سينما “الزمن الباقي”.. عرب 48 كما لم ترهم من قبل
أيها المارون بين الكلمات العابرة..
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا..
وأعيد عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس..
أو إلى توقيت موسيقى المسدس..
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا..
ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف، وشعب ينزف..
وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة..
(محمود درويش: عابرون في كلام عابر)
(1)
سيارة تاكسى تعبر شوارع مدينة الناصرة المحتلة حاملة سائقها الإسرائيلي وفي الكرسى الخلفى ظل رجل. تهطل الأمطار وتُحاط السيارة بالغيوم. يتساءل السائق في حيرة: يبدو أننا ضللنا الطريق، لست أعلم هذا المكان المهجور، أين أنا؟ أين أنا؟ في الكرسي الخلفي يكاد ينطق الظل: ليست أرضك ولن تعرفها يوماً..
(2)
للمرة الثالثة يخرج علينا إليا سليمان بفيلم عن عرب 48 في الأرض المحتلة. المخرج الفلسطيني الأصل أخرج من قبل:Divine Intervention و Chronicle of a disappearance .. لكن هذا الفيلم مختلف لأن الفيلم هذه المرة عن نفسه وأسرته.
أربعة مشاهد رئيسية يمر بها الفيلم في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وتاريخ أسرة إليا..
مشهد البداية في مدينة الناصرة يوم تسليمها للقوات اليهودية سنة 48.. وبطله فؤاد والد إليا، عامل في ورشة لصناعة السلاح من أجل الجيش الفلسطيني المقاتل يقوم بدوره صالح بكري الذي شاهدناه في دور الشاب المصري المنفتح على دولة الاحتلال في فيلم “زيارة الفرقة الموسيقية“، الشاب الحالم ذو العيون الزرقاء يرفض التسليم بانتهاء الأمر ويشي به أحد الوشاة ويكاد ينتهي أمره.. مشهد تسليم المدينة للقوات المحتلة هزلي مبك، يستخدم إليا السخرية في تصوير المشهد كسلاح من لم يعد قادر على حمل السلاح.
نجا إليا من فخ الإغراق في النوستالجيا المتوقعة من فيلم سيرة ذاتية.. خطوط من حياة الوطن وحياة الإنسان تتقاطع صانعة موازيك من المشاهد شديدة الصمت وشديدة الحساسية.
(3)
يقفز بنا إليا للمشهد الثانى سنة 70، يكبر فؤاد ويتزوج وينجب إليا، وهو الآن في المدرسة الإبتدائية. أصبح فؤاد أكثر صمتا وأكثف تدخينا. في ظاهر الأمر استسلم للوضع القائم، ويحاول الحفاظ على ما تبقى من روحه بالصيد واللامبالاة وتذكير ابنه أنهم عرب.
في أكثر مشاهد الفيلم مرارة يقف أطفال المدرسة المخصصة للأقلية العربية يغنون لعيد ميلاد الوطن.. إسرائيل. الشتات الفلسطيني يتواصل عبر الرسائل مع من رحل من أهله في الأردن وباقي الدول العربية ويتابعون في شيء من الأمل أخبار حرب الاستنزاف؛ ثم تأتى النهاية بمشهد موت جمال عبد الناصر في أكثر المشاهد القابضة للنفس.
يميل إليا للتلميح ليثير عقل المشاهد للاكتشاف.. يُقبض على الأب -فؤاد- بتهمة تصنيع أسلحة للمقاومة. لم تثبت التهمة وأطلق سراحه لكن تلميحات إليا لنا تثبت عليه التهمة. رغم كل ما مر به لم يستسلم الأب وظل حتى النهاية كائنا أسطوريا في عيني ابنه الصغير وأعيننا.
(4)
يتورط إليا مع المقاومة ويضطر للهرب للخارج وهنا يبدأ المشهد التالي من حيث بدأ الفيلم، بعودة إليا رجلا أربعينيا لم ينطق كلمة طوال نصف ساعة في زيه الأسود وشعره الأشهب وعينان فقدتا القدرة على الاهتمام، كشبح إنسان يجالس أمه الصامتة بدورها.. فرحيل الأب صنع شرخاً فى روح الأم.
