محاولة اغتيال عمران خان: كرونولوجيا الصراع السياسي في باكستان
أصيب رئيس الوزراء السابق، عمران خان، الخميس 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، برصاصة في ساقه في الموكب الاحتجاجي الذي نظّمه في محافظة وزير آباد شمال شرقي البلاد، للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة. وقد اتهم عمران خان كلاً من رئيس الوزراء «شهباز شريف»، ووزير الداخلية «رانا ثناء الله» إضافة الى قيادة عليا في الجيش، بالضلوع في مؤامرة لقتله.
ويضم التاريخ السياسي لباكستان سجّلاً من الاغتيالات أبرزها: لياقت علي خان عام 1951، وبينظير بوتو عام 2007. وهذه حلقة جديدة من مسلسل الصراع على السلطة بين مختلف القوى السياسية في باكستان.
منَ عمران خان؟
اسمه الكامل «عمران أحمد خان نيازي». وُلد في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1952 بمدينة لاهور. على الرغم من أنه كان يُسَوِّقُ لنفسه كرجلٍ من الشّعب فإنّ الكاتب «كريستوفر ساندفورد» يقدّمه على أنّه ينحدر من عائلة أرستقراطية: والده إكرام الله خان، مهندس مدني أتمّ دراسته في لندن، ينتمي لقبيلة «نيازي» التي تعود جذورها إلى القرن الثاني عشر. وقد دأبت سلالتهم على تمويل الحملات العسكرية ضد المغول. أما والدته «شوكت بُرْكِي» فتنتمي إلى قبيلة تركية-أفغانية من الرُّحَّل، ذات تاريخ عريق من التجارة والقتال. وقد نشأ عمران في محيط مُسيّج في منطقة تحمل اسم عمّه الأكبر «زمان خان»، وهي منطقة سكنية تعتبر للطّبقة المتوسطة العليا.
بعد التقاعد من رياضة الكريكت عام 1991، بدأ مساره في السياسة، معتمدًا في ذلك على شهرته كبطل رياضي، وعلى الأعمال الاجتماعية الخيرية التي أشرف عليها؛ التي من أبرزها مستشفى «شوكت خانم» لعلاج الأورام السرطانية في لاهور.
في عام 1996، أنشأ حزب «باكستان تحريكِ إنصاف»، وقد صرّح للصحافة بأنه على الرغم من أفول نجمها في السياسة فإن «عائلة نيازي ما زالت تعتبر نفسها سلالةً حاكمة»، وربما كان هذا هو الطموح الذي شحذ عزيمته للاستمرار في مجال السياسة، على الرغم من أنه لم يحظ بدعم كبير في البداية، إذ خسر أول انتخابات يخوضها عام 1997.
جذور الصراع
اختارت الدولة التي نشأت في 1947، مبكّرًا موالاة المعسكر الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، في وقت اختارت فيه الهند التحالف مع الاتحاد السوفياتي. ويطبع نظام الحكم في باكستان تدخّل الجيش في السياسة مع الحفاظ على بعض مظاهر الديمقراطية، حيث عرفت البلاد تسعة انقلابات على حكومات مدنية.
وغالبًا ما يتحالف الجيش مع الحركات الإسلامية الأصولية، ويقوم بالاستعمال النفعي للخطاب الإسلاموي لشرعنة حكمه الاستبدادي. ويعود السبب في تدخل الجيش في السياسة وتضخم نفوذه على حساب المؤسسات السياسية المدنية إلى السياق التاريخي للبلاد: الحرب مع الهند، وبناء الدولة-القومية التي لا تعترف بالتّنوع العرقي، بل بالأردو كلغة رسمية وحيدة للبلاد، ومُهمّشة لباقي المجموعات الإثنيّة.
وقد استطاع الجيش الحصول على الاستقلالية بفضل الموارد المالية التي تتوفر له؛ إذ كان يحصل على 60% من ميزانية المالية للبلاد في العشر سنوات الأولى بعد الاستقلال. كما استطاع الإفلات من الرقابة المدنية تحت ذريعة السِّرِّيّة لتحقيق النجاعة على صعيد «المجهود الحربي».
ومنذ منتصف الخمسينيات، بدأ الجيش يرى أن الديمقراطية البرلمانية غير عمليّة لإدارة دولة مُهدّدة بالنزاعات القومية وبالخلافات الخارجية. وبفضل المساعدات الأمريكية التي سرّعت تطوّره مقارنة مع باقي القطاعات الأخرى للدولة، بدأ ينشأ لدى القيادات تصوّر بـ«أن للجيش القدرة والواجب على تقويم البلاد».
