في بداية التسعينيات تعرف تارنتينو على لورانس بيندر في إحدى الحفلات، وضع الأخير مليونًا واحدًا فقط تحت تصرف تارنتينو، كان هذا المليون كافيًا ليدهش تارنتينو الوسط السينمائي عبر باكورة أفلامه Reservoir Dogs. 

في 1994 صعد المخرج الشاب كونتن تارنتينو صاحب الواحد وثلاثين عامًا ليتسلم السعفة الذهبية في مهرجان كان، كان حدثًا هامًا واستثنائيًا على ثلاثة أصعدة، الأول هو صغر سنه وكونه ثاني الأفلام في مسيرته، الثاني هو، أنه فاز بالجائزة متفوقًا على Three Colors: Red الفيلم الختامي في مسيرة البولندي الكبير «كشيشتوف كيشلوفسكي»، الثالث، هو رد فعل تارنتينو الذي أشار بإصبعه الوسطى لإحدى الحاضرات عندما اعترضت على فوزه بالجائزة!

عالم فارغ يمتلئ

قبل صدور الفيلم قال تارنتينو في أحد الحوارات:

 أنت تعلم قواعد الصنف والأمور المتداول عليها في هذا العصر، آمل أن أتحرك بالأمور بشكل لم تره من قبل .

تارنتينو عبر عرضه لمجموعة من القصص المنفصلة، التي ترتبط بشكل أو بآخر خلال أحداث الفيلم، يحاول نسف الأسلوب السردي الذي اعتادت أن تلتزم به الأفلام في هذا الوقت، سيناريو الفيلم يتحرك في مسار أشبه بالدائرة، المشهد الافتتاحي هو البداية والنهاية، لص ولصة كلاهما يفتقد للخبرة في هذه الأمور ويتخوفان من فشل عمليات السرقة، يجلسان في أحد المطاعم ويتناقشان عن أكثر الأماكن أمانًا للسرقة، وفجأة يقرران أن أحد هذه الأماكن هو هذا المطعم الذي يجلسان فيه!

يمتد اختلاف بناء الفيلم إلى العالم الذي تدور فيه الأحداث، عالم Pulp Fiction رغم أنه في الظاهر فيلم عصابات تقليدي فإنه عالم غير مألوف يحوي شخصيات غريبة، في هذا العالم رجال عصابات يقومون بمهمة بزي رسمي، يمارسون القتل كفعل عادي لكنهما يعجزان عن إزالة الدماء من السيارة، مجرم يتلو آيات دينية قبل قتل ضحاياه، زعيم عصابة يتم اغتصابه، رجل لا يمانع إخفاء جثة في منزله ولا ينزعج من الدماء لكنه يخشى من رد فعل زوجته، رجل يضحي بحياته لأجل ساعة تعود ملكيتها إلى جده! 

هذا العالم يمكن استيعاب ما يحدث فيه عند محاولة إيجاد المعنى الأقرب لاسمه، خيال رخيص أو خيال شعبي، تارنتينو يخلق هذا العالم مستمدًا إياه من الثقافة الشعبية الأمريكية، عالم الجريمة عند تارنتينو في Pulp Fiction يمتاز بالبساطة ويتجرّد من الثيمات التي انتشرت في أفلام العصابات السابقة، رجال العصابات تتحدث عن الطعام وتمارس حياتها العادية وتتحدث بلغة الشارع الأمريكي، هذه البساطة في خلق العالم الفيلمي تجعل الشخصيات أقرب إلى المشاهد وبالتالي تصبح العبثية المنتشرة في أحداث الفيلم قابلة للهضم والاستيعاب، بالإضافة إلى هذا، تارنتينو يمنح كل شخصية في الفيلم إطارًا مختلفًا بشكل يجعلها حية ومميزة ولها كيانها الخاص، فنسنت الوسيم صاحب الشعر الطويل وجولز داكن البشرة صاحب الشعر الكثيف وبوتش الملاكم الأصلع وميا صاحبة الشعر القصير.

