الرأسمالية ومعاداة السامية: الجذور الطبقية للصهيونية
اشتُهرت النازية بمظهرين: البربرية تجاه أعدائها، والعنصرية المتمثلة في الإيمان بسيادة العرق الآري. غير أن كثيرين لم يلتفتوا إلى الجوهر الطبقي الكامن وراء هذين المظهرين، وهو الطموح الإمبريالي للبرجوازية الألمانية، التي حطمها الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
بالمثل يمكننا القول إن الصهيونية اشتُهرت بمظهرين رئيسيين: البربرية تجاه أعدائها، بربرية تُمارس عبر المدى الزمني الممتد منذ تبلور المشروع الصهيوني في الأرض العربية إلى هذه اللحظة التي تمثل نقلة نوعية في هذا المظهر البربري للصهيونية، أما المظهر الآخر فهو العنصرية المتمثلة في القول بتفرد «الشعب» اليهودي.
تُصوَّر الصهيونية مع ذلك كنقيض للنازية، ويستند هذا التصور إلى بربرية الرايخ الألماني ضد اليهود في ألمانيا وبولندا، وغالبًا ما يتم استعادة الحديث عن غرف الغاز والمحرقة وما إلى ذلك عندما يأتي الحديث عن نشأة وتطور الصهيونية، لكن هناك جزءًا من الحكاية لا يُروى عادة، لعدة أسباب محتملة، إما لأنه لا يُرضي خيال جزء من الجمهور، وإما لأنه غير ممكن ظاهريًّا، وإما لأنه يكشف خطأ سردية معينة، وفي حالتنا هذه، تدخل الاحتمالات الثلاثة في المعادلة.
المسألة اليهودية ومعاداة السامية
عبر تاريخ الصراع العربي الصهيوني، كثيرًا ما كانت الجهود العربية الرامية لكشف حقيقة الصراع مع الصهيونية تُرمى بتهمة العداء للسامية، بأن العرب يخوضون حربًا عنصرية ضد “الشعب” اليهودي، وقد كان سيف العداء للسامية بتارًا في الغرب خصوصًا، وحاسمًا في أحيان كثيرة بما يؤدي إلى عدم الالتفات للقضية العربية، ظل الرأي العام الغربي متحصنًا وراء تهمة العداء للسامية في كل ما يتعلق بأي نقد ولو مخفف للصهيونية وللكيان الصهيوني، ربما لأن العداء للسامية قد نشأ وتطور قولًا وممارسة في الفضاء الأوروبي.
نشأت المسألة اليهودية منذ القدم، وتبلورت في قلب المجتمع الإقطاعي، حين برز دور اليهودي كوسيط بين وحدات اقتصادية منبتة الصلة بعضها ببعض، كان اليهودي هو وسيط التبادل بين مجتمعات لا تنتج من أجل التبادل، أي قبل نشأة السوق بمفهومها المتطور، كان الإنتاج متخلفًا، والتبادل في أدنى مستوياته، وكان اليهودي هو وسيط هذا التبادل، تاجرًا، أو مرابيًا، يقرض الإقطاعيين والفلاحين بفوائد مرتفعة، وكان الفلاح غالبًا ما يسقط لقمة سائغة في أيدي المرابي الذي ينتزع منه محصوله، أو أرضه.
