مدينة الحوائط اللانهائية: معادلة الإيهام واللاإيهام
علَّمتنا التكنولوجيا الحديثة، بمعاونة الظروف الاقتصادية التي تمر بها العامة، أرشفة الأحلام إلى لوائح رغبات نسعى لتحقيقها في الوقت المناسب. باتت تلك الفكرة مصاحبة لفئة كبيرة في الوقت الحالي: أماكن تود زيارتها، أفلام جذبتك قصتها المبدئية ونويت مشاهدتها في المستقبل، مقتنيات ما تبدو تافهة مقارنة بمتطلبات الفترة الآنية مرفقة إلى تأزم ميزانيتك المادية، وكذلك الكتب. الأخيرة تبدو أسهلهم في التنفيذ.
منذ الوهلة الأولى التي قرأت فيها عن مجموعة «مدينة الحوائط اللانهائية»، انجذبت إلى فكرة طرحها من قبل ناشريها: رواية ومجموعة قصصية وديوانًا شعريًّا، تُقرأ في الصور الثلاث. في البداية شَعرت ببعض الغيرة حينما أدركت فحوى فكرة خلق رواية ومجموعة من القصص القصيرة في قالب واحد، تلك الفكرة لطالما راودتني.
من الممكن جدًّا تحويل أي رواية إلى مجموعة من القصص القصيرة، الشخصيات التي تُخلق في أي رواية كانت يجب أن يكون لكل منها قصة منفصلة. تتلاقى جميع الشخصيات بقصصهم في نقطة محددة أو نقط معلومة مما يكوِّن الرواية، وفصل إحداهم عن الأخريات لا يقتل القالب الروائي بالتأكيد وفي الوقت نفسه لا ينفي وجود مجموعة من القصص بداخلها.
ظهرت تلك الفكرة في العديد من الأفلام والمسلسلات مؤخرًا، في مصر شخصية «الكبير» من فيلم «طير إنت» لبطله «أحمد مكي»، تم بناء أبعاد لها وتحولت إلى مسلسل ضخم عاش لمواسم عدة. كذلك شخصية المحامي سول جودمان من مسلسل «بيتر كول سول – Better Call Saul» القائم على نفس الشخصية من مسلسل «بريكينج باد – Breaking Bad».
منذ تلك اللحظة، وبدافع من الغِبطة كبير، قررت جدولة تلك الرواية لتكون أحد مقتنياتي الأدبية في أقرب وقت ممكن، ومنها بدأت البحث عن كل الأشياء المتعلقة بها، وهي النقطة التي التقيت فيها مع الكاتب طارق إمام. في أحد الأخبار التي تُعلن قرب صدور تلك المجموعة القصصية، قال الكاتب إنه عمل على هذه الرواية منذ عام 2007. كتب عديد القصص وظل يهمِّش واحدة ويستأصل أخرى، حتى اهتدى باله إلى 36 قصة يمكن دمجهم بالشكل الذي خطَّط له. كانت تلك الفكرة مُجدوَلة بالنسبة له كما كانت بالنسبة لي.
قراءة الرواية بوصفها ديوانًا شعريًّا، وهي الصورة الثالثة لها، يعود في الأصل إلى أسلوب ولغة إمام التي تميل إلى السلاسة السردية وبساطة الكلمات والتعبيرات، ما جعل الرواية سهلة لجمهور القرَّاء العام بما لا يجعلها مقتصرة على نوعية محددة منهم، بالتالي كانت تلك الثغرة هي الموضع الذي قررت عرض الرواية منه.
كما أكدنا مسبقًا أن الرواية هي نقطة تجمع التقاء عدة أشخاص لكل منهم قصص مختلفة، لذا إذا ما فرضنا أنني أنا شخص مستقل بذاتي، وصفي قارئ، بدأت قصتي منذ إعجابي بالرواية وحتى بدأت قراءتها بالفعل، وللكاتب شخص كذلك مستقل بذاته، تبدأ قصته مع هذه الرواية منذ بزوغ الفكرة في عقله، ثم تنفيذها وحتى صدور الرواية رسميًّا. كلانا التقى في نقطة واحدة وهي الرواية أو قراءتي لها، وكما كانت كذلك نقطة لالتقاء كل ما سبق مع شخصية جديدة، هي شخصية الراحل «أحمد خالد توفيق».
يصنع ذلك بامتياز روايتي الخاصة مع مجموعة «مدينة الحوائط اللانهائية» التي تمتد إلى 270 صفحة تقريبًا، هم عدد صفحات ذلك القالب الشيِّق.
