محتوى مترجم
المصدر
MIT technology review
التاريخ
2011/07/01
الكاتب
إم ميتشل والدروب

التقط القرص المضغوط المفضل لك، والآن ارمه على الأرض، وامسحه ببصمات أصابعك. ثم ضعه بدرج المشغل واستمع بينما يخرج صوت الموسيقى نقيًا كأول يوم فتحت فيه الحافظة البلاستيكية للقرص. قبل أن تتابع يومك، خصص لحظة من التفكير للرجل الذي جعلت أفكاره الثورية هذه المعجزة ممكنةً: إنه كلود إلوود شانون.

كان شانون، الذي مات في فبراير 2001 بعد صراع طويل مع المرض، أحد أعظم العمالقة الذين صنعوا عصر المعلومات. جون فون نيومان، آلان تورنج وحالمون آخرون كثر، أعطونا الحواسب التي أمكنها معالجة المعلومات. لكن كلود شانون هو من أعطانا المفهوم الحديث للقفزة الفكرية للمعلومات، والتي تكسبه مكانة توازي مكانة الرؤساء المنحوتة رؤوسهم على جبل راشمور.

انبثق كامل علم نظرية المعلومات من ورقة بحثية مثيرة نشرها شانون عام 1948، عندما كان باحثًا عمره 32 عامًا بمختبرات بيل. أوضح شانون كيف أن مفهوم المعلومات الذي كان من قبل غامضًا يمكن تعريفه وقياسه كميًا بدقةٍ مطلقة. لقد أظهر الوحدة الأساسية لكل وسائط الإعلام، مشيرًا إلى أن النص، إشارات الهاتف، موجات الراديو، الصور، الأفلام وجميع طرق التواصل الأخرى يمكن ترميزها باللغة العالمية للأرقام الثنائية، أو «البتّات» – وهو مصطلح استخدم لأول مرة في مقاله. وضع شانون الفكرة القائلة بأنه بمجرد أن تصبح المعلومات رقمية، يمكن إرسالها دون أخطاء. كانت تلك قفزة فكرية مذهلة أدت بشكلٍ مباشر إلى ابتكار أشياء قوية ومألوفة مثل الأقراص المضغوطة. كتب شانون «مخطط للعصر الرقمي»، حسبما يقول مُنظر المعلومات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، روبرت جالاجير، الذي لا تزال ورقة عام 1948 البحثية تثير رهبته.

لا يشمل ذلك حتى أطروحة الماجستير التي كتبها شانون قبل ذلك بعشر سنوات – التي فصّل فيها المبادئ وراء جميع الحواسب الحديثة.

فعل كلود الكثير في سبيل تمكين التكنولوجيا الحديثة، لدرجة أنه من الصعب أن تعرف من أين تبدأ أو تنتهى. كان لديه هذا الوضوح الرائع في الرؤية -تمتع أينشتاين به أيضًا–، إنها القدرة على تحدي مشكلة معقدة والتوصل للطريقة الصحيحة لبحثها، لتصبح الأمور بسيطة جدًا.
روبرت جالاجير

ترقيع الطريق إلى المستقبل

بالنسبة لشانون، مثّل الأمر برمته طريقة أخرى للاستمتاع. «أحب كلود أن يضحك، وأن يحلم بأمور غير عادية»، حسبما أوضح الرياضي المتقاعد بمختبرات بيل، ديفيد سليبيان، الذي كان زميلًا لشانون في الخمسينيات. باشر شانون الرياضيات مثلما يمارس ساحر على المسرح خفة اليد: «كان يدور حول المشكلة ويهاجمها من ناحية ما كنت لتفكر بها مطلقًا»، وفق سليبيان – فقط ليذهلك بإجابة كانت أمامك مباشرة طوال الوقت. لكن شانون كان لديه أيضًا ذخيرة كبيرة من خدع الأوراق الحقيقية. فقد علم نفسه أن يركب الدراجة الأحادية وأصبح مشهورًا بركوبها في ممرات مختبرات بيل بالليل مع القيام بحركات في الهواء. («لقد كان لاعب جمباز في الكلية، لذا كان مستواه أفضل مما قد تظن»، حسبما أوضحت زوجته بيتي، التي أعطته الدراجة كهدية للكريسماس عام 1949).