مع انفصال الحرف عن الزراعة وبداية تشكل المدن، وتفسخ النظام الإقطاعي، بدأت السوق تنمو، وبدأت الرأسمالية التجارية تتشكَّل، وقد وجدت تلك الأخيرة نفسها في تناقض مباشر مع اليهودي الذي كان جزءًا لا يتجزأ من نظام إنتاج قديم ومتخلف، يرتبط بقاء المهنة الاجتماعية التي مارسها اليهودي ببقاء هذا النظام، ويتوقف نمو الرأسمالية على تحطيم هذا النظام وعلاقاته، لذا كان بروز الرأسمالية التجارية بحلول القرن السادس عشر إيذانًا بأول موجات اضطهاد اليهود، خاصة في الوقت الذي ازداد فيه اعتماد الإقطاعيين على المال اليهودي في وجه الطبقة الصاعدة الجديدة، كان هذا الإقطاعي يقترض ليواجه أعباءَه الإضافية وكان غالبًا ما يفشل في الوفاء بقروضه لليهودي، وكثيرًا ما كان الإقطاع المحلي يدبر لليهود المحليين مذبحة ليتخلص من ديونه، بالإضافة لنقمة الفلاحين الذين كانوا أشد تضررًا، هكذا، وبتبسيط مخل، تبلورت معاداة السامية، تبلورت مع بداية تفسخ الإقطاع وصعود الرأسمالية كقوة طبقية جديدة، ضد المجتمع القديم وسادته، والمنتفعين من بقائه ومن تخلف مستوى إنتاجه.
كانت الرأسمالية كلما تقدمت خطوة على طريق تحقيق هيمنتها، عمَّقت العداء لليهود كبقايا نظام يتحلل، العداء للمهنة الاجتماعية لليهود الذين كانوا محط نقمة الجميع، الفلاح والإقطاعي والرأسمالي. وكلما كانت الرأسمالية تتقدم في الشطر الغربي من أوروبا، دفعت إلى إزاحة اليهود إلى الشطر الشرقي من القارة، الأكثر تخلفًا، وارتفعت رايات العنصرية ضد اليهود.
ثم جاء زمن تفسخ الإقطاع في الشرق الأوروبي، روسيا وبولندا كأكبر تجمعين لليهود في أوروبا، وقد ترافق هذا التفسخ بالطبع مع ارتكاب مذابح ضد اليهود لتقدمهم قرابين للرأسمالية الصاعدة خاصة في روسيا القيصرية. باختصار، خلقت الرأسمالية «المسألة اليهودية»، ومن البداية خلقت حلها. ففي نفس الوقت الذي بدأت فيه الهجرات اليهودية إلى الشرق الأوروبي، طرح الغرب إمكانية ترحيل الجيتو اليهودي إلى بلدان أخرى خارج أوروبا تمامًا في تطهير عرقي يضرب عدة عصافير بحجرٍ واحد، فهو أولًا يتخلص من تلك الجيتوهات في بدن المجتمعات الأوروبية وما تحمله من بقايا المجتمع المتفسخ، وثانيًا يستفيد من هذا الفائض البشري غير المرغوب فيه في خلق دولة عميلة تخدم الطموحات التوسعية للرأسمالية في مرحلة تمددها الأفقي الاستعماري، ثم بعد ذلك في عصرها الإمبريالي.
إن الدعوات الصهيونية الأولى لخلق وطن قومي لليهود في فلسطين كانت أوروبية تمامًا، وكانت واضحة تمامًا. دولة عميلة في قلب الشرق، في عقدة المواصلات البريطانية إلى الهند، تعزل مصر عن جناحها الشرقي، وتقف برزخًا حائلًا بين مصر وطموحاتها الإقليمية، وقد أكدت تجربة محمد علي الضرورة الملحة لخلق تلك الدولة.
وبينما تبدو الصهيونية اليهودية مجرد رد فعل دفاعي ضد معاداة السامية، فإنه يمكننا التأكيد أن الصهيونية ولدت تحديدًا من رحم التطورات الداخلية للنظام الرأسمالي العالمي، من نفس الرحم الذي ولدت منه معاداة السامية. بمعنى أن معاداة السامية كانت ضرورة للرأسمالية بقدر ما هي الصهيونية.
كان يمكن لليهودي الروسي أن يكون مضطهدًا كالمسيحي الروسي والمسلم الروسي، وأن يبحث عن حل لهذا الاضطهاد في جوهر النظام القيصري خالق كل اضطهاد، بالضبط كما كان هذا حال قطاعات جماهيرية أوروبية ضخمة سحقها صعود الرأسمالية في أوروبا، غير أن الرأسمالية الأوروبية خلقت «مسألة يهودية»، وكان حلها على الشكل الصهيوني ضرورة لها كرأسمالية.