يجيد إليا تتبع خيوط العلاقات الانسانية دون إزعاج دون أن تشعر، يتدفق مكنون الذاكرة مع أحداث الفيلم، رحيل الأب ورحيل الأم وتعلقنا بمن قضوا. سيظل مشهد رحيل الأم أيقونة في ذاكرة السينما.
يستعرض إليا تطور نفسية عرب الناصرة في مشاهده الأربعة بين جيل مقاوم في 48 إلى جيل محبط في 70، ثم الانتفاضة الأولى في 80، ثم جيل الوقت الحاضر الذي تأقلم على وضع لم يعرف غيره وسط شعور بأنه قائم لن يتغير.. فنجده في مرقص وقت الانتفاضة الثانية غير مبال بما يحدث حوله، تأقلم مع مشهد المجنزرات كروتين يومي، حتى الجيل الشاب من قوات الاحتلال سأم الاضطراب، لم يتأفف إليا من توصيف عرب الناصرة كما يراهم بلا افتعال ولا مداراة. الزمن يغير والنفس تضعف والجيل الذي لم يعرف وطنا له غير اسرائيل قادر على تطبيع أوضاعه والاستمرار في الحياة.
يستخدم إليا الكاريكاتيرية فى تصوير شخصياته.. فجاره العربى يتجول بملابسه الداخلية مطلقا الألفاظ البذيئة بحق الاحتلال ونظريات هزلية عن كيفية التخلص منه، والجندي العربي فيه بله لا تخطؤه عين. قضى إليا جزءا كبيرا من عمره خارج الوطن وإن كان يعمل حاليا أستاذ في جامعة رام الله؛ ساعده الابتعاد النسبي على تكوين صورة أكثر هدوءا عن القضية.
(5)
تجربة بصرية جديدة على السينما العربية.. استخدام الكادر الثابت المشبع بالألوان لم يكن يوما من أدوات الفيلم العربي؛ أسلوب قريب من تاركوفسكي (مخرج روسي) في نحته الزمني. إليا ينحت ما تبقى من الذاكرة نحتاً على شاشة السينما، كسجين يكتب قصته على حائط سجنه حتى لا تنتهي ذكراه بنهايته.
وعلى الرغم من ثبات الكادر وخلو الفيلم تقريبا من المؤثرات أو الأحداث المتسارعة، إلا أنه لا يؤدي مع ذلك إلى أي ملل.. الكاميرا عند إليا شاهد لا يتفاعل، مضيفة صدقا لصدق القصة والتمثيل، صانعة أحد أجمل أفلام السيرة الذاتية.
يظهر إليا ليقدم دوره بنفسه في نصف ساعة لم ينطق فيها جملة واحدة، وفي أغلب الظن أن الأمر لا يتعلق برغبته أن يكون شاهدا ينقل ما يحدث بقدر شعوره الداخلي أنه أصبح شبح إنسان غير مرئي، ولا يهتم بوجوده أحد.
(إليا سليمان في الزمن الباقي)
رغم قلة المؤثرات الصوتية إلا أن وجودها كان في محله. مشهد موت جمال عبد الناصر وفي خلفيته صوت أجراس الكنيسة وقرآن بلغ قمة البساطة والفاعلية.
ينتهى الفيلم بأغنية stayin alive (البقاء حيا) ليكمل بها قصته الخاصة وقصة وطنه.. سلاحهم للمقاومة هو التذكر والبقاء أحياء.
(6)
قليلون من يفصحون بالكلام ونادرون من يفصحون بالصمت. إيليا صنع أكثر الأفلام صمتا وأكثرها صخبا، في صمت ثقيل يقاوم.. صمت من أدرك أن الموقف الحالي ممتد، وأن حلم الاستقلال بعيد المنال. ليست مقاومة ثائرة بل لا مبالية، و كل ما يريده ألا يستطع العدو أن ينسيه ذكرياته في زمنه الباقي.