السينما بين الميثولوجيا والقصص الديني
ليست الميثولوجيا والأساطير مجرد حكايات كُتبت في الماضي، بل إن أحد أوجهها أنها كُتبت لتفسير بعض الأشياء غير المفهومة، سواء الكونية أو الذاتية. فلم يكن عقل الإنسان والوسائل المتاحة تمنحه فرصة للتعبير إلا بالقصص وبعض النقوشات التي تختلف جودتها من حضارة إلى أخرى. ونفس الأمر ينطبق على القصص الديني الإبراهيمي الذي يعتبر وسيلة تفسير العالم للحضارات المؤمنة به، خصوصًا الشرقية.
ليست الميثولوجيا والقصص الديني كما تبدو للوهلة الأولى قصص مسطحة تبرز أطراف الخير والشر بوضوح. من جهة نعم هي كذلك. ولكن بتفكير حداثي يمكن إيجاد الكثير من الطبقات والرموز التي يمكن استغلالها للتعبير عن أزمات إنسانية معاصرة.
هكذا فعلت السينما، خصوصًا الحديثة منها، التي استغل مخرجوها تلك الحكايات السحيقة في أن تكون أحد طبقات السرد، أو أن تكون أفلامهم مبنية على الإطار العام لأحد تلك الحكايات.
تضحية المسيح عند فون ترير
يظهر دائمًا تأثر المخرج الدنماركي «لارس فون ترير» بفكرة التضحية التي قام بها السيد المسيح، وكونه المخلص الذي حمل الذنوب والآلام عن البشر. ولكن يقوم فون ترير دائمًا بتجسيد شخصية المسيح في صورة أنثى. تقدم ثلاثية القلب الذهبي (كسر الأمواج – البلهاء – الراقصة في الظلام) نماذج مختلفة لنساء مضحيات، تضحية شديدة التطرف.
ولكن يظهر الاقتباس الواضح لقصة السيد المسيح في «كسر الأمواج» من خلال السيدة التي تضحي من أجل زوجها الذي يحتضر. التضحية التي تحولها لعاصية في وجهة نظر سكان مدينتها المتطرفين دينيًا. وينتهي الفيلم بالتضحية الأكبر التي تؤدي لمقتلها في حادثة اغتصاب جماعي.
وإن كان الرمز هنا ليس بهذا الوضوح، ويمكن أن يقال إن هذه قصة فتاة بريئة لا تؤمن إلا بالحب وتريد التضحية حتى بحياتها من أجل إنقاذ حبيبها، لكن فون ترير أنهى الجدل وأعلن بشكل مباشر عن رمزية السيد المسيح في الفيلم بمشهد صعود روحها للسماء واحتفال الأخيرة بقدومها. كسر الأمواج هو أقل أفلام فون ترير تطرقًا لمشاكل سياسية أو اجتماعية، فيبدو أنه مجرد فيلم عن التضحية التي لا يفهمها المتطرفون.
اقرأ أيضًا:ثلاثية الاكتئاب: حين أشهر فون ترير سيفه أمام الجميع
وفي فيلم «Dogville» يأخذ الإطار العام للقصة شكل صراع بين وجهتي نظر المسيح والإله في التوراة. فيمثل أبوها الجبار المسلح الباطش إله التوراة القاسي الذي يضع الأحكام ويعاقب على أصغر الأخطاء، وتهرب ابنته جريس الفتاة العطوفة التي تشفق على الجميع. حتى من يخطئون في حقها. إنها تتفهم خطاياهم، بل تتحمل بعضها. تقوم بخدمتهم ورعايتهم، ولكن هذا يدفعهم لاستعبادها. إنها تمثل المسيح.
يريد فون ترير في هذه الرمزية نقل جدال ثقافي اجتماعي معاصر في صورة دينية أسطورية. فالجدال الدائم بين هل يستحق الفقراء والبسطاء العقاب على جرائمهم، أم يجب تفهم أسبابها ورحمتهم. هذا الجدال الذي من أجله هربت الابنة من أبيها. وتختبر أفكارها لأول مرة في قرية دوجفل. ومن خلال هذا الصراع يلقي فون ترير الضوء على سؤال الشر في الطبيعة البشرية، وهل هو متأصل أم دخيل عليها.
