العصيان المدني في السودان: خطوات نحو التغيير
لم تمر دعوات العصيان المدني، التي تصدرت وسائل التواصل الاجتماعي في السابع والعشرين من نوفمبر وحتى التاسع والعشرين منه، دون أن تربط نتائجها بزيارات السيد رئيس الجمهورية عمر البشير التي بدأت في الـ 12 من هذا الشهر، بدأها بمدينة كسلا شرق السودان، ثم الجزيرة، وكذلك الدعوة التي ينادي لها في التاسع عشر من ديسمبر تزامنًا مع إعلان الاستقلال من البرلمان.
على الرغم من الأراء التي تباينت حول نجاحه وفشله، إلا أنها ما زالت تمضي لتضع زيارة الرئيس البشير في إطار الرد تجاه دعوات العصيان، وتأكيدًا لشعبية الحزب الحاكم، وجماهيريته، وهو ما ينفيه آخرون.
دعم شعبي
وتقليلًا من الدعوات التي تصدرت وسائل التواصل وهو ما بدا جليًا من خطاب الرئيس لدى زيارته كسلا، حيث أشار في خطابه إلى أن «الحكومة ما بيسقطوها بالواتساب»، «أرض رويناها بالدم ما بنديها لناس الكيبوردات وبتاعين الواتساب».
ويرى معارضون أن الهدف من الزيارة كسب الدعم الشعبي، وأنها أتت نتيجة لدعوات المقاطعة والعصيان في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الشباب والتي وجدت استجابة واسعة من قبل الجماهير ثم القوى السياسية المعارضة، بينما يؤكد مؤيدو النظام أن البشير ليس بحاجة لزيارات لإثبات شعبيته.
بالمقابل أشار القيادي بالمؤتمر الوطني ربيع عبد العاطي إلى أن زيارات الرئيس لم تتوقف للولايات وهي واجبة ومن ضمن حقوق الراعي على الرعية، ولا يرى عبد العاطي أن هناك جديدًا في الزيارات وأضاف: ما حدث ليس له علاقة بأي مناسبة، وأي تعويل على أحداث أخرى لتبرير هذه الزيارات فهو خلاف الحقيقة.
وفيما توقع داعمون للعصيان تواصل العصيان واستقطاب قوى جديدة، اعتبر رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة أفريقيا مهدي دهب أنهُ من التجربة السابقة للعصيان في نوفمبر ما زالت القوى السياسية ضعيفة ولم تصل بعد لمرحلة تنفيذ العصيان، مشيرًا إلى أنهُ وسيلة من وسائل التغير وهي أخف من الثورات، ونجاحهُ مرتبط بشروط معينة منها مدى اقتناع الشعب بضرورة التغيير، ويرى مهدي أن على الجهات المطالبة بالعصيان أن تضع في الحسبان ترتيبات النظام واستعداده لامتصاص أثر العصيان، فإذا كان للنظام كوادر ستشغل الفراغ فمن الممكن أن يفشل العصيان، يضاف إلى ذلك ما يتعلق بالأحزاب السياسية هل لديها القدرة على إقناع كوادرها بتنفيذ العصيان؟.
ويرى مهدي دهب أنهُ وفقًا للتجربة السودانية فإن الوضع بحاجة لأدوات تغيير مرتبطة بتطورات النظام السياسي، مشيرًا إلى أنهُ لا يمكن النجاح باتباع نفس خطوات الدول الأخرى وأن السودان يختلف تمامًا في ثقافته وطبيعة تعامله مع الخصم السياسي؛ بمعنى أن أي تغيير بحاجة لحالة سودانية، لجهة أن الوضع الاجتماعي فيه معقد، ويعتبر مهدي أن الحوار الوطني الذي ابتدرهُ الحزب الحاكم كان ليكون مخرجًا للسودان لو كانت الأطراف الموقعة على درجة عالية من المسؤولية.
بالمقابل فإن الرافضين للعصيان المدني يتساءلون إزاء الوضع في السودان إذا كان سينتهي كما انتهى الأمر في بعض بلدان الثورات العربية، وهنا يشير مهدي إلى أن المجازر التي حدثت يوم الإثنين الأسود بعد وفاة زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، ما زالت أحداثها محفورة في ذاكرة الشعب السوداني والمخاوف حيال غياب السلطة أن تحدث أحداث مماثلة، وتابع: هذا ما يجعل وتيرة التغيير بطيئة وعلى درجة عالية من التشدد ليصل بر الأمان، ويؤكد مهدي على ضرورة الالتفات للمطالب المشروعة وتقديم تنازلات من القوى السياسية وحوار حول المصالحة.
في ظل هذا الوضع المعقد ووجود صراعات طرفية، يرى مهدي أن أنسب وسيلة للتغيير هي الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي الذي يأتي بمبادرة من النخب السياسية والحاكمة التي تتولى أمر السلطة في البلاد وضرورة الاتفاق على صيغ تقدم تنازلات من كل طرف.
تعبئة جديدة
المحلل السياسي الصادق الزعيم أشار إلى أن دعوات العصيان من قبل القوى الشبابية أحدثت هزة داخل النظام ووحدت مشاعر المعارضين؛ مما أثار انتباه الحزب الحاكم، معتبرًا أن الزيارات الأخيرة أتت في إطار التعبئة الجديدة، بينما أرسل خطاب الرئيس، بحسب الصادق، رسائل للداعين والداعمين للعصيان من القوى السياسية فحواها قدرة الحزب الحاكم على حسم أي تحرك معارض.
