الفيزياء الكلاسيكية ببساطة واختصار
مصطلح الفيزياء الكلاسيكية؛ يطلق بشكلٍ عام على كل نظريات الفيزياء التي تم استبدالها بنظريات حديثة ذات قدرة أكبر على تفسير الظواهر الفيزيائية المختلفة، وهي نظريات ما قبل عصر النظرية النسبية والكم. فقوانين «نيوتن» للحركة، ومعادلات «ماكسويل» لتوصيف المجال الكهرومغناطيسي، والنظرية الكلاسيكية للديناميكة الحرارية، ونماذج ما قبل الكم لتكون الذرة مثل «نماذج راذرفورد، وبور»؛ يعتبرون فيزياء كلاسيكية.
وعلى الرغم من أن بعض النظريات الكلاسيكية ما زالت صالحة بالفعل لتفسير الكثير من المشاهدات اليومية؛ إلا أنها أثبتت عجزها في تفسير المشاهدات العلمية المحددة.
هذه المشاهدات مثل؛ تركيب الذرة، وسرعة الضوء وتأثره بالجاذبية، ونشأة الكون، وغير ذلك من المواضيع. لكن ما زال استخدامها حاضرًا في تفسير وشرح بعض المشاهدات البسيطة والتي لا تحتاج لتعقيدات فيزياء الكم والنسبية.
بداية الفيزياء الكلاسيكية كانت منذ أيام «أرسطو»، ثم «جاليليو، وكبلر»، ثم «نيوتن» الذي ما زالت تستخدم قوانينه لوصف الحركة حتى الآن على مستوى الأحداث اليومية. بداية البحث في الفيزياء الكلاسيكية قديمًا كانت دائمًا نتيجة لأسئلة الفلاسفة اليونانيين عن الحركة.
لماذا تتحرك الأشياء؟ لماذا يتحرك جسم ما بسرعة أكبر من جسم آخر؟ لماذا يسقط الجسم تجاه الأرض عند تركه في الهواء؟ لماذا تتحرك الأجسام المضيئة في السماء؟
إجابتهم لتلك الأسئلة كان أغلبها إجابات خرافية لا يتذكرها التاريخ حتى. كان الفلاسفة يعتمدون في محاولاتهم لإجابة الأسئلة العلمية على التأمل والتفكير، لا على التجريب. ولذلك كانت إجابتهم دائمًا ما تكون خاطئة وخيالية. نذكر منها النظرية الشهيرة التي تقول أن الكون يتكون من 4 عناصر تختلف نسبها من مادة لأخرى، وهي الأرض والماء والهواء والنار.
كما أن الفلاسفة ذلك الوقت كانوا يعتقدون بوجود نوعين فقط من الحركة. الحركة الطبيعية، والحركة العنيفة. الحركة الطبيعية؛ هي التي يتحركها أي جسم بدون مؤثر خارجي، بينما الحركة العنيفة؛ هي وجود قوة أو مؤثر خارجي يدفع الجسم في اتجاه معين.
الطبيعة عند اليونان ومسيحية القرون الوسطى
قدم «أرسطو -Aristotle» (385-322 ق.م) تفسيره الخاص لحركة الأجسام المضيئة في السماء يقول فيه؛ أن الأرض هي مركز الكون الثابت ولا تتحرك، وأن كل ما نراه في السماء من شمس وقمر ونجوم يدور حول الأرض.
وأضاف عنصرًا خامسًا لتركيب الكون أطلق عليه «الأثير». كان يطلق على الأثير «المادة الإلهية» التي تحيط بالكون. وجاء «كلاديوس بطليموس -Claudius Ptolemy» (180-90) ليقدم نموذجًا لتلك الحركة طبقًا لتفسير «أرسطو» وقال فيه؛ أن القمر والنجوم والكواكب تتحرك في دوائر مكتملة حول الأرض، وذلك لأن الدائرة هي الشكل الهندسي المثالي حسب رؤيته.
مع بداية العصور المظلمة في أوروبا (400 – 1400 ميلادية)؛ سيطرت الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد العلم لفترة طويلة، وأرست فيها نموذجًا دينيًا لاهوتيًا لتكوين الكون غير قابل للنقض أو المعارضة، وتصديقه أحد شروط الإيمان، يعتمد على ثبوتية ومركزية الأرض، وأُطلق عليه «المدرسية -Scholasticism».
*المدرسية: هو اسم يطلق على التعاليم الفلسفية الكاثوليكية في القرون الوسطى التي كانت تدرس في مدارس الكنيسة.
هذا النموذج هو مزيج من نظرية العناصر الأربعة، و«أرسطو» مع نموذج الدوائر لـ«كلاديوس». وكانت هذه النظرية من الثوابت العلمية التي تدرس في المدارس والجامعات وقتها، وكان من يُخالفها يعتبر ملحدًا، ويحاكم ويقتل. وخلال 1000 عام تقريبًا، أحبطت المؤسسة الكنسية الكثير من المحاولات العلمية الجادة لإثبات خطأ هذا النموذج، حتى جاء «كوبرنيكوس، وجاليليو».