أحد الأمور المكملة للعبة تارنتينو المحكمة هو تمهله في سرد حكايته، وابتعاده عن الإيقاع اللاهث الذي اتسمت به أفلام الجريمة، بل إنه طعّم مشاهده بالكوميديا السوداء في أكثر مشاهده عنف ودموية -مشهد قتل مارفن في السيارة-  ليعيد خلق العنف ويجعله مشبعًا بأكثر الأمور عفوية في الإنسان وهو الضحك. تارنتينو ينثر الكثير من التفاصيل، حتى يستطيع ملء الفراغات التي لم يسبق لهوليوود أن أعارتها انتباهًا في تاريخها كله، وهو الأمر الذي استمر معه خلال مسيرته. 

غياب المعنى

في افتتاحية الفيلم يدور نقاش بين جولز وفنسنت حول اسم نوع من أنواع البرجر، هذا التساؤل ووضعه في الافتتاحية تحديدًا لا يمكن أن يكون عشوائيًا أو محض صدفة، في أحد المشاهد ينادي رينجو على النادلة «جارسون» لكنها تخبره أن هذا اللفظ في فرنسا يعني (فتى)، وفي مشهد آخر يقول «بوتش» إن الأسماء في أمريكا لم تعد تعني شيئًا.

شخصيات الفيلم وجدالها عن المسميات يضرب في عمق الثقافة الشعبية في أمريكا، تلك التي تحولت إلى شيء لا معنى له تغيب فيه القواعد ولا تخضع لشيء، وهو ما يمكن فهمه من خلال تقديم بعض الشخصيات من عمق هذه الثقافة مثل العارضة التي تشبه مارلين مونرو أو المطرب الذي يشبه ريكي نيلسون أو المذيع الذي يشبه إد سوليفان، ويمتد هذا الأمر إلى ذهن المشاهد أيضًا الذي يظل لفترة طويلة يتساءل عن كل هذه الدماء التي تُسال في أفلام تارنتينو، الحقيقة أن العنف عند شخصيات تارنتينو من الضروري ألا يبرر، وجوده مقصوداً لذاته.

دائمًا ما أعلن تارنتينو الولاء لسينما الانتقام والعنف وجعلهما محركًا أساسيًا في كل أفلامه باختلاف نوع الانتقام أو دوافعه، تارنتينو في تقديمه لفلسفة العنف عند شخصياته يداعب الجوانب الخفية لدى الإنسان، تلك التي قد تُساق بدوافع بربرية لا أثر فيها للرحمة، المشاهد يتساءل أيضًا عن محتوى الحقيبة اللامع التي استعادها فنسنت وجولز بعد سرقتها من زعيمهم، حين سُئل تارنتينو عن معنى هذا قال: إن الحقيبة تحتوي ما يتخيله المشاهد، لماذا إذًا أهتم فنسنت وجولز باسترجاعها رغم عدم العلم بمحتواها؟ تارنتينو في فيلمه بنى النص على غياب المعايير في الثقافة الشعبية، فنسنت يقوم بالمهمة رفقة جولز ولم يتساءلا عن محتواها أو أهميتها، فعلًا ذلك فقط لأن الزعيم يريد، وفي أحداث أخرى جيمي يريد التخلص من الجثة خوفًا فقط من انتقام زوجته

الملاحظ في الفيلم أيضًا أن غياب المعايير يمتد لنوعية الشخصيات نفسها، لا يوجد أطراف تنتمي للخير أو للشر حتى مع تحولها خلال الأحداث واختلاف دوافعها، ولا يستطيع المشاهد تحديد جانب يتعاطف معه.

تحية للمعلمين

تارنتينو لم يدرس السينما، لكنه استمد خبرات من مشاهدته للعديد من الأفلام أثناء عمله في محل فيديو، في Pulp Fiction يخترع تارنتينو قواعد جديدة ولا يخجل من الانحناء لمعلميه وملء فيلمه بالعديد من الإشارات لأفلام سابقة.

