هكذا تطورت السينما من الاستوديو إلى ما بعد الحداثة
الكاميرا، ذلك الاختراع العجيب، الأداة التي تسجل ما يحدث أمامها، وتعرض على المتفرج ما لا يحدث أمامه. لقد أحبها العديد من المبدعين. رآها البعض وسيلة لتحقيق مكاسب مادية، وآخرون أرادوا تقديم أفكارهم ومخاوفهم ومشاعرهم من خلالها. لقد خلقت الكاميرا فن السينما، ذلك الفن الحديث المرتبط بالتقدم العلمي والتكنولوجي. والمختلف في السينما عن بقية الفنون والآداب إنها تتطور بشكل متسارع، من حيث الأفكار والصناعة. فهي الابن الأحدث للمسرح والأدب والفن التشكيلي.
وخلقت السينما بجانبها حالة من التفكير من قبل المشاهدين والنقاد والأكاديمين. يحاولون فهم التغيرات التي تحدث فيها وربط تلك التغيرات بالأفكار الفلسفية والصناعية. فسينما الاستوديو قدمت الحلم الأمريكي، وأراد صناعها تحقيق مكاسب مادية بتقديم قصة مسلية مثيرة. ولكن في أوروبا ظهرت حركات أخرى مختلفة عما تقدمه هوليود نابعة من تغيرات سياسة واجتماعية. وأخيرًا فقد الجميع يقينه ومثله العليا وأصبحت السينما مبشرة بالأفكار العدمية.
سينما الاستوديو
في هوليود حيث كانت الأفلام تحت السيطرة التامة للمنتجين وأصحاب الاستوديوهات/رأس المال في ثلاثينيات القرن الماضي، فيما يعرف بـ«سينما الاستوديو» حيث الفيلم هو مشروع المنتج الذي يعين فيه من يشاء ويطرد من يشاء. وكان من المعتاد تغيير أكثر من مخرج وكاتب سيناريو في أغلب أفلام تلك الفترة. حيث كان يتم تسويق الفيلم بقوة النجم الجماهيرية. ولإرضاء النجم كان يتم تغيير المخرج إذا حدث خلاف بسيط بينهما.
هذه هي القاعدة التي لم تنج منها حتى الأفلام العظيمة. ففيلم «Gone with Wind» مثلًا تعاقب على إخراجه ثلاثة مخرجين، وأكثر من سيناريست.
وكانت الأفلام الأمريكية في ذلك التوقيت تهتم بتقديم ما يمكن تسميته بالحبكة الدرامية كالعنصر الأهم في الفيلم. والحبكة هي التصور الذي يُقدم به الحدث الأهم الذي يدور حوله الفيلم. وكيفية تسلسل الأحداث لتقديم هذا الحدث. فالحبكة هي التقديم الأفضل للحدث البطل، وبقية عناصر الفيلم من صورة، ومونتاج، وموسيقى تصويرية، وتمثيل، وظيفتهم الوحيدة خدمة هذا الحدث.
اهتمت سينما الاستوديو بالتبشير بالحلم الأمريكي، وجعله مصدر جذب تجاري واستثماري لتحقيق أهداف المنتجين الرأسمالية وأهداف الدولة الأيديولوجية. غير أن ذلك لم يمنع وجود العديد من المخرجين مثل «شارلي شابلن» والذي قدم أفلامًا من كتابته وإخراجه عبر بها عن أفكاره وفنه الخاص.
الحداثة والتمرد على الاستوديو
أرتبط مفهوم «سينما الحداثة» في أوروبا بالحركات والمدارس السينمائية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. هذه المدارس أظهرت اختلافات واضحة عن سينما الاستوديو وكل ما تمثله من قيم تجارية ورأسمالية.