الثورة الكوبرنيكية وفيزياء عصر النهضة
«كوبرنيكوس» أول من عرض نموذج مركزية الشمس، مخالفًا للنموذج الكنسي. يقول في نموذجه؛ أن الشمس هي المركز، وأن الكواكب تدور حولها في مدارات، وأن الأقمار تدور حول الكواكب. رفضت الكنيسة هذا النموذج ومنعت كتاب «كوبرنيكوس» بعنوان «On the Revolutions of the Heavenly Spheres».
جاء «غاليليو غاليلي -Galileo Galilei» (1642-1564) بعد «كوبرنيكوس» ليؤكده بل ويعارض التفسير اليوناني القديم للحركة. فقد استخدم «جاليليو» التليسكوب ليثبت صحة نموذج مركزية الشمس، كما اكتشف أيضًا أقمار المشترى، والبقع الشمسية، وفوهات القمر المختلفة. كما أثبت بتجاربه تسارع الأجسام عند السقوط الحر وبنفس معدل التسارع.
1. القانون الأول: تدور الكواكب حول الشمس في قطع ناقص، والشمس هي أحد مركزيه.
2. القانون الثاني: سرعة الكوكب في دورانه حول الشمس تختلف تبعًا لبعده عنها، فإذا كان قريبًا، فإنه يدور بسرعة أكبر، حيث تتساوى مساحة المثلثين المشكلين فيما بين الشمس وقوس المسافات المغطاة، من كوكبين في نفس الوقت.
3. القانون الثالث: مربع الفترة المدارية لكوكب، يتناسب مع مكعب نصف المحور الرئيسي لمداره.
نيوتن والجاذبية
جاء السير «إسحاق نيوتن -Isaac Newton» (1727-1643) الذي يعتبر أحد أهم رواد الفيزياء التجريبية، كما أنه أسس علم «التفاضل والتكامل» حتى يستطيع إثبات نظرياته عن الحركة والقوة حسابيًا. يمكن تطبيق قوانين نيوتن للحركة على حركة الأجسام المتحركة بالقرب من مجال جاذبية؛ كالأرض، كما تنطبق أيضًا على حركة الكواكب. كان «نيوتن» أول من تحدث عن الجاذبية، وعن تأثيرها الذي لا يحتاج لتقارب الأجسام. فالأجسام شديدة البعد عن بعضها البعض، تتأثر بالجاذبية أيضًا.
تصف قوانين نيوتن الثلاثة حركة الأجسام، وتنص على الآتي:
1. القانون الأول: يظل الجسم على حالته الحركية (إما السكون التام أو الحركة في خط مستقيم بسرعة ثابتة)، ما لم تؤثر عليه قوة تغيره من هذه الحالة.
2. القانون الثاني: إذا أثرت قوة أو مجموعة قوى على جسمٍ ما؛ فإنها تكسبه تسارعًا يتناسب مع محصلة القوى المؤثرة، ومعامل التناسب هو كتلة القصور الذاتي للجسم.
3. القانون الثالث: أن لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوٍ له في المقدار ومضادٌ له في الاتجاه.
أكد «نيوتن» إمكانية التنبؤ رياضيًا بمسار حركة أي جسم بمعرفة مكانه، والقوى المختلفة المؤثرة عليه. تم تطوير قوانين «نيوتن» بعد ذلك لتنطبق على الغازات فيما يعرف بــ«النظرية الحركية للغازات».
تم وصف الغاز المثالي فيزيائيًا في «قانون الغازات المثالية -Ideal gas law». تستخدم تلك القوانين في حساب كمية، وضغط، وطاقة الغازات في وعاء مغلق. كما غيرت النظرية الحركية لنيوتن بعض المفاهيم الخاصة بالطاقة، وربطت بين الطاقة الحركية، والطاقة الحرارية الداخلية للجسيمات. تبلور كل هذا في «النظرية الديناميكية الحرارية» بعد ذلك. تعتبر أفكار «نيوتن» ونظرياته ومعادلاته وقتها ثورة في العلم، امتد تأثيرها على جميع العلماء بعد ذلك.
الكهرومغناطيسية وماكسويل
النقلة العملاقة الثالثة بعد «غاليليو، ونيوتن»؛ كانت بسبب «جيمس كلارك ماكسويل -James Clerk Maxwell» (1879-1831)، والذي كان لمعادلاته أثر بالغ في فهم الطاقة الكهرومغناطيسية. فبعد أن ربط «هانز أورستد – Hans Christian Ørsted» بين المجال المغناطيسي والتيار الكهربي، والتجارب على الطاقة الكهرومغناطيسية بدأت ولم تنته. أيضًا كان «مايكل فاراداي – Michael Faraday» و«اللورد كلفن – Baron Kelvin» إسهامات واسعة في هذا المجال.