في البيت، قضى شانون وقت فراغه في بناء جميع أنواع الماكينات الغريبة. كان هناك «ثروباك» (Throbac)، وهي آلة حاسبة أجرت عمليات حسابية بالأعداد الرومانية. وكان هناك “ثيسوس» (Theseus)، وهي فأرة ميكانيكية بالحجم الطبيعي أمكنها أن تجد الطريق الصحيح عبر متاهة. وربما الأشهر هي «آلتميت ماشين» (Ultimate Machine) – وهي عبارة عن صندوق له مفتاح تحويل كبير في جانبه. عند تشيغل الماكينة من المفتاح، سيرتفع الغطاء ببطء، ليكشف عن يد ميكانيكية تصل إلى الأسفل، تطفئ الماكينة، وتنسحب – لتترك الصندوق مثلما كان.

أوضح شانون: «لقد كنت دائمًا مهتمًا ببناء أشياء لها حركات مضحكة»، في مقابلةٍ أجريت معه عام 1987 مع مجلة «أومني» (وهي واحدة من المرات القليلة التي تحدث فيها عن حياته بشكل معلن). في بلدته الأم بشمال ميشيجان، جيلورد، حسبما تذكر، قضى سنوات طفولته في تجميع نماذج الطائرات، دوائر الراديو، نموذجٍ لقاربٍ يتم التحكم به لاسلكيًا، بل وحتى نظامًا للتلغراف. وعندما دخل جامعة ميشيجان عام 1932، لم يتردد أبدًا بشأن التخصص في الهندسة الكهربائية.

بعد تخرجه عام 1936، ذهب شانون مباشرة إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ليتولى منصب عملٍ ودراسة رأى إعلانًا عنه على بطاقةٍ بريدية معلقة على لوحة إعلانات بالحرم الجامعي. كان عليه أن يقضي نصف وقته للحصول على درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية والنصف الآخر ليعمل مساعدًا في مختبر رائد الحواسب فانيفار بوش، نائب رئيس المعهد وعميد كلية الهندسة. أعطى بوش لشانون مسؤولية المحلل التفاضلي، وهو نظامٌ محكمٌ من التروس، البكرات والقضبان شغل معظم مساحة غرفة كبيرة – والذي يقال أنه كان أقوى آلة حوسبة في العالم في تلك الفترة (اطلع على «الحوسبة بعد السيليكون»، تيكنولوجي ريفيو، عدد مايو/يونيو 2000).

كان المحلل التفاضلي the Differential Analyzer، الذي تصوره بوش وتلاميذه في أواخر العشرينات، وتم إكماله عام 1931، حاسوبًا تناظريًا. فلم يمثل المتغيرات الرياضية بآحاد وأصفار، مثلما تفعل الحواسب الرقمية، بل بمجموعةٍ مستمرةٍ من القيم: الدوران المادي للقضبان. كانت مهمة شانون مساعدة العلماء الزائرين في «برمجة» مسائلهم على المحلل عبر إعادة ترتيب الروابط الميكانيكية بين القضبان، لتتوافق حركاتها مع المعادلات الرياضية المناسبة.

لم يكن ممكنًا أن يجد شانون عملًا مناسبًا أكثر من هذا لإشباع حبه للحركات الغريبة. لقد كان منجذبًا بشكل خاص لدائرة التحكم المعقدة بشكلٍ رائع، والتي تكونت من حوالي مئة «تبديلة» – وهي مفاتيح كهربائية يمكن بشكل أوتوماتيكي فتحها وغلقها بواسطة مغناطيس كهربائي. لكن ما فتنه بشكل خاص كان مدى التشابه الوثيق بين عمليات التبديلات وأعمال المنطق الرمزي، وهو موضوع درسه للتو في سنته الأخيرة بميشيجان. كل مفتاح كان إما مفتوحًا أو مغلقًا – وهو خيارٌ يتوافق بدقة مع الخيار الثنائي في المنطق، حيث يكون البيان إما صحيحًا أو خاطئً. علاوة على ذلك، أدرك شانون سريعًا أن المفاتيح المركبة في الدوائر يمكنها تنفيذ عمليات المنطق الرمزي القياسية. فعلى ما يبدو، لم يتم التعرف على التناظر مطلقًا من قبل. لذلك جعله شانون موضوعًا لرسالة الماجستير خاصته، وقضى معظم عام 1937 في صياغة آثاره. قال لاحقًا لمحاور: «استمتعت بفعل ذلك أكثر من أي شيء آخر في حياتي».


