من السينما إلى «شبرا البهو» : فلنقتل كل «أسماء»
استيقظنا يوم الرابع من أبريل لعام 2020 على فاجعة مزدوجة، طبيبة توفيت في أحد مستشفيات العزل جراء إصابتها بفيرس كورونا، فرفض أهالي قريتها وقرية زوجها أن تدفن في أي منهما، ظل أهلها وسيارة الإسعاف يروحون ويجيئون بين القريتين مرتين محاولين الوصول لمدافن أي منهما، وتصدى لهم الأهالي، حتى تدخلت قوات الأمن وفرقتهم بالغاز المسيل للدموع، هل الفاجعة في أنها ماتت إذن بفيروس قاتل؟ أم الفاجعة أن هناك بشرًا قرروا أن الأنسب لهم أن يلقى جسدها في الصحراء وألا تدفن حتى لا تصيبهم العدوى من جثمانها الضعيف الميت.
حاولت أن أبحث عن صورة الطبيبة المتوفاة التي لا أعرف اسمها حتى، لم أستطع أن أتوصل لها، فقرر عقلي أن يمنحها وجه هند صبري في فيلم أسماء، خاصة صورتها على البوستر، بنظرتها المتهمة وشفتيها المنفرجتين قليلًا وملامحها الراجية الذاهلة، قرر عقلي أن هذه هي صورة الطبيبة المتوفاة.
أسماء … الغريبة
كانت أسماء في الفيلم شخصية غريبة، لا تشبه الجميع ولا تشبه الوسط الذي تنتمي له، فتاة شقية متحدية، سليطة اللسان بخفة دم، جريئة. كانت أسماء تفتش عن المعرفة، تستمع للحكايات وتقف في السوق لتبيع إنتاجها من الكليم اليدوي. كانت أسماء نهمة للعالم، وكان الجميع لا يتفهمون ذلك منذ اللحظة الأولى.
كانت أسماء غريبة، وتأكدت غربتها بعد إصابتها بالإيدز وقرار الجميع أن ينبذوها. قرر مجتمع كامل أن أسماء لا تستحق الحياة، تعاني من آلام المرارة؟ فلتمت بألمها، مجتمع كامل بفقرائه وأغنيائه وفلاحيه وموظفيه وحتى أطبائه، كلهم قرروا أن أسماء لا تستحق أن تعيش، فلتمت بالمرارة أو غيرها، نحن لن نلمسها ولن نتعامل معها، وعندما نتعاطف معها فسوف نلقي لها ببضع عملات على الأرض من بعيد حتى لا تصيبنا العدوى، أسماء يجب أن تموت، تختفي، حتى نشعر جميعًا بالأمان.
غريبة، لا تشبه مجتمعها، أسماء ليست مريضة، أسماء تعرف أكثر، ذهبت لطبيب القرية وسألته عن المرض الذي أصاب زوجها في السجن وكيف ينتقل وكيف يمكن تجنبه وكيف يتعايش به الإنسان، تأكدت من كل التفاصيل وعرفت أنها لن تصيب به جنينها حتى إذا انتقلت لها العدوى من زوجها، أسماء كانت تعرف، كانت الوحيدة التي تعرف، في مجتمع لا يعرف أي شيء، ولا يهتم بالمعرفة، ولذلك كانت أسماء غريبة أكثر من كونها مريضة.
فلنقتل أسماء … فلنقتل كل أسماء
بعد أن عرفت خبر رفض الأهالي أن تدفن الطبيبة المتوفاة في مقابر قراهم، ولجأت لفيس بوك لأعرف كيف يتعاطى الناس مع الخبر، على صفحات الأخبار وجدت شعبًا كاملًا يدعم أهالي القريتين في قرارهم برفض دفن الطبيبة في مدافنهم خوفًا من العدوى، بشر كثر يرون أن ما فعله أهالي القريتين رجولة حقيقية وحرص محمود على حيواتهم الغالية، ووجدت بعضهم يقترحون أن تدفن الجثة في الصحراء بمعرفة أهلها، أو يغطونها بالجير الحي في الصحراء أيضًا، وآخرون يقترحون أن يحرق الجثمان، المهم أن يتم أي من ذلك بعيدًا عن قراهم حتى لا تصيبهم العدوى المميتة.
