم كان هذا الشكل من التنظيم السياسي مُناقِضًا ليس لأهداف الأمة ومعرقلًا لمسيرتها فحسب؛ بل هو مناقض للإسلام ونمط اجتماعه ابتداء.
لقد تنبأ صديقي بالكثير من الظواهر التي استجدَّت على الحركات الإسلاميّة منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين. تنبأ بها ووصَّفَها وحدَّد مكامن الضعف والفساد فيها، ومكامن القوّة. بل إنه كتب مُبشِّرًا بـ «الثورة الإسلاميّة» قبل انتصارها في إيران ببضع سنوات، فكان انتصارها تحقيقًا لبعض مقولاته الهامة، ودليلًا على نفاذ بصيرته.
وقد جمع كليم صديقي بين المنظّر والناشط السياسي، فلم يعزل أفكاره الأصيلة والعميقة الجذور في التربة الإسلامية عن الواقع المتردّي، بل أجاد تمثُّلها والدعوة إليها بأسلوب جمع الجاذبيّة والإخلاص. ولأنه كان صحافيًا مُتميّزًا قبل انخراطه في السلك الأكاديمي، لذا كانت لغته بعيدة كل البُعد عن الجفاف الأكاديمي، وسلسة النفاذ لهدفها مباشرة: إزالة الغبش والتشوّش اللذين ساهم علماء الاجتماع «المسلمون» في تكاثفهما بالمناهج والرؤى التي اجتلبوها من الغرب بغير تبصُّر.
إن محاكاة الدكتور كليم صدّيقي للنموذج التنظيري الغربي، في أطروحته عن «الثورة الإسلامية»؛ تعكِسُ في رأينا شيئًا من التناقُض الكامِن بين رفضه لنموذج الدولة القومية، وتنظيره لثورةٍ يتعلَّق بها تأسيس «الدولة الإسلامية» المنشودة. إذ هي تَعكِسُ في حقيقتها تجريدًا لمحاولة إعادة إنتاجٍ الدولة الحديثة في قالبٍ “إسلامي” أكثر جذرية، قالب يتجاوز الأسلمة “البورجوازية” الظاهرية التي انتقدها في أنظمة باكستان والسعودية وماليزيا مثلًا؛ وهو القالَب الذي عبَّرت عنه الخبرة الإيرانية التي استلهمها. ويبدو أن تصالحه المبدئي مع هذا التناقُض قد تم من خلال إيمانه بأن التجربة الإيرانية ستُثمِرُ حتمًا «دولة إسلامية»، لأنها خرجت من رحِم «ثورة إسلامية». وتكمُن المفارقة أصلًا في إيمانه بأن الثورة آلية «إسلامية» لإعادة بناء الاجتماع الإنساني على أساس التوحيد، ما دام الثوار مسلمون مخلصين؛ ومن ثم كان لزوم النظريّة الثورية، لأية ثورة «إسلامية»؛ مدخلًا طبيعيًا لعمله.
لقد أراد أستاذنا صدّيقي كسر القالب النظري للاجتماع السياسي الغربي، الذي هيمَن على الفضاء المسلم بحركياته وآلياته؛ فإذا به يُعيد إنتاج بعضه بغير وعي، وذلك بعد أن أسبَغ عليه صفة الإسلام. وهي الصفة التي آمن بأنها ملازمة لمصدر إلهامه، الثورة الإيرانية؛ وكل ما يتمخَّض عنه بالضرورة. صحيح أن هذه الأسلمة ليست سطحية مُبتذلة ابتذال أعمال الفاروقي وصبيته، إلا أنها وقعت آخر الأمر في نفس الفخ النظري. ويبدو أن اقترابه أكثر من اللازم من التجربة الإيرانية قد حال بينه وبين الغوص إلى الجذور المعرفية، برغم إدراكه لبعض جوانب القصور الهامة في تلك التجربة شديدة الثراء.
لقد كان صدّيقي مُحقًا في رفض أطروحة الحزب السياسي والديمقراطية «البورجوازية»، التي تبنَّتها التنظيمات الحزبية «الإسلامية»؛ لكن البديل الذي لجأ إليه كان مُنتجًا يدور في نفس الإطار الفلسفي، وإن كان أكثر ألقًا وأشدُّ طهوريّة: البديل الثوري. وهو البديل الذي آل هو اﻵخر، في الخبرة الإيرانية موضع استلهامه؛ لصورةٍ من صور الديمقراطية «البورجوازية». ومن هنا ظل طرحه حبيس الاجتماع السياسي الغربي، ونتيجة للاعتساف النظري؛ بدرجةٍ كبيرة. لكنه، برغم ذلك كله؛ طرحٌ جد عميقٌ، وجديرٌ بالتأمُّل والمدارَسة، خصوصًا ما تعلَّق منه بأهمية الثورة الثقافية وأهمية بناء الإجماع الإنساني. وما ذلك إلا لأن ما أسماه بـ «الثورة الثقافية» و«بناء الإجماع» هما أهم رافدين لإعادة بناء الاجتماع الإنساني على قواعد التوحيد: الدعوة المتجدِّدة، والإجماع على وحدة الوجهة في الحركة بهذه الدعوة.
إن أهميّة استعادة طرح صديقي في هذا التوقيت ليست هي «الإعداد النظري» لثورةٍ مُرتقبة، ولكنها لمراجعة هذا الجهد النظري المهِم، وغير المسبوق؛ في ضوء الخبرة العملية التي مرَّت بها الدول العربية في ربيعها المجهَض، بل وفي ضوء ما آل إليه النموذج الإيراني الذي استلهمه. إنها ستمنحنا إجابات عن أسئلة مركزية تَخُص ماهية وطبيعة نمط الخلاص الاجتماعي الذي يجب أن نبحث عنه، ونقبسه، ونُنتجه. إن العودة لهذه الصفحة اﻵن أمر شديد الأهمية ليس لتجاوزها فحسب، بل لتجاوز أنماط الاجتماع السياسي الغربي قاطبة.
[1] Kalim Siddiqui, Conflict Crisis and War in Pakistan, London Macmillan and New York, Praeger, 1972.