بنى «ماكسويل» معادلاته على تجاربهم. فـ«ـفاراداي» حاول استغلال الطاقة الكهربية لتوليد حركة، كما حاول تخزين التيار الكهربي كيميائيًا، وأجرى تجارب حول «الحث الكهربي التبادلي -mutual induction»، وله الكثير من الإسهامات التجريبية الأخرى. كما أن «كلفن» له الكثير من التجارب في مجال الديناميكا الحرارية، نذكر منها «تحديد الصفر المطلق»؛ وهي أقل درجة حرارة يمكن أن تتواجد فيها المادة وتصل لــ(°273.15-). كما أنه أول من اخترع «المقياس الجلفاني -Mirror galvanometer» لكشف وجود تيار كهربي.
كانت إنجازات «فاراداي، وجلفن» إنجازات تجريبية، وليس لها إثباتات أو تفسيرات رياضية واضحة. وما فعله «ماكسويل» هو أنه استطاع أن يصوغ المعادلات التي تصف وتوضح المشاهدات التجريبية التي كان يجريها الكثير من العلماء ذلك الوقت. كما كان لمعادلاته تأثير في كشفت الغموض عن الكثير من الظواهر الكهرومغناطيسية، بمقاييس تلك الأيام.
فقد استطاع «ماكسويل» بمعادلاته أن يثبت أن الكهرومغناطيسية هي موجة لها تردد، ولها سرعة. كما استطاع حساب سرعة الضوء رياضيًا بشكلٍ تقريبي، واستطاع إثبات أن كل الموجات الكهرومغناطيسية تنتقل في الفراغ بسرعة الضوء!.
بنية الذرة وماهية المادة
على الرغم من تزايد وتيرة تطور العلم في القرن التاسع عشر، واعتماد العلماء على التجريب وعلى التفاضل والتكامل في إثبات النظريات العلمية بدلًا عن التأمل والتفكر والفلسفة البحتة؛ إلا أن لغز ماهية المادة لم يُجب عنه بعد. جرت العديد من المحاولات لمعرفة تكوين المادة، منها محاولات «أنطوان لافوازييه -Antoine Lavoisier» ومحاولات «جون دالتون – John Dalton»، حتى استطاع «جوزيف طومسون – J. J. Thomson» إثبات وجود أجزاء أصغر من الذرة؛ باكتشافه الإكترونات أثناء تجاربه على «أشعة المهبط – cathode rays».
جاء «راذرفورد» عام 1909 بنموذج ذري جديد بعد دراسة وتحليل تجاربه مع «هانز جايجر، وإرنست ماريسدن». وقام راذرفورد مع مساعديه بتوجيه أشعة ألفا على شرائح معدنية شديدة الرقة، وقياس انعكاس وانكسار الأشعة على لوحات فلورنسية.
استنتج من شكل ارتداد الأشعة؛ أن الذرة تتكون من كتلة مركزية صغيرة الحجم موجبة الشحنة، يحيط بها فراغ كبير تسبح فيه الالكترونات السالبة، ويشبه تكوين الذرة في «نموذج راذرفورد -Rutherford model» المجموعة الشمسية. لكن لم يتوقف الأمر عند ذلك. فقد استخدم «بور» عام 1911 مبدأ الكم لـ«ماكس بلانك» لوضع بعض التعديلات على نموذج «راذرفورد»، وقدم «نموذج بور – Bohr Theory» للذرة تدور فيه الإكترونات في مدارات طاقة ثابتة حول النواة، وتنتقل من مدار لآخر باكتساب أو فقد كم محدد من الطاقة.
أحد جوانب القوة في نموذج «بور»، هو إمكانية قياس كمات الطاقة بين المدارات الإلكترونية المختلفة بشكل فريد لكل عنصر، باستخدام «المقياس الطيفي -spectroscopy». لكن نموذج «بور» كان به بعض القصور في تفسير بعض الظواهر الذرية، كما أنه يخالف معادلات «ماكسويل» للطاقة الكهرومغناطيسة.
فثبات الإلكترون في مدارات طاقة محددة؛ يعني أنه لا يمكن للذرة أن تولد مجالًا كهرومغناطيسيًا بشكلٍ مستمر، وهذا يتنافى مع المشاهدات التجريبية. كما أن نموذج «بور» لا يمكن تطبيقه على الذرات الثقيلة، والمعقدة ذات الأعداد الكتلية الضخمة.
حاول «بور» بشكلٍ مستمر التعديل على النموذج الخاص به، لكن -وبشكل متزامن- كان هناك تأسيس جديد لعلم الفيزياء برعاية ألمانية على يد «آلبرت آينشتين، وماكس بلانك». فقد طرح «آينشتاين» نظرية النسبية الخاصة عام 1905، كما قدم «ماكس بلانك» مبدأ «الكم -quantum» الذي استخدمه «بور». دعم «آلبرت آينشتاين» مبدأ الكم في بدايته. ثم طرح «هايزنبرج – Werner Heisenberg» مبدأ «عدم اليقين – uncertainty principle».
أحدثت النسبية والكم رجّة عملاقة في الأفكار الفيزيائية المتداولة، ويعتبرا هما البداية الحقيقية لعصر جديد من الفيزياء نحى أغلب قناعات الفيزياء الكلاسيكية جانبًا، وبدأ في بناء قناعات جديدة، ووضع قواعد جديدة تمامًا لما كان الكلاسيكييون يعتبرونه «حقائق لا غبار عليها». وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا!