المسيحية الصهيونية في شرق آسيا: كنز استراتيجي لإسرائيل
أثار سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة، رون ديرمر، ضجة في مايو/أيار 2021 عندما طالب تل أبيب علنًا بإيلاء أولوية لعلاقتها مع الإنجيليين على اليهود، مبيناً أن الإنجيليين هم «العمود الفقري لدعم إسرائيل في الولايات المتحدة»، على عكس اليهود الأمريكيين الذين تصدر منهم انتقادات لإسرائيل.
وجاءت هذه التعليقات على خلفية الانتصارات السياسية التي حققها ديرمر خلال سنوات خدمته كسفير في واشنطن من 2013 وحتى 2021، اعتمد فيها على المسيحيين الصهاينة خصوصاً في عهد دونالد ترامب، ساعدوا حكومة بنيامين نتنياهو في الضغط على البيت الأبيض من أجل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بدلاً من تل أبيب عام 2017، والاعتراف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية المحتلة عام 2019، إضافة إلى تخفيض أكثر من 200 مليون دولار للتمويل الأمريكي للسلطة الفلسطينية في عام 2018.
وبات من الأهمية بمكان إلقاء الضوء على ظاهرة المسيحية الصهيونية التي انتشرت في أنحاء العالم بشكل كبير، وباتت تحتل مواقع مؤثرة وتمثل مصدراً مهماً لدعم الكيان العبري، فبدلاً من التركيز على الدراسات اللاهوتية المتعمقة، تقدم معظم الكنائس الخمسينية دعوتها بالوعظ التحفيزي والتركيز على الجانب الحركي مما سهل انتشارها.
ويؤكد القس الدكتور إكرام لمعي، المتحدث باسم الكنيسة الإنجيلية وأستاذ علم الأديان، أن تيار المسيحية الصهيونية العالمي مرتبط بمن يحملون عقيدة الملك الألفي التي تقول إن المسيح سيأتي ويحكم لمدة ألف سنة على الأرض، وبعدها تحدث نهاية العالم.
وأضاف في تصريحاته لـ«إضاءات» أن هذا الفكر محصور في كنيسة الخمسينية وكنيسة الإخوة، وكذلك الرسولية، لكن الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت أو الكنيسة المصلحة، لا يؤمنون بذلك بل يؤمنون بأن هذه أشياء روحية، أي أن حكم المسيح على الناس روحي وليس مادياً، فلن يكون حاكماً مثل جو بايدن مثلاً أو غيره، بل يفسرون الكلام الذي يقول إن المسيح سيملك، بتفسير روحي، أما طوائف الإخوة والرسولية والخمسينية فيؤمنون بأنه سيكون حكماً ألفياً على الأرض.
ويؤكد لمعي في تصدير كتابه «الاختراق الصهيوني للمسيحية» أن «الاختراق الخارجي للمسيحية جاء من ناحية اليهود، وازداد وضوحاً في العصر الحديث، وفكرة هذا الاختراق أن بعض المسيحيين في أمريكا وأوروبا أرادوا أن يتبنوا فكرة وجود دولة إسرائيل الحديثة على أساس انها تحقيق لنبوءات الكتاب المقدس، علامة على قرب عودة المسيح إلى الأرض ثانية، ولقد حدث هذا الاختراق بذكاء شديد لكي تتبنى الكنيسة فكرة الدولة الصهيونية».
المسيحية الصهيونية في شرق آسيا
يمثل المسيحيون أقلية في قارة آسيا، وينتشر تيار المسيحية الصهيونية ممثلاً في الطائفة الخمسينية في العديد من الدول في جنوب وشرق آسيا، وفقاً لبعض التقديرات، فإن ما لا يقل عن ثلث مسيحيي آسيا أصبحوا خمسينيين، والنسبة ترتفع باطراد في دول غير مسيحية، فعلى سبيل المثال شهدت الهند التي تضم أغلبية هندوسية ساحقة نمواً هائلاً للكنائس الخمسينية، وتتهم الجماعات الهندوسية في الهند، والجماعات الإسلامية في إندونيسيا، والجماعات البوذية في سريلانكا، الخمسينيين الإنجيليين بالقيام بحملات «تبشيرية» بمساعدة موظفين غربيين والحصول على تمويل غربي.
فقد تجاوزت الدعوة الخمسينية الحدود التقليدية لما يُعرف بـ«حزام الكتاب المقدس» جنوب الولايات المتحدة وانتشرت في مساحات شاسعة في العالم مما أضاف كتلاً بشرية ضخمة إلى عداد داعمي المشروع الصهيوني من خارج الطائفة اليهودية، وضمن تدفق تبرعات هائلة يتم تخصيص جزء كبير منها لتشجيع الهجرة إلى إسرائيل ودعم المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، تحت لافتة العمل الخيري، إذ يعتقدون أن عودة اليهود إلى إسرائيل شرط أساسي لمجيء المسيح وأصبح هذا جزءاً أساسياً في إيمانهم، ومع تقلص قاعدة المتبرعين اليهود يملأ المسيحيون الصهاينة هذه الفجوة التمويلية.
وتعمل منظمات عديدة مثل «الأصدقاء المسيحيون لإسرائيل» على تنظيم هذا الدعم حول العالم فالمنظمة مقرها الرئيسي في القدس المحتلة ولها مكاتب فرعية في جميع أنحاء العالم، ومن بين مشاريعها «الخيرية» التبرع بمعدات واقية لجنود الاحتلال، وتقول شارون ساندرز، التي أسست المنظمة مع زوجها عام 1985 «العالم الآخر الذي انفتح لنا مؤخرًا هو آسيا لا سيما تايوان والصين وسنغافورة واليابان».
ففي كوريا يرأس القس يونج هون لي (Young Hoon Lee)، أكبر كنيسة خمسينية في البلاد (Yoido Full (Gospel Church يؤمها مئات الآلاف من الأتباع ممن يعتنقون الفكر الصهيوني، وقد زار إسرائيل عام 2018 للاحتفال بالذكرى السبعين لإنشاء الدولة اليهودية.
وقد تبنت العديد من الكنائس البروتستانتية الكورية معتقدات الخمسينية، وأدى التوسع في عدد السكان الخمسينيين إلى زيادة المشاركة في السياسة والحياة العامة، وربطتهم علاقات وثيقة مع الرئيس الكوري الأسبق، كيم يونغ سام (1993: 1998)، الذي كان يعتنق المذهب المشيخي البروتستانتي، ومن أصدقاء إسرائيل.
وفي الفلبين، أدى التوسع الكاسح للحركة الخمسينية إلى اعتبار البعض أنها تمثل تحديًا للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها أكثرية السكان، وكانت مقربة من فيدل راموس، أول رئيس بروتستانتي للبلاد، وأصبح الرؤساء يحسبون لها حسابًا، وفي الانتخابات الرئاسية الأخيرة أعلن الخمسينيون أن كل المرشحين أصدقاؤهم على الرغم من أنهم وقفوا بقوة بجانب الرئيس الفائز، بونغ بونغ ماركوس، نجل الديكتاتور فرديناند ماركوس، وشبهه البعض بالمسيح لأنه لم يرد على خصومه الذين اتهموا أسرته بسرقة 300 صندوق من المجوهرات خلال فرارهم من البلاد سابقاً.
المسيحية الصهيونية في إندونيسيا
تعد البروتستانتية إحدى الديانات الست المعتمدة في إندونيسيا، وقد انتشرت في الجزء الشرقي من الأرخبيل الإندونيسي خلال عهد الاحتلال الهولندي، وانتشر الخمسينيون بين البروتستانت وغيرهم من الطوائف، واكتسبت الصهيونية داعمين كثر في هذه البلاد حتى أن أول مسيحي يحصل على جائزة Yakir السنوية كانت امرأة إندونيسية، وهي جائزة تقدمها منظمة جمع التبرعات الإسرائيلية الرسمية United Israel Appeal (المعروفة أيضًا باسم Keren Hayesod)، يشمل مجالها العالم بأسره.
وتم تكريم إندونيسية من المسيحيين الصهاينة لنشاطها المؤثر لدى رجال الأعمال المسيحيين وقادة المجتمع في آسيا، وتنظيم فعاليات لجمع التبرعات «يشارك فيها مئات القادة المؤثرين من إندونيسيا وسنغافورة وتايوان وهونغ كونغ وماليزيا وكوريا الجنوبية وبابوا غينيا الجديدة».
ويُقال إن أكثر الأنشطة التبشيرية المؤثرة في إندونيسيا في القرن العشرين قام بها خمسينيون، ومع تأسيس الدولة الإندونيسية وتوحيد اللغة بين المدن في أنحاء البلاد، لم يكن المبشرون الخمسينيون الذين عملوا في أغلب الأحيان في المدن بحاجة إلى إهدار الوقت والطاقة لتعلم اللهجات المحلية للتواصل مع السكان، واشتهروا بقدرتهم على تجاوز الانقسامات العرقية، لذا فضل العديد من الإندونيسيين الصينيين الخمسينية لأنها تمكنهم من التغلب على الصور النمطية السلبية المأخوذة عنهم.
وشكل هذا الانتشار توطئة للوجود اليهودي الصريح في شرق إندونيسيا، ففي شمال مينهاسا، وهي منطقة تُعرف بأنها معقل للخمسينيين الصهاينة، سمحت الحكومة المحلية بإقامة تمثال شمعدان عملاق (رمز يهودي) عام 2009 بارتفاع 62 قدماً، ربما يكون الأكبر في العالم ، على جبل يطل على مدينة مانادو، وهناك يمكن رصد أعلام إسرائيل على أكشاك سيارات الأجرة للدراجات النارية، وقبل عامين من بناء الشمعدان، رفع رجل أعمال مسيحي تمثالاً ارتفاعه 98 قدماً ليسوع على قمة تل هناك؛ يبلغ حجم التمثال نحو ثلاثة أرباع حجم تمثال المسيح المخلص في ريو دي جانيرو.