فمثلًا «الواقعية الإيطالية الجديدة» وهي الحركة التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخفتت في بداية الستينات من القرن الماضي. ظهرت كتحد لسلطة «ماسوليني» التي أحكمت قبضتها على السينما، وظلت تفرض أطرًا معينة بعيدة عن واقع وهموم المواطن الإيطالي. لذلك اعتمد مخرجو الواقعية الإيطالية على إظهار هموم الطبقات الفقيرة من خلال التصوير في الأحياء الفقيرة والشوارع الضيقة والأسواق العامة واعتمادهم على ممثلين غير محترفين أقرب شبهًا بالمواطن العادي منهم إلى النجوم.
وفي نهاية الخمسينات تحول بعض النقاد في مجلة «كراسات السينما الفرنسية» مثل «جان لوك جودار» و«فرانسو تروفر» للإخراج تملكتهم روح التمرد على الأوضاع السياسية في فرنسا بصفة خاصة وأوربا بصفة عامة، بالإضافة لنبذهم للشكل الكلاسيكي للسينما فوضعوا العديد من المفاهيم الخاصة لسينماهم.
ومع الوقت جمعت تلك المفاهيم في نظرية «سينما المؤلف» والتي ترى أن العمل الفني إبداع شخصي حتى لو شارك آخرون في خروجه للنور. فاللوحة من إبداع رسامها فقط، والموسيقى من إبداع موسيقار واحد حتى لو عزفها مئات الموسيقيين. وبتلك الرؤيا خرجت مدرسة سينما المؤلف. والتي ترى العمل السينمائي منتجًا ذاتيًا لشخص واحد يكون هو المؤلف والمخرج في ذات الوقت.
وسينما المؤلف لا تهتم بالحبكة ولا الحدث الرئيسي، بل تعتمد أكثر على التجريب وقدرة مخرج العمل على صياغة أفكارة وإظهار فلسفته وذاته على الشاشة، وكذلك طريقة عرضه البصري وجمالية العمل واستغلاله لتطور أدوات السينما التي لا تلزمه بالعمل في الاستوديو.
فيلم «هيروشيما حبي» لـ«ألان رينيه» من أهم أمثله تلك الموجة فهو يجسد قصة ممثلة فرنسية تسافر لليابان لتأدية دور في فيلم مناهض للحرب ويدعو للسلام، وتلتقي هناك بأحد الرجال اليابانيين وتبدأ علاقة بينهما. الفيلم حافل بالحوارات الشاعرية والفلسفية التي تظهر قسوة الحرب. لم يهتم رينيه بصناعة حبكة درامية للفيلم، بل ركز علي إظهار كيف هزمت الحرب أبطاله داخليًا، وضياع آمالهم وأحلامهم، وبحثهم عن السلام المفقود في العالم.
نجحت الموجة الفرنسية في جذب الشباب لها عالمياً بالإضافة لنجاحها النقدي، ولكن مع الوقت أصيبت الموجه بالركود وفي الوقت نفسه أعيد بناء الاستديوهات في هوليود بشكل مواكب للعصر وقدمت جيلًا من الشباب المتميز مثل «مارتين سكورسيزي»، و«فرانسيس فورد كوبلا». وبدأ ظهور العديد من الأساليب الغريبة في السرد البصري والكتابي والتي جذبت الجمهور والنقاد. ومع الوقت اصطلح الأكاديميون على تسمية هذا الشكل الجديد بسينما «ما بعد الحداثة».
ما بعد الحداثة
لم تظهر أفلام «ما بعد الحداثة» كنافية لتراث السينما، فهي تحتوي على الأفلام التجارية الجاذبة للجمهور على الطريقة الأمريكية، والأفلام التأملية الهادئة التي لا يتابعها عادة سوى المخلصين للسينما وخصوصاً الأوروبية. وبعض أفلامها يمكن إدراجه تحت مسمى سينما المؤلف، والبعض الآخر يكون من كتابة مؤلف أو أكثر مختلفين عن المخرج. بالإضافة إلى كونها جاءت كتعبير عن الروح العدمية والشك في السرديات الكبرى بمختلف أشكالها التي أصابت العديد من السينمائيين والشعوب الغربية بصفة عامة.