وفي عام 1958، قام الجنرال «أيوب خان» بتطبيق هذا التصور بنزع السلطة من الحكومة المنتخبة ديمقراطياً. ونوّع الجيش من موارده المالية بولوج الأنشطة الاقتصادية المدنية؛ من عقار، وأسمدة، وغاز وبترول، وإسمنت… إلخ، وأحكم قبضته على كلٍّ من القضاء ووسائل الإعلام.
وقد غيّر الجنرال «ضياء الحق»، نظام الحكم ليصبح نظامًا نصف جمهوري، يملك فيه الرئيس صلاحيات كبرى، بينما أضعف مركز رئيس الوزراء، حتى يتحكم العسكر في الحكومة المنتخبة. وهو ما استعمله الجيش لإسقاط ثلاث حكومات منتخبة، في فترة الانتقال الديمقراطي التي عقبت وفاة ضياء الحق: حكومتين لبِينَظِير بوتو (1988-1990، 1993-1996) وحكومة لنوّاز شريف (1990-1993).
في عام 1997 ألغى نوّاز شريف امتياز الرئيس بإقالة الحكومة. ولكن عاد بعدها الحكم العسكري مع الجنرال بِرْوِيز مُشَرَّف، الذي حاول تمويه الحكم العسكري بمظاهر ديمقراطية، فسمح بالتعددية الحزبية المحدودة، ورَفْع القيود عن بعض الحريات المدنية والسماح بقنوات إعلاميّة خاّصة. وفي عام 2003، بدعم من الإسلاميين في البرلمان، أعاد امتياز إقالة الحكومة لرئيس الجمهورية.
وفي عام 1998، صرّح عمران خان بأن باكستان «كانت في يد مافيا سياسية، تستعمل السياسة للوصول الى مصالحها الشخصية». إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من التحالف مع رؤوس النظام القائم، بدعمه لانقلاب برويز مُشَرَّف عام 1999، ودعّمه أيضًا في استفتاء عام 2002 الذي اعتبرته الأحزاب الأخرى غير دستوري.
انتقل عمران خان لمعارضة مُشَرَّف إثر ترشحه عام 2007 دون الاستقالة من منصبه كقائد للجيش، فتمّ وضعه تحت الإقامة الجبرية تلتها فترة من السجن، ليعود إلى الواجهة عام 2011، ويلقي خطابًا أمام مائة ألفٍ من مناصريه، واصفًا التغيير الجديد بأنه «تسونامي» في وجه الأحزاب الحاكمة.
كان مؤيدو عمران خان يرَوْنَهُ رمزاً لتغيير الوضع القائم من الفساد والعنف والإرهاب والبطالة. وعلى الرغم من أنه تبنّى منذ بداية مساره السياسي مشروع التغيير الجذري، مُظهِرًا النية في إقامة نظامٍ قضائيٍّ مستقلٍّ، وتجديد الشرطة، والحدّ من البيروقراطية، وتحرير الاقتصاد والسيّادة على المستوى الأمني والمالي، وإنهاء عهد «تسول المساعدات» من الخارج. بينما يعتبر معارضوه أن هذه مجرّد شعارات شعبويّة، غرضها التلاعب بعقول النّاخبين، وأن الحلول التي يقدّمها غير واقعيّة، إذ يعتبره الباحث «عقيل شاه» زعيمًا شعبويًا من اليمين، وصل إلى الحكم بتحالفه مع العسكر.
الحكم الهجين
لطالما قام النظام القضائي بدعْم حُكْم العسكر، كتأييده انقلاب مُشَرَّف بحجّةِ «الضرورة القصوى». ولكن في عام 2005، أخذ المجلس الأعلى للقضاء يفتح ملفاّت تضارب المصالح، وفساد العقود المبرمة مع القطاع الخاص، والمختفين قسريًّا، ليتحدّى بذلك سلطة العسكر. تلاها شذ وجذب بين «محمد افتخار شودري» رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ومُشَرَّف، انتهت بإعلان الأخير حالة الطوارئ عام 2007، ووضع شودري ورجال قضاء آخرين تحت الإقامة الجبرية، وتعويضه بقضاة يُوَالُونه، وكتابة دستور سُلْطَوِيٍّ جديد.
وبصفةٍ عامّة يمكن القول، إن الجيش لم يكن منخرطًا بشكلٍ مباشرٍ في السياسة تحت حكم برويز مُشَرَّف، كما كان عليه الحال في حكم ضياء الحق وأيوب خان، حيث كان الجيش يشتغل في الإدارات المدنيّة للدولة، بل معظم عناصر الجيش كانت تقوم بأعمال عسكرية صرفة.
