كريستوفر نولان: بين البحث عن السحرة والبحث عن الأمل
في خبر سعيد لمحبيه، يعود المخرج البريطاني كريستوفر نولان هذا العام بعمل جديد، يستند في أحداثه إلى حياة العالم روبرت أوبنهايمر الملقب بوالد القنبلة الذرية، وهو الفيلم الثاني في مسيرة نولان الذي تدور أحداثه إبان الحرب العالمية الثانية، وأول فيلم يتناول فيه نولان سيرة ذاتية لشخصية مشهورة.
وعلى الرغم من أن نولان من أكثر المخرجين جماهيرية واستمرارية في السنوات الأخيرة، فإنه يتعرض دائماً لانتقادات تتعلق بإيقاع أفلامه والتنقل، غير المدروس أحياناً، بين الأزمنة.
وفي هذا المقال نستعرض اثنين من أشهر أفلامه مع نقاط القوة والضعف لهما.
سحر بلا سحر
في فيلمه The Prestige، المأخوذ من رواية لكريستوفر بريست، يحكي قصة اثنين من السحرة، ألفريد وأنجيير، أحدهما موهوب بالفطرة ومحب للتجريب، والآخر أقل موهبة لكنه أقرب إلى الهوس والجنون وحب السيطرة.
اعتاد نولان في أفلامه الجيدة أن يقدم شخصيات مركبة تشهد صراعات نفسية، أو تتعرض لحادث في زمن ماضٍ أثر عليها في الحاضر، ولذلك يبدو صراع الخير والشر في أفلامه جذاباً، لكن في هذا الفيلم يبدو الصراع هشاً ونمطياً للغاية، يعتمد الفيلم في التأسيس على الحوار بين شخصياته، ويتناول بشكل كبير العلاقة بين الساحر وجمهوره، موضوع الفيلم يحوي من الغنى ما يجعله مادة مهمة للحديث عن العلاقة الأبدية بين الخير والشر، واللحظات التي يتحول فيها الطموح إلى جنون تام، تصبح فيه الغايات أهم من الوسائل، وكيف تتحول تلك الغايات إلى وهم، يشعر حينها الشخص أنه اقترب من الانتصار، لكنه يستفيق على زيف اللحظة وبشاعة المصير، لكن ما نراه على الشاشة فعلياً هو علاقة نمطية بين ساحرين يتناوبان على إفساد خدعهم السحرية.
شيء مألوف ثم خدعة ساذجة
كل خدعة سحرية في الفيلم تنقسم إلى ثلاثة أجزاء؛ أولها، شيء مألوف يظهره الساحر وربما يتفحصه المشاهد ليتأكد من حقيقته، ثانيها، التفاف الساحر حول الحقيقة وبحث المشاهد عن سر الخدعة، وفي غمرة الدهشة يأتي الجزء الثالث، السر، الذي يجعل القاعة تغرق في التصفيق، وفي ظل العديد من الخدع التي يقدمها الساحران خلال الفيلم تأتي حادثة قتل زوجة أحدهما لتجعل التنافس بينهما مشتعلاً وأقرب للانتقام.
يحاول نولان في بناء الفيلم أن يجعل منه انعكاساً للحركات الثلاث التي تُقدم بها الخدع السحرية، يحاول تعريفنا بالشخصيات، ثم يجعلنا نندهش بصراعهم والتفافهم حول الحقيقة، ثم تأتي اللحظة التي يصفق فيها الجمهور، تأتي المكاشفة الساذجة التي يشرح فيها نولان بشكل مباشر أحداث الفيلم كاملة في الحظة بين اختراق رصاصة للصدر وخروج الروح!
على الرغم من جمال الصورة وانسيابية المونتاج والأداءات الجيدة فإن شخصياته أقرب للدمى منها للكائنات الحية، الفيلم نفسه يبدو مباشراً وغير منطقي في أغلب لحظاته، غياب المبرر لتصرفات زوجة بوردين على الرغم من علمها بما يحدث، وهدم هذه المبررات في المشهد الأخير، المحاولة المباشرة لتشبيه الصراع بين الساحرين بالصراع الدائر بين أديسون وتسلا، والبرود الذي يسود الفيلم على الرغم من كل محاولات نولان لكسره بلحظات الإثارة.
