سينما الأشباح والحب: انعكاسات مظلمة في مرآة القلب
طالما كان الفن مفتونًا بمطاردة الأشباح، بأن يفتح بابًا سريًا على ما هو مظلم وشبحي داخل الإنسان، وأن يصور العالم الملتبس والغريب الموجود بداخله. برزت السينما من بين كل الفنون، ومنذ أنفاسها الأولى، بوصفها الوسيط الأكثر قدرة على تجسيد هذه الأشباح، فحين شاهد الأديب الروسي الكبير مكسيم جوركي عام 1896 عرضًا سينمائيًا للأخوين لوميير، كتب في يومياته: «الليلة الماضية، كنت في مملكة الظلال».
تشكل سريعًا نوع فيلمي ذو تقاليد خاصة يتمحور حول تجسيد ما هو شبحي ومخيف ومظلم داخل الإنسان، هذا النوع هو فيلم الرعب «Horror Movie». وداخل هذا النوع الفيلمي الكبير ظهر نوع فرعي يسمى «أفلام الأشباح Ghost Movie». ظل هذا النوع الفيلمي – إلا فيما ندر- يدور حول نفسه مستهلكًا تيماته وصوره من أجل إثارة مشاعر الرعب والفزع في نفوس الجماهير العريضة لفيلم الرعب.
ومع ذلك لم يكن حضور الأشباح في السينما دائمًا قرينًا بما هو مرعب. فالأشباح مجازات مرنة، طيف واسع من المعاني التي تتجاوز هذه التجسدات المسخية المخيفة التي استهلكتها أفلام الرعب. يمكن للأشباح أن تكون أقسى ما تخاف أو أشد ما تتوق إليه، لذلك سنختار هنا ثلاثة أفلام جسدت مجازات شفيفة عن الأشباح، ثلاث حكايات ترتبط على نحو ما بعاطفة الحب أكثر ما يتوق له الإنسان في هذا العالم.
A Ghost Story – ديفيد لوري
نحن أمام فيلم يقلب المنظور الخاص لفيلم الرعب، فالفيلم محكي من وجهة نظر الشبح هذه المرة، شبح غير قادر على تجاوز ما فقده. إنها معكوس الحكاية التقليدية، لسنا أمام بيت مسكون بالأشباح بل شبح مسكون بالبيت الذي رحل عنه، وبالمرأة التي فقدها. يموت الزوج (يقوم بدوره كيسي أفليك) في حادث سيارة قرب بيته، نشاهده كجثة بالمستشفى في لقطة ثابتة، طويلة زمنيًا ودون قطع مونتاجي، ثم ينهض كشبح (ملاءة بيضاء وعينين مظلمتين)، عائدًا إلى بيته وزوجته (تقوم بدورها روني مارا).
يشاهد الحبيب/الشبح حزنها ويحاول أن يتواصل معها دون جدوى. بغض النظر عن شبحيته، فإن المخرج ديفيد لوري يتعامل معه ككيان حي يعاني من كل ما يعاني منه الأحياء. هنا يستعير لوري عناصر فيلم الرعب ولكنه يوظفها داخل عمله بطريقة مختلفة تمامًا عما هو سائد، فهو يستخدم مثلًا ارتعاش ضوء مصباح أو تطاير وتساقط الأشياء كوسيلة للتعبير عما يشعر به الشبح وكمحاولة للتواصل مع حبيبته أو الآخرين الذين يقيمون في البيت بعد رحيلها.
