حصاد سينما 2017: عام فقدان الأمل في البشر
كارل ماركس – أطروحات حول فيورباخ
قد تكون هذه الملاحظة الفلسفية القصيرة التي كتبها «كارل ماركس» في ربيع عام 1845 مدخلًا مناسبًا لهاجس متكرر نراه حاضرًا بوضوح في سينما عام 2017، هاجس فقدان الأمل بشكل كلي في البشر. ربما بدأ هذا الهاجس من سنين، تسلل في شكل معالجات ساخرة في البداية، في محتوى عنيف ودموي وساخر في بعض الأحيان، ولكنه ظهر هذا العام في أكثر صوره قتامةً، بحيث يبدو السينمائيون في مختلف بقاع الدنيا مجتمعين على أن هذا العالم لن يمكنه الصمود بحاله هذا بعد الآن.
يري ماركس إذن أن تغير العلاقات الاجتماعية سيؤدي بالضرورة لتغير جوهر البشرية ذاتها، وهذا تماما ما ترصده أفلام 2017. بدءًا بالعلاقات الحميمة والعلاقات داخل الأسرة، مرورًا بالعلاقات داخل المجتمع، ونهايةً بعلاقة البشر بالطبيعة الأم ذاتها.
خط واحد ممتد يمكن تتبعه من البداية وحتى النهاية، خط واحد يكمل بعضه بعضًا، حتى نختبر تغير جوهر البشرية في النهاية، تغير يبدو في حقيقة الأمر كتآكل، تآكل تدريجي يبدو أن نتيجته الحتمية هي تلاشي البشرية بشكلها الحالي.
بلا حب
تبدو سينما هذا العام متشائمة تمامًا في رصدها للعلاقات العاطفية، سواء كانت بين الأحباء أو بين أفراد الأسرة، يفضل الجميع المادة على المعنى، يختار الكل الحياة المهنية ويقدمها على حياته الشخصية/ الأسرية.
في فيلم Loveless «الفائز بجائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان» يبدو الأمر قاسيًا للغاية حينما يستمع طفل صغير لتذمر والديه من وجوده، يلقي كل منهما بمسئولية تربيته على الآخر كما لو أنهما يحاولان التخلص من «كيس قمامة»، زواج يحتضر ولا يبقيه سوى حرص الزوج على الظهور كرجل أسرة، فقط لأن ربه في العمل لا يوظف غير المتزوجين.
تبدو الأسرة في عصرنا الحالي بناءً مهدمًا، لا يجد الآباء والأمهات وقتًا لأبنائهم في ظل مجتمعات عمل تتطلب انغماسًا كاملًا فيها، تغير الوضع تمامًا عما اعتاده الأسرة بشكلها القديم، حينما لم تكن للمرأة فرص متاحة للتعليم والعمل، نساء اليوم متعلمات بشكل جيد ويملكن طموحًا شخصيًا مهنيًا يردن تحقيقه، طموحاً يتخطى في أحيان كثيرة رغبتهن في الأمومة. على الجانب الآخر لم يتبادل الرجال مثلًا أدوارهم مع النساء، لازالوا في صراع إثبات الهيمنة، تمامًا كما كان الحال مع الرجل الأول.
لا مكان لعلاقات حب تتطلب وقتًا ومجهودًا وتنازلات، لا مكان في زمننا هذا لأسرة وأطفال.
على جانب آخر يؤدي هذا الانغماس في العمل، هذه الأنانية والفردانية، إلى وحدة واغتراب حتمي، يبدو رجال اليوم ونساؤه ككائنات آلية بلا روح، وبلا عواطف.
في فيلم On Body and Soul يبدو البشر ككائنات بدائية في حاجة لتعلم التواصل مرة أخرى، بالتلامس كالحيوانات طالما لم يعودوا قادرين على تشارك الحديث. رجال اليوم ونساؤه معتزين بأنفسهم، يشعرون كما لو أن التعبير عن عواطفهم سيحط من قدرهم، حتى لو أدى هذا في النهاية لموتهم مكبوتين.
ولكن يبدو أن المخرجة المجرية «الديكو النيدي» لم ترغب في صنع صورة غاية في القتامة، فأنهت فيلمها بنهاية سعيدة، يتعلم فيها البشر مما ألهمتهم به الحيوانات في أحلامهم. على عكس ذلك قدم «أندريا زفياجنستيف» فيلمه Loveless في لوحة حزينة وباردة، من البداية وحتى النهاية، التي يبدو أنها تسير بنا في دائرة مفرغة من اللا معنى، لا مكان لحب بين رجل وامرأة، ولا مكان لأطفال لن يحبهم آباؤهم.
بلا رحمة
من الفيلم السويدي The Square
ذات صباح وقفت امرأة في منتصف أحد الطرقات، يمر الناس عن يمينها ويسارها، تسألهم بلهجة غاية في الجدية، «هل تريد أن تنقذ حياة إنسان؟»، لا تتلقى أى رد عادةً، وفي أحيان قليلة يرد الناس، «لا، شكراً، ليس لدي وقت الآن». المشهد من الفيلم السويدي The Square، الفائز بجائزة أفضل فيلم من مهرجان كان، ربما لو كان بالعربية لأخبرها الناس ودون أن يلتفتوا أيضًا «ربنا يسهلك».
عبر مشاهد في سياقات منفصلة يستعرض المخرج السويدي «روبن أوستلاند» ضياع المعنى في كل العلاقات داخل المجتمع الغربي، يعتمد أوستلاند على السخرية التامة، في ملمح قديم/ جديد لفنون ما بعد الحداثة.