خير غير مبرر ضد شر غير مبرر
في 2005 سبب كريستوفر نولان صدمة للعالم بفيلمه Batman Begins، قدم باتمان شخصية الكوميكس الشهيرة بمنظور أكثر إنسانية وأقرب للواقع، ماضي الشخصية وتحولاتها، وكيف تحول بروس وين إلى البطل الذي نراه، وبعد ثلاثة أعوام قدم الجزء الثاني من السلسلة في فيلمه الأهم The Dark Knight.
الناظر بدقة في أفلام نولان يجد شيئين رئيسيين في سينماه؛ التلاعب الزمني في السرد، والاهتمام الطاغي بالصورة الذي ربما يتجاوز البناء الدرامي، لكن هنا يستغني نولان عن أهم ما يميزه، ويهتم أكثر بالنزعة الأخلاقية وبناء الشخصيات ونقاط التحول، يبدأ الفيلم بتقديم هارفي دينت، المدعي العام الجديد الذي يحاول بكل قوة وشرف أن يتصدى للجريمة في مدينة جوثام، التي أصبحت مرتعاً للإجرام والفساد، يعاونه في ذلك المحقق الشريف جوردن والبطل الشعبي باتمان.
شخصية الشر هنا هي الجوكر، قدمها هيث ليدجر في أداء مثالي، وكتبها نولان بإتقان حقيقي، على مستوى التأسيس لم يقدم نولان أي خلفية عنها كما فعل مع باتمان في الجزء السابق، لكنه على الرغم من ذلك لم يهمل بناءها خلال العمل، صنع أبعاداً حقيقية لجنونه وانعدام دوافعه وهوسه الذي لا يتوقف في استفزاز الشر داخل الإنسان، ورغبته في خلق الفوضى من دون أي رغبة مادية.
الجوكر لا يريد قتل باتمان، يراه شريكاً له في لعبة الأقنعة، ومكملاً له في الغرابة وفي لعبة الفوضى، في موت باتمان نهاية له، بينما في وجوده معنى وقيمة له واستمرار لحيله، هذا الصراع بين الخير غير المبرر والشر غير المبرر قدمه نولان بعظمة استثنائية.
مُت بطلًا
الصراع هنا، على العكس من The Prestige يبدو حقيقياً للغاية، ويشعر فيه المشاهد بالخطر الحقيقي، لاسيما مشهد القنبلة في السفينتين واختبار الجوكر للشر داخل النفوس البشرية ممزوجاً بغريزة البقاء، وإلى جانب صراعات الشخصيات مع بعضها، هناك الصراع داخل الشخصيات نفسها، استمرار باتمان في عمله بعد مقتل حبيبته، وما هو مفهوم البطولة الحقيقي؟ كذلك التساؤلات التي ينثرها النص من حين لآخر ولعبة القدر، هل سيصبح باتمان هذا البطل لو لم يسقط في وكر الخفافيش؟ ماذا لو لم يظهر الجوكر؟ هل سيصبح باتمان منبوذاً أيضاً؟ هل كان دينت سيتحول إلى ذي الوجهين؟
تقديم الخلفية الإنسانية لباتمان في الجزء السابق تظهر هنا بصورة أكثر اكتمالاً، الأمل الحقيقي لمدينة جوثام وتخلصها من قوى الشر يأتي عن طريق الخير الحقيقي المتمثل في الإنسان، لهذا يدرك الجوكر أن صراعه الحقيقي ضد هارفي دينت، الفارس الأبيض والخير المطلق وممثل القانون، وينجح الجوكر في تشويه وجهه وقتل حبيبته وتحويله إلى شخص قاسٍ يسعى فقط إلى الانتقام ممن خانوه وخذلوه، بعدها أقنع الجوكر دينت أن الحياة عبارة عن سلسلة متتالية من الحظ، تحول هارفي دينت إلى الرجل ذي الوجهين، يتحول من بطل إلى رمز للقسوة والانتقام، وهنا يأتي دور التضحية لباتمان، الذي يخبر المحقق جوردن أن رمز الخير والنقاء المتمثل في هارفي دينت لا يجب أن يتلوث، فارس جوثام الأبيض لا يجب أن يموت، يقنع المحقق جوردن الناس، بالتعاون مع باتمان نفسه، أن باتمان هو من قتل دينت، ليستمر الأمل في نفوسهم.