حين نتأمل قصة الملاكم بوتش الذي انخرط في عالم الجريمة رغمًا عنه، نجدها تتقاطع مع تحولات شخصيات أفلام السبعينيات في هوليوود، مثل شخصية «مايكل كورليوني» في فيلم العراب، أو شخصية «ترافيس بيكل» في سائق التاكسي. 

بوتش ملاكم خسيس كان من المفترض أن يخسر أمام ملاكم اسمه «ويلسون»، وهو نفس اسم الملاكم الذي هزم «تيري مالوي» في فيلم On the Waterfront، لكنه يقرر أن يحتال ويضع رهانًا على نفسه ويفوز بشرط أن يهرب من الزعيم (مارسيلس والاس». ومغامرته تنتهي بقتل المجرم «فنسنت» بدم بارد، وبإنقاذ «والاس» نفسه بعد اغتصابه وقتل «ليونس» بسيف يشبه سيوف أفلام الساموراي اليابانية التي صرح تارنتينو بحبها أكثر من مرة. 

الحقيبة في الفيلم مثل الحقيبة في النوار الشهير Kiss Me Deadly وشخصية The Wolf أداها هارڤي كيتل سابقًا في فيلم Point of No Return

ميا والاس تنادي فنسنت Cowboy وهو دور ترافولتا في فيلم Urban Cowboy بينما فنسنت ينادي ميا Cowgirl وهو دورها في فيلم Even Cowgirls Get the Blues

الكتاب الذي يقرؤه فنسنت في الحمام Modesty Blaise يقوم فيه القاتل بإلقاء كلمات بصوت عال قبل تنفيذ المهمات مثل شخصية جولز في الفيلم. 

شخصيّات وتحوّلات

بعد تكرار المشاهدة لهذا الفيلم يتضح أن شخصياته رغم فراغها الظاهري فإنها متماسكة في إطار الحدث، فنسنت حين يعلم أن جولز يريد التوبة يعتريه خوف شديد، هذا الخوف لا يتعلق بمصير جولز نفسه، لكن لأن فنسنت فكر في هذا من قبل لكنه فضل البقاء كما هو لأن ما يحركه هو الخوف، فنسنت يريد الاستمرار لأنه يشعر بقوة السلاح ويخشى فقدانه والاتجاه لعمل آخر، ووقت نجاتهم من الرصاص الذي أُطلق عليهم فنسنت رأى في ذلك مجرد حظ جيد، فنسنت أجبن من أن يرى حقيقة الأمور ويغير معتقداته، في المرة الأولى، ينظر إلى مكان الإصابة ولا يجد شيئًا، وفي المرة الثانية، ينظر إلى مكان الرصاصة لكنه يجد الجرح الذي يودي بحياته.

أما جولز الذي يتلو نصًا دينيًا قبل قتل ضحاياه يعتبر نفسه يمتلك قوة جبارة، ويرى في نفسه الراعي الصالح، لكن حينما ينجو من الموت بمعجزة وتخطئه الرصاصة، في واحد من أعنف مشاهد الفيلم، يدرك أن هناك راعياً صالحاً حقيقياً غيره، لم يقتل رينجو لأنه رأى في نهاية الأمر أنه أضعف من أن يمارس فعل القتل.

بينما الملاكم بوتش الذي يبحث عن البطولة دومًا، وهذا الأمر الذي يجعله يخدع مارسيلس والاس ويقرر الفوز في المباراة، عكس ما فعله تيري مالوي في فيلم On the Waterfront، بوتش لا يريد أن يصبح نكرة، يراهن على نفسه ويفوز ويقتل خصمه ويقرر الهروب، هذا البحث عن المجد هو ما يدفعه إلى العودة للحصول على الساعة التي تنتمي إلى جده وتعني له المجد المتأصل في عائلته العسكرية، وعندما يجد مارسيلس يتعرض للاغتصاب ينقذه لأنه يرى نفسه بطلًا كعائلته، هوسه بالمجد والبطولة كان أقوى من غريزة النجاة، وفعل القتل يتم بسيف ساموراي ياباني في إشارة واضحة للهوس بالتراث والبطولة.