صحيح أم خطأ؟

بالتأكيد تمثل أطروحته، بعنوان «تحليل رمزي للإبدال ودوائر التبديل»، قراءة جذابة – خصوصًا في ضوء ما حدث في الفترة التي تزيد عن 60 عامًا منذ كتابتها. على سبيل المثال، كطريق نحو تحقيق الهدف، أشار شانون إلى أن القيمتين المنطقيتين (صحيح) و(خطأ) يمكن جدًا ترميزهما بالأرقام العددية واحد وصفر. عنى هذا الإدراك أن التبديلات يمكنها إجراء العمليات الحسابية الثنائية التي اعتبرت آنذاك غامضة. وبالتالي، حسبما كتب شانون: «من الممكن إجراء عمليات حسابية معقدة بواسطة دوائر التبديل». على سبيل التوضيح، عرض شانون تصميم دائرة يمكنها جمع أرقامٍ ثنائية.

والأهم من ذلك، أدرك شانون أن مثل هذه الدائرة يمكنها أيضًا إجراء مقارنات. لقد أدرك إمكانية صنع جهاز يستطيع اتخاذ مسارات بديلة للعمل حسب الظروف – كمثال، «إن كان العدد «س» مساويًا للعدد «ص»، قم بالعملية «أ» ». قدم شانون توضيحًا بسيطًا لهذه الإمكانية في أطروحته عبر إظهار كيف يمكن ترتيب مفاتيح التبديل لإنتاج قفل يفتح، فقط، إن ضُغط على سلسلة من الأزرار بالترتيب الصحيح.

كانت الآثار عميقة: فدائرة التبديل يمكنها أن تتخذ قرارًا – وهي قدرة بدت في السابق خاصة بالكائنات الحية فقط. في السنوات التالية، ستلهم احتمالية صنع ماكينات اتخاذ القرار مجال الذكاء الاصطناعي بأكمله، إنها محاولة نمذجة الفكر الإنساني عبر الحاسوب. وربما ليس من قبيل المصادفة أن ذلك المجال سوف يفتن كلود شانون لبقية حياته.

رغم أنه من وجهة نظر أكثر مباشرةً، كانت قدرة دائرة التبديل على اتخاذ القرار هي ما سيجعل الحواسب الرقمية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية أمرًا جديدًا تمامًا. لم تكن قدراتها الرياضية في حد ذاتها هي ما وجده المعاصرون مذهلًا للغاية (رغم أن الماكينات كانت بالتأكيد سريعة للغاية)؛ وحتى في الأربعينيات، كان العالم مليئًا بالآلات الحاسبة المكتبية الكهربائية التي يمكنها القيام بعمليات جمع وطرح بسيطة. ولكن تمثل الجزء المذهل في قدرة الحواسب الجديدة على العمل تحت سيطرة برنامج داخلي، لتقرر بين بدائل مختلفة وتنفذ تسلسلات معقدة من الأوامر من تلقاء ذاتها.

يعد كل ذلك هو سبب اعتبار الأطروحة بعنوان «تحليل رمزي للإبدال ودوائر التبديل»، المنشورة عام 1938، أهم أطروحة ماجستير في القرن العشرين. في مطلع عشرينياته، كان لدى كلود شانون الرؤية الحاسمة لتنظيم العمليات الداخلية لحاسوب حديث – قبل عقد تقريبًا من مجرد وجود مثل هذه الحواسب. في السنوات الفاصلة، تقدمت تكنولوجيا التبديل من التبديلات الكهروميكانيكية إلى الترانزستورات متناهية الصغر المحفورة على السليكون. لكن حتى يومنا هذا، لا يزال مصممو الرقائق يتحدثون ويفكرون من ناحية «المنطق» الداخلي لرقائقهم – وهو مفهوم منقول إلى حد كبير من أعمال شانون.