جاءت «ما بعد الحداثة» كاتجاه فكرى مشكك في كل ما جاءت به الحداثة، الحداثة التي بنت أفكارها ومفاهيمها على ما تلا عصر التنوير الأوربي والثورة الصناعية، حينها آمن البشر أنهم قادرون على التحكم في العالم، وأنهم هكذا سيجدون السعادة والخلود. جاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية لتجلبا معهما الخراب وفقدان اليقين، وهكذا تسربت أفكار ما بعد الحداثة شيئًا فشيئًا لتشكك في كل ما فات.
غلفت الفنون الما بعد حداثية تشاؤمها بنبرة ساخرة، شككت في كل شيء، بدءًا من وجود كود أخلاقي عالمي، مرورًا بكل المنجزات العلمية، وصولًا للعلاقات البشرية وحتى هوية الإنسان.
يرصد أوستلاند هذا التشكك من خلال فيلمه، يعامل الجميع الجميع كنصابين محتملين، لا يبدو لكلمات مثل التراحم، نجدة الملهوف، مساعدة الضعيف، أي معنى داخل هذا المجتمع. وهكذا يبني الفيلم حكايته واسمه من خلال رسم مربع على أرضية أحد المتاحف، يتصرف البشر داخله بشكل مغاير، فيساعدون بعضهم البعض، أو بمعنى آخر يتصرف البشر داخل هذا المربع وكأنهم بشر.
بلا عقل
بهذه الكلمات يتحدث «القرد سيزر» قائد القردة مخاطبًا الجنرال البشري الذي أسره هو وكل بني جنسه، يبدو سيزر وقروده أقرب للتسامح، والرحمة، والعدالة، وقواعد العيش المشترك. يبدو القردة في هذا الصراع كممثلي الإنسانية أمام بشر تخلوا عن إنسانيتهم.
هكذا يبدو الجزء الأخير من الثلاثية الجديدة لكوكب القرود، قدم المخرج مات ريفز في War for the planet of apes واحدة من أكثر المعالجات صدمة، وأكثرها دلالة على فقدان الأمل في البشر، معالجة ريفز هنا لا تتوقف عن تصويرها البشر ومجتمعهم الحديث ككائنات بلا حب وبلا رحمة، ولكنه يمتد في ذلك أيضًا ليجردهم من مركز تفضيلهم الوحيد عن الحيوان، العقل.
تبدأ الحكاية في الجزء الأول من السلسلة بصنع البشر لفيروس يتطور رغمًا عنهم ويؤدي لتطور بالغ في مراكز التفكير العليا لدى القردة، وفي نفس اللحظة يؤدي لأعداد ضخمة من الوفيات بين البشر، ملمح آخر واضح لأفكار ما بعد الحداثة، التقدم العلمي ربما لن يكون لصالحنا، ربما سنصنع هلاكنا بأيدينا.
تنتهي الحكاية بتصوير البشر ككائنات همجية، تقتل وتعذب دون رادع، وفي أحد أبرز مشاهد الفيلم نجد أن القردة أكثر حرصًا على حياة طفلة بشرية من البشر أنفسهم، نتذكر هنا الطفل الذي تركه أبواه حتى هرب في Loveless ، هنا تبقى الطفلة في أمان طالما كانت في صحبة القردة، يصل الأمر في أحد اللحظات بأحد القردة ليضحي بحريته في سبيل لفت أنظار الجنود البشريين ليوفر غطاءً لهذه الطفلة البشرية للهرب.
نجد أنفسنا أمام فيلم ننحاز فيه للقردة في مقابل البشر، نحزن بشدة إذا مات قرد واحد، ولا نشعر بأي شيء حينما يموت البشر بغبائهم وهمجيتهم وصلفهم تباعًا، يبدو الأمر مبررًا لعقولنا حينما نستمع للقرد سيزر، وهو يقول «نحن لسنا همجًا، القردة تحارب فقط للحفاظ على حياتها».
البشر مجموعة من الهمج، يظهر هذا بوضوح مرة أخرى في أحد أكثر أفلام العام قتامةً وكابوسية، وأقصد هنا بالطبع فيلم المخرج دارين أرنوفسكي Mother!.
يستعرض الفيلم في ثلثه الأخير وبرمزية واضحة للغاية علاقة البشر بالطبيعة الأم، نرى كل جرائم البشر بحق كوكبهم، كل الحروب والنزاعات، كل الصلف والتحيز، كل الأنانية وسوء التقدير، مرة أخرى بلا حب، وبلا رحمة، وبلا أي عقل.
لم يقدر الكثير من مشاهدي السينما على إكمال هذا التتابع الكابوسي، شاهدت بنفسي كثيرين وهم يغادرون صالة العرض، لم يتحملوا مشاهدة ما يفعله البشر في معالجة سينمائية، ولكنهم يرون ذلك يوميًا في كل شارع، وعلى أغلب الظن يشاركون فيه. ولا أستثني نفسي من ذلك.
ربما تكون سينما هذا العام شديدة القسوة في تصويرها للبشرية بشكلها الحالي، وشديدة التشاؤم في رؤيتها لمصيرها، ولكنها قد تكون أيضًا علامة على أن الكثيرين غير راضين عما وصلنا إليه.
ربما سيتغير الأمر بعد جيل أو اثنين، ربما سيعود الناس للإيمان بأهمية المعنى، بأهمية علاقاتهم البشرية، وربما يسبق ذلك انهيار كل شيء آخر.