ويبدو أن الصادق متفق إلى حد ما مع الآراء التي رأت أن دعوات العصيان هي الدافع وراء الزيارات، يعود ليؤكد أن إحدى الأسباب الرئيسية هي الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي أصدرتها الحكومة ووجدت رفضًا، معتبرًا أن ذلك التحرك في إطار امتصاص الاعتراض الذي حدث، وتابع: «هناك حاجة لخطاب تطمين للمواطنين يتضمن رسائل بسياسات رشيدة، وليست هناك حاجة لخطاب تهديدي فهو يأتي بنتائج عكسية».
احتقان سياسي
على صعيدٍ آخر، لا يرى مهدي دهب أن للزيارات علاقة بأيّ إحتقان سياسي بل هي ضمن إطار التفقد الدوري، واصفًا زيارات الرئيس بالرتابة والطبيعية، مشيرًا إلى أن ولاية كسلا شهدت صراعات وأتت الزيارة ضمن افتتاح مشاريع التنمية وصندوق إعمار الشرق، ويرى مهدي أن الزيارة في كسلا جزء من تسوية الصراع في الولاية.
وعلى الرغم من الآراء التي تمضي إلى ربط الأخيرة بالعصيان المدني، اعتبر مهدي الزيارة ضمن سياق تفاعل طبيعي من جهات تنادي بالتغيير، ومحاولة تماسك النظام وحشد جماهيره معتبرًا أن السلطة تتحرك في هذا الاتجاه واصفًا ذلك بالمقبول مؤكدًا أنها تفاعل طبيعي في أيّ مجتمع فيه تيار للسلطة وآخر معارض، وأنهُ من الضروري التعاطي مع الشريحة التي لها مطالب والالتفات لها في ظل جو مشحون. وتابع: أيّ نظام سياسي إذا لم يستوعب المتغيرات والمطالب المتجددة فذلك من شأنه أن يُحدث تصدعًا فيه.
اتجاه معاكس
وعلى الرغم من حملة الاعتقالات الواسعة التي نفذها النظام تجاه نشاطين سياسيين؛ إلا أن مؤيدي النظام هم الآخرون دخلوا ساحة المعركة في وسائل التواصل الاجتماعي في بث رسائل مضادة، إذ كتب على بعض الصور عبارات على شاكلة: سوف أعمل وأحتفل يوم 19 ديسمبر من أجل وطني.
وبدا أنهم يلعبون على مربعين: الأول هو المزايدة بالشعار الإسلامي، أي بذهاب نظام الإنقاذ سيذهب الإسلام، وهو أمرٌ مشابه لما جرى في انتخابات 1965 عقب فوز الشيوعين بإحدى عشرة دائرة، حيثُ انتهز الإخوان المسلمون في جبهة الميثاق الإسلامي» حادثة معزولة لشاب قيل أنهُ أساء للبيت النبوي، فنسبت الجماعة ذلك الطالب إلى الحزب الشيوعي، ما أدى إلى التظاهرات التي تندد بالإلحاد وتنادي بحل الحزب الشيوعي.
المربع الآخر هو التخويف من قدوم الحركات المسلحة وتوليهم سدة الحكم، وفي ذلك يقول النور حمد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: «لم تحدث في السودان موجة ربيع تذكر لأن الوعي الشعبي بالوطن قد تشظى نتيجة للتحطيم المستمر لبنى ومرتكزات الدولة الحديثة مما أدى إلى ظهور ولاءات ما قبل الدولة الحديثة للسطح ما أدى إلى حمل أهل الهامش المختلفين عرقيًا مع الوسط النيلي للسلاح وإلى انتشار الخوف وسط الأخيرين ولقد لعبت السلطة الحاكمة على هذه المخاوف فرضي أهل الوسط بالسلطة القائمة رغم فشلها خوفًا أن تقع الدولة في أيدي قوى الهامش المسلحة أيضًا، ولم يعد هناك الشعور الوطني الجامع والتنظيم الحزبي اللذان أنتجا في مجموعهما ثورتي أكتوبر وأبريل».
بالمقابليرى النور حمد أن حكم الإسلاميين ليس وحدهُ الذي أوصل الأمور في السودان إلى حافة الخطر ولا ينبغي أن يتحمل التبعة كلها فهو لم يكن سوى امتداد لإخفاقات ارتبطت منذ البداية بخلل في البنية العقلية للنخب السودانية التي أنيط بها مشروع بناء دولة ما بعد الاستقلال.
إصلاح متدرج
يرى المفكر السياسي عزمي بشارة في كتابه «الثورة والقابيلة للثورة» أن «ثمة خطورة كامنة في الثورات في الدول التي منع فيها الاستبداد تطور مواطنة ديمقراطية واندماج على أساسها بين أتباع الهويات الطائفية والإثنيات المختلفة وجعل الوحدة هي الاستبداد المفروض من أعلى بحيثُ يخير المجتمع بين الاستبداد والتفكك».
وأضاف: «لذلك نفضل الإصلاح المتدرج على الثورة في مثل هذه الدول وفي حالة رفض النظام لإجراء أي إصلاح وإصراره على البدائل إما أنا كما أنا أو الطوفان، فلا بد من أن يكون للثورة خطاب ديمقراطي وإلا سوف تلعب على بدائل النظام وتصبح مساوية لخيار التفكك، ولا يقوم الخطاب الديمقراطي على التوق للحرية فحسب بل على فهم الفارق بين التوق للحرية وعملية بناء الديمقراطية بعد الثورة، ثمة فرق بين إسقاط النظام والنجاح في بناء المؤسسات الوطنية للديمقراطية».
وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه السودانيون.