التعاون بين الصهيونية ومعاداة السامية
لم يكن حل المُضطهَدين اليهود هو الهجرة من بلادهم، بل الاندماج في تلك البلاد فعلًا، والنضال ضد الظروف التي خلقت هذا الاضطهاد، غير أن الصهيونية كانت السلاح الذي حال دون نضال جماهيري حقيقي ينخرط فيه اليهود ضد الرأسمالية خالقة البؤس، ففي الوقت الذي تأسست فيه المنظمة الصهيونية العالمية في 1897، كانت الحركة الثورية الروسية آخذة في النمو بانخراط نشِط من البروليتاريا اليهودية في روسيا، وهو نفس الوقت الذي أخذت فيه المنظمة الصهيونية تتصل بالقيصر الروسي من أجل تسهيل عملها في روسيا لأجل تحويل العمال اليهود الروس من الانضواء تحت لواء الأحزاب الثورية الروسية إلى الهجرة لفلسطين.
كما راحت المنظمة تبذل جهودًا ضخمة لدى بريطانيا وألمانيا وفرنسا لتسويق مشروع استيطان فلسطين، أو للدقة، لوضع موضوع استعمار فلسطين موضع التنفيذ، وبقدر ما كان اضطهاد اليهود يتصاعد في روسيا، بقدر ما كانت المنظمة تزدهر، ليس باعتبارها خلاصًا حقيقيًّا لليهود، بقدر ما كان هذا هو الشرط الملائم لدفع اليهود نحو الهجرة واستعمار فلسطين.
يقول صادق جلال العظم في كتابه «الصهيونية والصراع الطبقي» إن هرتزل قابل في 1903 وزير الداخلية الروسي فون بليهفه المشهور بترتيب المذابح ضد اليهود؛ لعقد صفقة بين المنظمة الصهيونية والحكم القيصري في روسيا. كانت الصفقة مركبة من السماح للمنظمة بالعمل بحرية في أوساط الشباب اليهودي من أجل جذبهم بعيدًا عن الحركة الثورية، وتنظيم الهجرة لاستعمار فلسطين، في حين يبذل القيصر جهدًا لدى العثمانيين من أجل منح اليهود حق استعمار فلسطين.
ومن روسيا إلى ألمانيا النازية، يضيف صادق العظم أن الصهيونيين «عدُّوا الديكتاتور النازي هتلر هبة أرسلها الله لتساعدهم على بناء الحياة القومية اليهودية». ولم يخيِّب الرايخ ظن الصهيونية، فقد كانت المنظمة الصهيونية هي الحزب الوحيد المسموح به في ألمانيا خارج الحزب النازي وامتداداته. وبينما كان العالم ينشط في حركة مقاطعة البضائع النازية، كانت تلك البضائع تتدفق على المستعمرات الصهيونية في فلسطين، في سلوك يلخصه العظم قائلًا: «عملت الحركة الصهيونية أقصى جهدها لمساعدة أعتى عتاة المعاداة للسامية على تحقيق أهدافه؛ أي طرد اليهود الألمان من وطنهم وبلادهم».
لقد سُمح للمنظمة الصهيونية بالعمل بحرية في ألمانيا النازية، دون أن يضطر أعضاؤها لتعليق النجمة الصفراء التي فرضها الرايخ على اليهود، وأشرفت المنظمة على اختيار العناصر التي يمكن تهجيرها لاستعمار فلسطين بالتعاون مع الجستابو (الشرطة السرية الألمانية في ظل الحكم النازي) وجهاز SS (الجهاز الأمني الخاص للحزب النازي).