على الجانب الآخر، وجدت كل من ينددون بتصرف أهالي القريتين يحملون وجه أسماء، حتى الرجال منهم، كلهم أصبحوا يشبهون أسماء بجلستها المتحفزة على طرف المقعد في آخر مشاهد الفيلم وهي تنظر للكاميرا وتقول إنها لو ماتت فلن تموت بالمرض، ولكنها سوف تموت بسبب كل من رفضوا أن تعيش هي معهم، كل الرافضين لما حدث أصبحوا فجأة يحملون وجه أسماء، خاصة الأطباء والممرضات، بمناسبة الممرضات إحدى قربياتي ممرضة بمستشفى جامعي غير مخصص للعزل، نشرت على صفحتها صورة للكمامة التي سلموها لها اليوم، والمصنوعة من قماش الملاءات، والتي أخبروها في العمل أنها عهدة يجب أن تحافظ عليها لأنها سوف تعيد استخدامها كل يوم بعد أن تغسلها جيدًا!
أسماء، كلهم أسماء، منذ يومين على أحد المجموعات الخاصة انتشر بوست تسأل صاحبته عن أفضل محامٍ لتوكله في رفع قضية تطرد بها مستأجرين في البناية التي تقطن بها، سوف تطردهم لأنهم أطباء، ولأنها تخاف العدوى التي سوف تأتيهم من هؤلاء الأطباء المجرمين، فلنلقِ بهم في الشارع، طبيبة أخرى من الإسماعيلية تعمل في مستشفى العزل قرر السكان أن يطردوها من مسكنها، فلنلقِ بها هي الأخرى في الشارع، ثم خبر عن تهشيم مرافقي مريضة ذات سبعين عامًا توفيت بأحد مستشفيات العزل لجهاز تنفس صناعي وضربهم للأطباء، فلنضربهم بالأحذية ثم نلقِهم في الشارع، هؤلاء المجرمين الذين يقتلون مرضانا وينقلون لنا العدوى، هؤلاء الأطباء الملاعين، فلنقتل أسماء.
ليس في الإدراك أي نبل؟
ما يحدث الآن وما حدث لأسماء في الفيلم يمكننا أن نسمية ببساطة لعنة الإدراك، قبل أن تتخذ أسماء قرارها أن تمنح زوجها لحظات قليلة من الأمان والتقبل والحب قبل أن يرحل بمرضه للأبد، ولو كان ثمن هذه اللحظات هو أن تحمل هي اللعنة كانت تعرف، تعرف كيف تحافظ على نفسها من الموت جراء المرض، وكيف تحمي جنينها منه، سألت وتقصت وعرفت، ولذلك اتخذت قرارها بإرادتها، ولكن من حولها لم يكونوا يعرفون، ولذلك عاشت أسماء تحمل لعنتها غريبة.
نحن أيضًا الآن، وفي مقدمتنا الأطباء وكل من يعملون في مجال الصحة – بالمناسبة زوجي أحدهم – ندرك أننا يمكن أن نراوغ الموت ونلعب معه بذكاء، ندرك أن الموت يجب ألا ينتصر علينا لو اتخذنا احتياطاتنا، ولكن المجتمع من حولنا لا يدرك، المجتمع الذي تعمدوا تجهيله وإفقاره على مدى عقود لا يدرك ذلك، لذلك تحولنا نحن لأسماء، وتحول باقي المجتمع كله لأهل قريتها الذين طردوها وزملائها في العمل الذين رفتوها، وموظفي وأطباء المستشفيات الذين رفضوا علاجها، نحن قلة قليلة جدًّا، وسوف ينتصر علينا المجتمع الجاهل الفقير لا محالة، إن هي إلا مسألة وقت فقط.