ومنذ عام 2007، انسحب الجيش من السياسة تحت قيادة الجنرال كاياني، وصياغة دستور جديد يلغي تحكم الجيش في السياسة، ويعطي السلطة المدنية الحق في تعيين قيادات الجيش. غير أن هذا الانسحاب كان تكتيكيًا، إذ كان الجيش يحدّ من إمكانية الحكومة المدنية من ممارسة سلطةٍ سياديةٍ، ويُجهض أيّ جهود لتعزيز الديمقراطية. فحزب «الشعب الباكستاني» مثلاً، اختار ألا يمارس الامتيازات التي يُخوّلها الدستور له، وكلما حاول المدنيّون تحدّي نفوذ الجيش يتراجعون بسرعة.
وقام مُشَرَّف بالاستقالة من منصبه في الجيش عام 2007، بعد تخلي النظام العسكري عنه لإنقاذ سمعة المؤسسة كَكُلّ والحفاظ على امتيازاتها في السلطة، وتلتها انتخابات برلمانية فاز فيها زرداري. ويصف الباحث «عقيل شاه» بأن النظام، من 2008 إلى 2013، أصبح ثنائي الحكم بين حزب الشعب الباكستاني والجيش، إضافة إلى السلطة القضائية كلاعب أساسي في موازنة هذه العلاقات.
تَقَلّدَ عام 2018، بطل الكريكيت، رئاسة الوزراء. ويعتبر «عقيل شاه» أن تولّي عمران خان رئاسة الحكومة ليس دليلًا على الجو الديمقراطي بقدر ما هو دليل على أنّ نفوذ الجيش ما زال مستمرًّا. إذ يعتبر أنه لم يَفُز بفضل التصويت، بل بفضل المخابرات التي زوّرت نتائج الانتخابات لصالحه.
وبنفس المنطق، يعتبر أن سحب الثّقة لم تكُن سوى من تدبير العسكر الذي قرّر التخلص منه بعد فشله في تدبير اقتصاد البلاد وتنفير الحلفاء الخارجيين وخلافه مع قيادات الجيش، خصوصًا بعد اختلافه مع قائد الجيش باجوا، حول إقالة رئيس المخابرات. هذا الخلاف هو الذي شجّع المعارضة، وبعض الأعضاء السّاخطين من حزبه، للاتحاد للإطاحة به، فيما أصدر القضاء العالي قراراً بمَنْعِ حلِّ البرلمان واستكمال إجراء تصويت سحب الثّقة.
وبالفعل في العاشر من أبريل/نيسان الماضي (2022)، تمّ إسقاط حكومة عمران خان من خلال تصويت سحب الثقة في البرلمان، وتمّ تعويضه بشهباز شريف، الذي يرأس تحالف الرابطة الاسلامية وحزب شعب باكستان. فيما يصفه بمؤامرة سياسية حاكت خيوطها الحكومة الحالية وقيادات الجيش ودول أجنبية.
ويرى مؤيّدوه أنّ مشاكل باكستان هي نتيجة لسياسات الحكومات السابقة، زادت من تفاقمها الحرب الروسية الأكرانية وارتفاع أسعار الطاقة، ناهيك عن انخفاض المساعدات الأمريكية واتجاهه نحو نهج أكثر استقلالية بتحالفه مع تركيا لتكوين كتلة إسلامية، وعدم التصويت لقرار الأمم المتحدة بإدانة روسيا.
بينما يرى معارضوه، أنه عوضًا عن الوفاء عن وعوده بخلق باكستان جديدة، ترك البلاد ترزح تحت مستويات أعلى للتضخم، وارتفاع الدّيْن العام وتدَخُّل أكثر للمخابرات في حياة المواطنين، وقمع الصحفيين والمعارضين.
عادت شعبية عمران خان في التصاعد بعد إسقاط حكومته، وتصدّر في «تويتر» هاشتاغ «باجوا خائن» من قِبِل مناصريه. ومنذ ذلك الحين وعمران خان يطالب بانتخابات مبكرة، وبمعارضة ما يسميه «الحكومة المُسْتَوْرَدَة»، إلى أن تمّ قصْفُ موكبِه بالرصاص. وتوفّي على إثْره شخص واحد، فيما جُرح أحد عشر.
وفيما رفض رئيس الوزراء الاتهامات الموجهة إليه وفتحه تحقيق في الحادثة، لا يُعلم لحد الساعة الجهة المسئولة. ولكن المؤكد أن الانتقال الديمقراطي ما زال مُتعثّرًا، وأن الجيش لم يتخل بعد عن دوره في اتخاذ القرار السياسي.