كما شهدت المنطقة افتتاح معبد يهودي في عام 2003، وافتتاح أول متحف للهولوكوست في جنوب شرقي آسيا، في اليوم الدولي لإحياء ذكرى المحرقة في 27 يناير/كانون الثاني 2022 بحضور أكثر من 100 شخصية، من بينهم ممثلو الحكومة المحلية والمقاطعات ودبلوماسيون أجانب، وهو ما رفضه مجلس علماء إندونيسيا (MUI)، وهو مجموعة من العلماء الذين يشرفون على الشؤون الإسلامية، طالبوا بإغلاق المتحف.
ومع انتشار المسيحية الصهيونية في إندونيسيا، نمت روابط قوية مع تل أبيب، حتى بلغ عدد من يزورون إسرائيل كل عام نحو 30 ألفاً منهم كجزء من طقوسهم الدينية، على الرغم من القيود المفروضة على التأشيرات التي يتعين عليهم الحصول عليها عبر سنغافورة، إذ غالباً ما يُنظر إلى السفير الإسرائيلي في سنغافورة على أنه مبعوث غير رسمي إلى جاكرتا، ومن المتوقع أن تزداد أعداد الزائرين لإسرائيل مع ظهور روابط جوية أقصر وأرخص عبر الإمارات العربية المتحدة بعد أن تراجعت أعدادهم خلال جائحة كورونا.
وشكلت هذه الرحلات مفتاحاً للضغط على جاكرتا لإقامة علاقات مع تل أبيب على اعتبار أن توتر العلاقات بين الطرفين قد يؤدي لحرمان هذه الأقلية من أداء العبادة في إسرائيل، وأن ذلك يعد انتهاكاً لحقوقها، ففي مايو/أيار 2018، منعت إندونيسيا حاملي جوازات السفر الإسرائيلية من دخول البلاد في أعقاب تصعيد الوضع الأمني في قطاع غزة فردت إسرائيل بالمثل وحظرت إصدار بعض أنواع التأشيرات، فوجهت الناشطة المسيحية الصهيونية، مونيك ريكرز، مناشدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين نتنياهو، لفتح حدوده أمام المسيحيين الإندونيسيين حتى يتمكنوا من زيارة البلاد بحرية، فتجاوب نتنياهو وقال إنه سيعمل على تقوية العلاقات مع جاكرتا، وفي الشهر التالي تراجعت إسرائيل وإندونيسيا عن حظرهما السياحي.
ومؤخرًا أثار وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، احتمال إقامة علاقات رسمية بين إندونيسيا وإسرائيل خلال زيارة إلى جاكرتا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، واحتلت القضية عناوين الأخبار لبعض الوقت، لكن جاكرتا رفضت بقوة، وجاء هذا الموقف مدعوماً بموقف شعبي جارف تقوده مجموعات مدنية قوية ذات خلفيات إسلامية، بخاصة بعد أن أظهر الرأي العام قدرته الكبيرة على التأثير في قضية محافظ جاكرتا السابق، آهوك، الذي كان يتطلع لرئاسة البلاد، وهو بروتستانتي من أصل صيني اتُهم بالإساءة للإسلام وتم سجنه بالرغم من كونه من المقربين للرئيس جوكو ويدودو.
وتتبنى الحكومة الإندونيسية مواقف قوية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية حتى أنها هددت بإلغاء التجارة مع أستراليا إن نقلت سفارتها في إسرائيل إلى القدس، وسبق أن مُنع وزير الخارجية الإندونيسي، مارتي ناتاليغاوا، من الحصول على تأشيرة لزيارة الضفة الغربية في عام 2012 لأنه لن يقوم بزيارة موازية إلى القدس، وفي آذار/مارس 2020 رفضت إسرائيل منح وزيرة الخارجية، مرسودي، تأشيرة لزيارة رام الله، حيث كانت تأمل في افتتاح قنصلية فخرية لدى السلطة الفلسطينية.
وفي عام 2016، عندما قال نتنياهو لمجموعة زائرة من الصحفيين الإندونيسيين، إن أسباب القطيعة مع تل أبيب لم تعد موجودة وطالب بتطبيع العلاقات، أعلن متحدث باسم وزارة الخارجية الإندونيسية رفض طلب نتنياهو، وأكد دعم الدولة لقيام دولة فلسطينية ووبخ الصحفيين لزيارتهم إسرائيل في المقام الأول.
ومن المحتمل أن يظل التطبيع بين جاكرتا وتل أبيب بعيد المنال، وقد لا يحدث بخطوة واحدة بل بخطوات تدريجية مثل تخفيف القيود الاقتصادية والسياحية مع استمرار جهود المسيحيين الصهاينة في هذا الاتجاه.