للأديب الراحل مقال سبق نشره منفصلًا، وهو جزء من كتابه «اللغز وراء السطور»، بعنوان: «دعني أخدعك.. دعني أنخدع». يناقش توفيق البناء الروائي والسينمائي والمسرحي القائم على مبدأ «التعطيل الإرادي لعدم التصديق» الذي وضعه أول مرة صامويل كولردج، الشاعر الإنجليزي المعروف، عام 1817. تقوم هذه الفكرة على القرار المسبق للجمهور بتصديق أي شيء يدور خلال هذا العمل لأنه يُريد أن ينخدع.
طرح المقال رؤى عدة لتلك الفكرة، التي تلخيصها ببساطة: هي تقبل كل القراء أو المشاهدين لأي عمل درامي وتفاعلهم مع كل أحداثه بالرغم من التأكد الكامل أنها أحداث لم تحدث في الواقع، وحتى إن تكررت في المستقبل بنفس التطبيق فسيظل هناك فارق واضح بين كونها عملًا دراميًّا غير واقعي، مهما بدا عكس ذلك، وبين الواقع نفسه.
تقوم تلك المجموعة على عدة قصص تجمعها مدينة واحدة بمواصفات معينة سبق وضعها قبل أول صفحاتها، وكذلك تجمعهم الخرافة والغرابة في الحكي، ما بين بشر بصفات مختلفة وبين مناطق صعبة التواجد في الواقع كبحور الدموع وجبال الكحل والمرأة ذات العين الواحدة. خيال يصنع الأساطير التي لا يمكن تصديقها في العادي بدون تفعيل رغبة عدم التصديق.
النقطة التي وجدت فيها إبداعًا للكاتب طارق إمام، والتي كانت في رأيي الفاصل بين كون تلك المجموعة مقبولة بهذا الشكل الخيالي المبالغ فيه بعض الأحيان وبين كونها مبتذلة وغير مقبولة تجعل القارئ ينفر من بُعد خيالها الشديد، هو الوصف الذي وضعه الدكتور خالد ببلاغة: «الإيهام واللاإيهام».
في موقف سرده الدكتور في المقال السابق ذكره، تحدث الدكتور توفيق عن أحد مشاهدي سلسلة فيلم هاري بوتر ينتقد صانعيه لأنه وجد حيَّة ذات جفنين تتحدث مع بطل الفيلم. حينها رد أحد المعلِّقين بغضب جامح: «أنت قبلتَ أن تتكلم حية، وبرغم هذا أنت مغتاظ من جفنيها!». يميل توفيق لكفة الرأي الناقد، ذلك لأن كلام الحيَّة يقع تحت طاولة الإيهام الطبيعية التي سبق وضعها قبل الفيلم، أما جفناها فليس كذلك، لأنها لا تملك أيًّا منهما في الأصل.
الخيال مهما بلغ من بُعد يظل مقبولًا بالنسبة لمتقبِّله طالما يملك جزءًا منه في عقله. بمعنى أنك تقبل أن ترى أخًا يقتل أخاه في عمل درامي دون أن تنفر لأنك تشاهد ذلك في الطبيعة بسهولة، كذلك تجد تسلسلًا سلسًا لخيالات الكاتب في تلك الرواية من قصة المرأة ذات العين الواحدة، وهي الخرافة أو الأسطورة، أو حتى القصة الموجودة في العقيدة الإسلامية عن هيئة «المسيخ الدجال»، وحتى تبلغ الحذاء المتكلم وما إلى ذلك من أشكال خرافية. وكأنه يعمل تدريجيًّا على تنشيط خيالك بالأفكار حتى يصل إلى أقصى مناطقه.
لم يعانِ إمام الذي يعدُّ ذلك العمل هو العمل الحادي عشر له في تاريخ إسهاماته الأدبية، في خلق عالمه الخاص. مدينة من إخوة تربطهم صلة ما، تحدث لهم غرائب وعجائب في بعض الأحيان، ما يعني أنه زرع بساطة في البداية تسمح له بفرصة ذهبية في الاستئثار بالإيهام فقط، وتَرَك اللاإيهام للقصص القديمة والخرافات التي علِقت بأذهاننا في السابق، مما سيجعل خياله، مهما طال وبعد، قائمًا في منطقة التصديق الطبيعية للقارئ لأنه على الأقل سمع قصة أو خرافة عن تلك الحقيقة من قبل. وفي النهاية، إذا حاول تطبيق ذلك على مجتمعه اليومي، بعد عزل الخيال وأشكاله، يجد الأمور أكثر من منطقية.
هذه الرواية، حسبما فضَّلت توصيفها في النهاية، وسيكون لك مطلق الحرية في توصيفها كذلك سواء رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان نثري، تعتبر تجربة رائعة لتنشيط خيالك وإبعادك عن عالم الرواية والقصص القصيرة الجديد الذي بات مملًّا إلى حدٍّ بعيد. منذ لحظتها الأولى ستجد نفسك جزءًا من أبطاله الأساسيين وحتى تنتهي منها وتجد عديدين يلتقون معك في نفس النقطة.