حين يرى بوادر نسيانها له وبداية علاقة مع رجل آخر يسقط مجموعة من الكتب تحمل عناوين مثل «الحب في زمن الكوليرا» رواية جابريل جارثيا ماركيز، و«بيت تسكنه الأشباح» للروائية فرجينيا وولف. يحمل الكتابان بين صفحاتهما حكاية حب تتجاوز الزمن. تحكي قصة وولف التي يقتبس منها لوري المقولة التي يفتتح بها فيلمه عن شبح رجل وامرأة يعيشان في سعادة داخل بيتهما القديم. لكن لحظة التواصل الأهم تتم من خلال الأغنية التي تركها الزوج قبل رحيله. تنام الزوجة على أرضية المنزل وهي تستمع إلى الأغنية بينما تمد يدها باتجاه شبح زوجها حتى تلامسه، إنها لحظة حب نادرة وعظيمة عابرة للزمن تتجاوز حتى حدود الموت.
ما يحرك فيلم لوري ليس خوف الموت بل الخوف من فكرة الفناء النهائي، الغياب الكامل، أن تُنسى تمامًا كأنك لم تكن. لذلك ففكرة الأشباح تبدو نوعًا من العزاء للإنسان فهو سيظل حتى بعد موته قريبًا ممن يحب. فكرة الفناء النهائي تجعل الحياة بلا معنى. لذلك ففي أطول مشاهد الفيلم زمنيًا نجد إحدى شخصيات الفيلم تتحدث عن أن معنى الحياة يكمن فيما يتركه الإنسان خلفه، هذا الوهم بأنه سيستمر في الوجود حتى بعد موته سواء كان ما تركه كتابًا، سيمفونية، أغنية، أو مجرد ذكرى في ذاكرة من يحب.
هذا فيلم أيضًا عن الهوس العاطفي بالأشياء والأشخاص وعدم القدرة على تجاوز الفقد. استطاعت الزوجة أن تتجاوز موت زوجها، بينما ظل شبح الحبيب عالقًا في حنينه إليها وإلى البيت. حتى بعد رحيلها يظل يسكن البيت ويظل معلقًا بالورقة التي أودعتها أحد جدران البيت باعتبارها آخر ما تبقى منها، وحيث يعثر عليها يتلاشى تمامًا دون أن نعرف حتى مضمونها.
يظل جزء مما يعبر عنه شبح لوري مرتبطًا بالمشاهد وما يسقطه عليه من معان. يستفيد لوري عبر التصميم البسيط لشبحه، مجرد ملاءة بيضاء وعينين مظلمتين مما يسمى أثر كوليشوف، إحدى التجارب الرائدة لفن المونتاج السينمائي والذي يقوم في جوهره على أن ما يمنح المعنى لوجه الممثل الخالي من التعبير هي اللقطة التالية. شبح لوري الصامت الخالي من أي تعبير يصنع معناه عبر السياق الذي يوضع خلاله وعبر الأفكار والمشاعر التي يسقطها المشاهد عليه. إنه أشبه بكانفاه يتشارك المخرج والمشاهد في رسم مضمونه.
Phantom Thread – بول توماس أندرسون
كان فرويد يرى أن علاقة الحب بين اثنين هي دائمًا علاقة بين أكثر من اثنين، فشبح العائلة (الأم والأب) حاضر دائمًا بينهما. باعتبار العلاقة بألاب والأم هي العلاقة الأولى والمعيارية في حياة كل إنسان والتي تحدد وإلى حد بعيد شكل وطبيعة علاقاته فيما بعد.
كل علاقة حب إذًا في منظور فرويد تحتوي داخلها عنصرًا شبحيًا يوجهها ويحدد مسارها. في علاقة الحب الغريبة التي تجمع رينولدز وودكوك/دانييل داي لويس مصمم الأزياء الشهير، وألما/فيكي كريبس، يتجسد هذا العنصر الشبحي في شبح الأم. شبح الأم يظهر مرة واحدة فقط بالفيلم، لكنه يرمي بظله على الفيلم من البداية إلى النهاية. هذا المرة التي يظهر فيها شبح الأم لوودكوك، لا يبدو مخيفًا أبدًا بل يتطلع نحوه بكل المحبة التي في العالم، إنها مثال المحبة التي يسعى إليه، إنه يخيط خصلة من شعرها في بطانة ثيابه إلى جوار القلب.