ميثولوجيا المعاصرين
استلهم المخرج الكوري الجنوبي «بارك تشون ووك» سردية فيلمه الأشهر «Oldboy» من أسطورة أوديب، حيث يسعى بطل الفيلم للانتقام طوال الأحداث من شخص مجهول، ولكن حينما يعرفه يعلم الفجيعة التي ارتكبها، لقد كان يعاشر ابنته طوال الوقت. لم يتحمل الصدمة، ومثلما فقأ أوديب عينه، قطع بطل تشون ووك لسانه ندمًا على أفعاله ومحاولة للتطهر منها. يحاول تشون ووك من هذه القصة التحدث عن الأخطاء الصغيرة اليومية التي ربما تؤثر على حياة غيرنا. ويستلهم حيرة البطل من حيرة أوديب.
اقرأ أيضًا:بعيدًا عن هوليود: الفيلم الكوري Oldboy
وفي فيلم «The Killing of Sacred Deer» يحاول المخرج اليوناني «يورجس لانثيموس» تعرية المجتمع البرجوازي من خلال قصة الطبيب وأسرته المثالية، الذين يعشيون حياة مثالية ناجحة. ولكن تأتي العاصفة على صورة مراهق يتهم الطبيب بقتل والده، ويرغب في تحقيق العدالة، ويطالبه بقتل أحد أفراد أسرته حتى ينقذ الباقين. لانثيموس يسير على سياقات التراجيديا اليونانية «أفجينيا في أوليس». وبأسلوب قاسٍ سوداوي يتحدث عن معنى العدالة والتضحية والانتقام. والشعور الداخلي بالذنب الذي أراد الطبيب عدم إظهاره.
وكذلك يستلهم «دارين أرنفوسكي» في فيلمه «The Fountain» أسطورة شجرة الحياة، وهي أسطورة متكررة في الأديان والثقافات الشرقية من فراعنة وأرمن وأشوريين والثقافة الصينية. حيث يقع البطل في سؤال عن الخلود والموت جراء إصابة زوجته بسرطان مميت. إنه يحاول إنقاذها بكل الطرق الممكنة. وفي سرد موازٍ ننتقل لقصة الملكة التي تأمر مساعدها بالوصول لشجرة الحياة التي تمنح الخلود.
شجرة الحياة عند أرنفوسكي هي الينبوع الذي بعثت منه الحياة، والتي ستمنحنا الخلود حتى في حالة موتنا الظاهري. ويجب عدم نسيان أن أرنفوسكي هذا العام أخرج لنا فيلم Mother! وهو فيلم يتحدث عن تاريخ الأرض وتعامل الرب معها من منظور الطبيعة الأم.
القصص الديني والعرب
استخدم كل من «داود عبد السيد» و«يوسف شاهين» القصص الديني على استحياء. ففي فيلم «أرض الخوف» الذي استوحيت قصته من نزول آدم من الجنة لأرض الواقع والخطيئة لينغمس في الخطايا ويتورط في القتل. لم يخف داود الرمزية كثيرًا فسمى بطله آدم. وهو ضابط شريف يتم توكيله بمهمة التخفي وسط تجار المخدرات وممارسة كل أفعالهم. تشبه هذه المهمة انتقال آدم من الجنة للأرض. حيث يتلوث آدم بمعاشرة رجال المخدرات ويقوم بكل أفعالهم إلى أن يقتل مثلهم. عندها لا يعلم من هو، أهو الضابط الشريف أم تاجر المخدرات القاتل؟
ويقوم يوسف شاهين في فيلمه «المهاجر» بنقل شبه مباشر لقصة يوسف الصديق. حيث يحاول الشاب الذي يعيش في قرية صغيرة على أطراف مصر الهجرة لرفضه الفقر ولتعلم فنون الزراعة. يصطحب إخوته السبعة فيتخلصون منه في مركب. والتي للصدفة تنقله لمصر، وهناك يعيش حياة مختلفة.
يحاول شاهين من خلال هذه القصة نقل فكرة التعليم والتغيير التي يسعى إليها «فرام» بطل القصة. ويحاول من خلال هذه القصة نقل رسالته عن ضرورة تغيير حال مصر، وأن يحمل أبناؤها مهمة التطوير والتغيير.
الميثولوجيا والقصص الديني يمثلان مكونًا مهمًا من الفكر الإنساني، والذي ترك تأثيره بالطبع على التكوين الفكري للمبدعين، ورغم وجود نماذج عديدة من النقل السطحي لها، ولكن هناك بعض المبدعين الذين نجحوا في إسقاط تلك القصص على الواقع السياسي والاجتماعي المعاصر. بل إن البعض جازف في سبيل ذلك بتعريض نفسه للمنع ومقص الرقيب كحالة يوسف شاهين وداود عبد السيد.