إن الهولوكوست وغرف الغاز لم تكن نكبة خلقت الصهيونية أو فكرة استعمار فلسطين، بل كانت ضرورة لتعزيز الفكرة الصهيونية القائمة بالفعل، أو وقود شديد الفاعلية لتعزيز الدعاية الصهيونية التي لم تكن شديدة النجاح في الأوساط اليهودية حتى ذلك الوقت. فمبعوثو المنظمة الصهيونية الذين حطوا في ألمانيا لتنظيم خروج اليهود المختارين، لم يأبهوا لمن كانوا في معتقلات النازية وأوشفيتزاتها، بل استثمروا تلك الحالة في تغذية ماكينة دعايتهم، حتى إن مبعوثي الوكالة قد تحصلوا على دعم الرايخ في التهجير مقابل أن تساعدهم الوكالة على حفظ النظام داخل معسكرات اعتقال اليهود.
الصهيونية والرأسمالية
وُضعت الفكرة الصهيونية عن احتلال فلسطين لتحقيق وهم القومية اليهودي في زمن سيادة الاحتكارات الإمبريالية، كضمانة لتحقيق تلك المصالح في زمن أزمة إمبريالية عامة تصاعدت إلى حرب عالمية على اقتسام مناطق النفوذ، وقد كان وضع هذا المشروع موضع التنفيذ في هذا الزمن، زمن الأزمة، تعبيرًا عن ميل كامن لدى الرأسمالية بالجنوح نحو الفاشية.
وبينما تبدو الرأسمالية في حالة تبنٍ مستمر لقيم الديمقراطية والتعدد والعلمانية، فإنها قد مارست عبر تاريخ صعودها عنصرية شديدة التجذر؛ عنصرية ضد شعوب الشرق باعتبارها شعوبًا غير متحضرة أرسلت إليها الفيالق اليهودية محملة بخلاصة الحضارة الأوروبية، فإذا بتلك الفيالق تمارس قيم الحضارة الغربية في الشرق الهمجي الذي استوى في العقلية الصهيونية مع الآخر غير الآري فيما يتعلق بالنازية، وبينما يبدو على السطح أن النازية عدو للصهيونية، فإن الصهيونية هي نسخة أخرى للنازية في عنصريتها، وهي غطاء أيديولوجي لمصالح رأسمال احتكاري.
إن النظر إلى إسرائيل كمركز حراسة متقدم للمصالح الإمبريالية في المنطقة ينسجم تمامًا مع تكوين الحلف الطبقي الذي دفع لتأسيسها. فيكفي القول إن وعد بلفور الشهير قد صدر على شكل خطاب موجه إلى اللورد روتشيلد إمبراطور المال اليهودي الشهير، أحد أقطاب البرجوازية اليهودية، في حين اتفقت حكومات بريطانيا وفرنسا وأمريكا وجرت بينهم مشاورات قبل إصدار الوعد حتى توصلوا للصيغة المناسبة. كان استعمار فلسطين غنيمة للكل، وقد امتص كثيرين من فقراء اليهود الهاربين من القيصرية، وبدلًا من التوجه إلى غرب أوروبا وجِّهوا إلى فلسطين، في حين وفر أباطرة المال اليهود التمويل اللازم.
ليست الصهيونية سوى منتج للرأسمالية حملته الشرائح الوسطى من البرجوازية اليهودية، تلك المحرومة من فرص الاندماج الكامل في مجتمعاتها، وتريد أن تخلق سوقًا وطنية تنفرد به بلا مزاحمة، في حين يهدد فائض هجرات فقراء اليهود من الشرق وضعها الاجتماعي الهش أساسًا، هذا المنتج الصهيوني ليس ناتجًا مباشرًا لمعاداة السامية، بل نعتقد أنه بدون معاداة السامية كانت الرأسمالية بدافع من حاجتها لتأمين مصالحها في المنطقة ستخلق من العدم هذا الكيان الصهيوني، تمامًا كما خلقته، ولم تكن معاداة السامية والنازية سوى قوى دافعة وحفازة لخلق كيان استعماري استيطاني توسعي في الأرض العربية.