تمر علاقة الحب بين وودكوك وألما باضطرابات كثيرة حتى تستقر في النهاية في حالة يكون وودكوك فيها أقرب إلى طفل وهي أقرب إلى أم. تقول له ألما وهي تطعمه فطرًا مسمومًا سيصير على إثره طريح الفراش لعدة أيام وهي وحدها من يمنحه الرعاية:
يضع أندرسون ألما دائمًا في إطار يجعلها تبدو امتدادًا للأم أو تجسد آخر لها. فالمرة الأولى التي يراها فيها، يقع في حبها ويخبرها أنه يبحث عنها منذ زمن طويل. يأتي ذلك بعد مشهد يحكي فيه وودكوك لأخته سيريل أن أمه تزوره كثيرًا في أحلامه هذه الأيام وأنه يشعر بها أكثر قربًا هذه الأيام من أي وقت مضى. أيضًا في المرة التي يظهر فيها شبح الأم لوودكوك أثناء هذيانه المرضي تختفي بعد ظهور ألما في الغرفه، وكأن هناك من يحل محلها الآن في حياته.
تسكن الأشباح عنوان فيلم أندرسون والذي يشير إلى ظاهرة تنتمي للحقبة الفيكتورية، حيث كان الخياطون في لندن العائدون بعد يوم طويل وشاق يستمرون بطريقة آلية في أداء حركات فعل الخياطة باستخدام خيوط وهمية وكأن قوة خفية تحركهم. أشباح أندرسون لا تثير الفزع بل ترينا حدود الإرادة الإنسانية. الصراعات التي تحتدم في قلب كل علاقة، وتضيء لنا الخيوط الخفية التي تحركنا.
في شقة مصر الجديدة – محمد خان
هذا ما تقوله نجوى/غادة عادل ليحيى/خالد أبو النجا في لحظة شك حول حقيقة وجود الحب، حيث العفاريت في فيلم خان الذي كتبته وسام سليمان هو مجاز الحب.
يستعير الفيلم عناصر فيلم الأشباح التقليدية كالشقة المسكونة بالأشباح، وأبواب تفتح وتغلق من تلقاء نفسها، وسقوط الأشياء دون سبب ظاهر، ولكنه يوظفها بعيدًا تمامًا عن فكرة إثارة الرعب، فهي أشبه بإشارات أو رسائل غامضة تحاول أن تفلت من حصار زمن لم يعد يؤمن بالحب. إنه الصراع القديم في كل أفلام خان، القلب الرومانسي لأبطاله ضد زمن مغرق في ماديته.
فيلم خان هو فيلم عن الأطياف، الأغنية التي يفتتح بها الفيلم، «أنا قلبي دليلي»، تتحدث عن الحبيب كطيف يوجد في الخيال قبل أن يتحقق في الواقع، وكذلك تبدو أبلة تهاني، رسولة الحب في فيلم خان والشخصية التي يتحدث عنها الجميع رغم ظهورها العابر كشبح، طيف ملائكي أفلت من حلم قديم جميل، يظل حتى من رأوها متشككين في وجودها. فالأستاذ شفيق/يوسف داود، وبعد مكالمة تليفونية معها يخبر يحيى مغمورًا بالسعادة: «She exists» كأنه تأكد الآن فقط من وجودها.
يمكننا أن نرى في شخصية تهاني نسخة مؤنثة من كيوبيد، فطيفها هو الذي جمع بطلي الفيلم في هذا الحلم، لينتهي الفيلم بقصة حب محتملة بينهما.
يستخدم فيلم خان فكرة العفاريت التي يتحدث عنها الجميع ولم يرها أحد كمعادل لفكرة غياب الحب مع وجود من يؤمنون به. خان ينتصر للحب وعفاريته في فيلم من أكثر أفلامه تفاؤلًا.