معلومات مثالية

أشار شانون إلى أن القيمتين المنطقيتين (صحيح) و(خطأ) يمكن جدًا ترميزهما بالأرقام العددية واحد وصفر وعنى هذا أن التبديلات يمكنها إجراء العمليات الثنائية الغامضة
صاغ شانون تعبيرًا رياضيًا لمفهوم المعلومات فقال إنه على الأقل في أبسط الحالات كان محتوى المعلومات الخاص برسالةٍ هو عدد الآحاد والأصفار الثنائية المطلوب لترميز الرسالة

بتشجيعٍ من فانيفار بوش، قرر شانون متابعة درجة الماجستير خاصته بدرجة دكتوراه في الرياضيات – وهي مهمة أكملها في عام ونصف فقط. بعد فترة ليست طويلة من حصوله على هذه الدرجة في ربيع عام 1940، انضم إلى مختبرات بيل. وبما أن دخول الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية كان بوضوح مسألة وقت فقط، انضم شانون مباشرة للعمل على مشروعات عسكرية مثل التحكم في النيران المضادة للطائرات والتشفير (صنع الشفرات وكسرها).

رغم ذلك، وجد شانون دائمًا وقتًا للعمل على نظرية الاتصالات الأساسية، وهو موضوع أثار اهتمامه قبل ذلك بسنوات. «على نحو متقطع»، حسبما كتب شانون إلى بوش في فبراير 1939، في رسالة محفوظة الآن في محفوظات مكتبة الكونجرس، «لقد كنت أعمل على تحليلٍ لبعض الخصائص الأساسية للنظم العامة لإرسال المعلومات، بما يشمل الاتصالات الهاتفية، الإذاعة، التليفزيون، والتلغراف، إلخ». ولإحراز تقدم تجاه ذلك الهدف، احتاج إلى طريقةٍ لتحديد ما يتم نقله أثناء حدوث الاتصالات.

على أساس العمل الذي قام به المهندس بمختبرات بيل، رالف هارتلي، صاغ شانون تعبيرًا رياضيًا دقيقًا لمفهموم المعلومات. حيث قال شانون إنه على الأقل في أبسط الحالات كان محتوى المعلومات الخاص برسالةٍ هو عدد الآحاد والأصفار الثنائية المطلوب لترميز الرسالة. إن علمت مسبقًا أن رسالةً ستحمل خيارًا بسيطًا – نعم أو لا، صحيح أو خطأ – فإن رقمًا ثنائيًا واحدًا سيكون كافيًا: فالإجابة بواحد فقط، أو صفر فقط، ستخبرك بكل ما تحتاج إلى معرفته. وبالتالي يمكن تعريف الرسالة بأن بها وحدة واحدة من المعلومات. وعلى الجانب الآخر، ستتطلب رسالة أكثر تعقيدًا ترميز عددٍ أكبر من الأرقام، وستحتوي على مزيدٍ من المعلومات بنفس القدر؛ فكر بشأن آلاف أو ملايين الآحاد والأصفار التي تشكل ملفًا لمعالجة النصوص.

مثلما أدرك شانون، هذا التعريف كانت له جوانبه الضارة. فالرسالة قد تحمل فقط وحدة ثنائية واحدة من المعلومات – «نعم» – لكنها قد تحمل معنىً كبيرًا جدًا – كمثال، «نعم، سأتزوجك». لكن وظيفة المهندسين كانت أن يحولوا المعلومات بأقل حد من التشويه، بغض النظر عن محتواها. وتحقيقًا لهذا الغرض، كان التعريف الرقمي للمعلومات مثاليًا،لأنه أتاح التحليل الرياضي الدقيق. ما هي الحدود لقدرة قناة اتصال؟ كم من تلك القدرة يمكنك استخدامه عمليًا؟ ما هي الطرق الأكثر فاعلية لترميز المعلومات للإرسال في الوجود الحتمي للضوضاء؟ …. سنكمل الحكاية في المقال القادم.