ولفهم أفلام ما بعد الحداثة علينا التعرف على مصطلح «B Movies» والذي يشير لبعض الأفلام قليلة التكلفة والإتقان والحافلة بالموسيقى الصاخبة، والتي كانت موجهة بالأساس للشباب الأمريكي. وتعتبر هذه الفئة من الأفلام هي المنبع النابض لأفلام ما بعد الحداثة والتي تأثر بها مخرجون عظماء مثل «كوانتين تارنتينو»، و«ديفيد لينش». هذه الأفلام تتحدى المعايير الفنية والجمالية التي ظلت مفروضة على السينما، ولعل هذه إحدى أهم خصائص ما بعد الحداثة، وهي عدم تمسكها بالموروثات الجمالية في الصورة.
فكما ذكرنا يقتبس كوانتين تارنتينو صورة أفلامه من الأفلام التي ظلت تتهم بالركاكة البصرية وأعتمادها على كثرة الدماء والأكشن غير المتقن. في فيلم «Django Unchaind» يطلق على البطل آلاف من الطلقات ولا يتعرض لأي نوع من الإصابة. فالبطل يظل حياً لأن المخرج يريد تلك السخرية من التقاليد والمنطق. ويستخدم «لارس فون ترير» الكاميرا المحمولة على اليد Hand Held والتي كانت لا تستخدم في الأفلام الروائية، فهي تناقض فكرة جمالية الصورة التي ظلت السينما الحداثية تراعيها.
تهتم سينما ما بعد الحداثة بالعنف والجنس الوحشي، وظهرت على إثرها مصطلح «السينما الآثمة» ويقصد به السينما التي تتحدى قيم الجمهور مهما اختلفت توجهاته وأيديولوجيته. فأغلب من سيشاهدون الفيلم سيشعرون بأن الفيلم يتحداهم لكى لا يكملوه. فهذه الأفلام تكون مليئة بالجنس القبيح العنيف ومشاهد القتل المقززة. وينطبق ذلك المصطلح على أفلام المخرج الفرنسي «جاسبير نوا».
كما أنها تحقق أسوأ كوابيسنا، كالموت المفاجئ أو القتل في حادث غير مدبر. وينطبق ذلك على أفلام «الأخوين كوين» في فيلم «No Country For Oldmen» حيث يقوم القاتل المتسلسل بقتل كل من يقابلهم صدفة، وهم أشخاص أبرياء يقومون بعملهم أو يجلسون في بيوتهم. جميع أفلام الأخوين كوين الأخرى مليئة بمثل هذا المصير وحوادث القتل العشوائية.
كما تعتمد أفلام ما بعد الحداثة على تهميش الحدود الزمنية والمكانية. ففي أفلام ديفيد لينش لا يمكن التفرقة بين ما يدور في الواقع أو في الحلم. وفي فيلم «Pulp Fiction» يعرض مشهد قتل «جون تارفولتا» وهو مشهد لا ينتمي لأحداث الفيلم الزمنية. بالإضافة لأن زمن الفيلم يدور بشكل دائري فمشهد البداية هو نفس مشهد النهاية. وأبطال كل فصل يتحولون لشخصيات هامشية في الفصل الذي يليه.
وأحيانًا تكون أفلام ما بعد الحداثة ذات بناء تقليدي للقصة والصورة ولكن تظهر قيمها من خلال تعبير الأبطال عن أنفسهم. ويعد فيلم «Fight Club» هو المثال الأشهر على ذلك خصوصاً خطبة براد بيت الشهيرة التي يعبر فيها عن مشاعر شباب هذا العصر ويصفهم بالأبناء المنسيين للتاريخ.
لقد مرت السينما بجميع المدارس الفلسفية المعاصرة، وتأثر مبدعوها بالأحلام والإحباطات المرتبطة بالأوضاع السياسية والاجتماعية وظلوا يعبرون عنها من خلال التغيير والتجريب في السرد والصورة. ويبدو أن السينما لا تتوقف عن التطور، خصوصاً وأنها فن حديث ليس لديه ماض عريق كالفن التشكيلي أو الأدب.